فلسطين الصامدة والعدالة المتراخية/سلام عبد الصمد
إعداد المحامي الدكتور سلام عبد الصمد*:
أَثبتتْ الحروب الدولية التي عصفت بالعالم مدى حاجة المجتمع الدولي الى إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة، لمنع افلات الكثير من الاعتداءات الوحشية والجرائم ضد الانسانية من العقاب.
وقد بذل المجتمع الدولي جهوداً جبّارة في هذا الإطار لإقامة نظام جنائي فعّال يُطبّق على مستوى دولي، بهدف ملاحقة مرتكبي الجرائم التي تستهدف انتهاك حقوق الإنسان على مستوى عالٍ من الجسامة والخطورة. إذ أنَّ غياب جهاز قضائي دولي، سيؤدّي حكماً الى عدم وجود رادع لدى المجرمين، مما سيدفعهم لارتكاب الكثير من تلك الجرائم وبشكل متكرّر وعلى نطاقٍ كبيرٍ دون خوف من حساب أو عقاب l’impunité.
ونتيجةً لتلك الجهود، اُنشئتْ المحكمة الجنائية الدولية La Cour Pénale Internationale CIP، التي تُمثّل نظام العدالة الجنائية على مستوى الدول، بحيث تُعتبر المحكمة الجنائية الدولية أول محكمة جنائية دولية دائمة، أُسِّست عام 1998 بناءً على معاهدة، لمحاسبة مرتكبي أكثر الجرائم خطورةً على المستوى العالمي، مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية.
وقد شكّل انضمام فلسطين الى المحكمة الجنائية الدولية في الاول من كانون الثاني عام 2015، حدثاً هامّاً في تاريخ العدالة الجنائية الدولية، وذلك ليس على صعيد العلاقات الشرق الاوسطية فحسب، بل على صعيد المجتمع الدولي ككل.
وفي ظل ما تشهده دولة فلسطين حالياً من ارتكاباتٍ واعتداءاتٍ وتجاوزاتٍ لأبسط معايير حقوق الانسان والقانون الدولي ومواثيق الأمم المتّحدّة على يد العدوّ الإسرائيلي، نتساءل عن دور المحكمة الجنائية الدولية، بل عن جدوى وجودها، في ظل غياب أي تحرّكٍ قضائي فعّال، يردع الكيان الإسرائيلي عن أفعاله الجرمية. وكأنَّ ازدواجية المعايير وانتقائية العدالة باتا سمة العالم الحديث.
إذاً، ألا تستحق المجازر التي تُقترف يومياً في فلسطين المحتلّة تدخُّلاً للقضاء الدّولي؟
أليس من واجب الأمم المتحدة تقديم شكوى أمام المحكمة الجنائية الدّولية بحق العدو الإسرائيلي، طبقاً للمادة 15 من نظامها الاساسي؟
نجيب بالتأكيد طبعاً، فالعالم بأسره اليوم، لاسيّما المنظمات الحقوقية، مدعوُّة لتقديم شكوى عن الجرائم التي ترتكبها “اسرائيل” أمام المحكمة الجنائية الدولية، ووضع الجميع أمام مسؤولياته الأخلاقية والقانونية والإجتماعية.
إنّ ملاحقة الكيان الإسرائيلي جنائياً، سيُشكّل خطوةً متقدّمةً على طريق تفعيل مبدأ عدم الإفلات من العقاب. ويجعلُ، بطبيعة الحال، قادة هذا الكيان محلّ مساءلةٍ دوليةٍ وأخلاقيةٍ عن انتهاكاتهم بحق الدّولة الفلسطينية وشعبها وأراضيها، وتقديمهم للمحاكمة على أساس مجرمي حرب Criminels de guerre، توصُّلاً لمعاقبتهم. وهذا ما سيُساهم بتأمين حماية دولية أفضل للشعب الفلسطيني، كما وكلّ الشّعوب المقهورة عبر العالم.
ولكن نعود للسؤال المركزي، والمتمثّل عن سبب تراخي القضاء الدّولي في ملاحقة ومحاكمة الكيان الإسرائيلي وقادته عن جرائمه الخطيرة، والتي ترقى إلى حد الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إرهاب الدّولة. فضلاً عن إنكاره وتجاوزاته للقانون الدولي الإنساني Droit international humanitaire ، اتفاقية جنيف للعام 1949، وصولاً إلى بروتوكولات 1977؟!
هل مردُّ هذا التّراخي الى ضعف العدالة الدّولية؟ أو ازدواجية المعايير والتطبيق double measures double standards ؟
في الواقع، إذا عدنا قليلاً للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يتبيّن بوضوح وجود الكثير من التدابير والإجراءات والنصوص التي تسمحُ بملاحقة الأشخاص الذي يرتكبون المجازر باسم دولهم، كحال الكيان الإسرائيلي؛ وتكفلُ حياة المدنيين، وتمنعُ ترحيلهم عنوةً Transfer من منطقةٍ لأُخرى، كما يحصل في غزة.
وفي هذا الإطار، نرى من المفيد تعريف الجرائم التي تختصُّ المحكمة الجنائية الدّولية للنظر بها، ونضع الرّاي العام الدّولي والعربي أمام مسؤولياته، خاصةً عندما يتحقّقون من انطباق جميع الجرائم الدّولية على أفعال الاحتلال الاسرائيلي.
* الإبادة الجماعية Génocide:
يُقصدُ بها أيّ فعلٍ من الأفعال التي تُرتكبُ بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، كلياً أو جزئياً، ومنها: قتل أفراد الجماعة – إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة – اخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية بقصد إهلاكها الفعلي كليّاً أو جزئياً – فرض تدابير تستهدف منع الانجاب داخل الجماعة – نقل أطفال الجماعة عنوةً الى جماعة أخرى.
*الجرائم ضد الانسانية Crimes contre l’humanité:
ويُقصد بها الجرائم التي تُرتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجّه ضد أيّة مجموعةٍ من السُّكان المدنيين، مع العلم المسبق بوجودهم ومنها: القتل العمد – الإبادة – الاسترقاق – إبعاد السّكان أو النقل القسري لهم – السجن أو الحرمان الشّديد من الحرية البدنية؛ بما يُخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي – التعذيب – الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء أو الحمل القسري أو التعقيم القسري، أو أيّ شكلٍ خطيرٍ آخر من أشكال العنف الجنسي – اضطهاد جماعة لأسبابٍ سياسيةٍ أو عرقيةٍ أو قوميةٍ أو إثنيةٍ أو ثقافيةٍ أو دينيةٍ أو متعلّقة بنوع الجنس أو لأسباب أخري لا يجيزها القانون الدولي – الاختفاء القسري للأشخاص.
*جرائم الحرب Crimes de guerre:
ويُقصد بها الانتهاكات المُسلحة الجسيمة لاتفاقية جنيف للعام 1949، أو أي فعل ضد الأشخاص أو الممتلكات، ومنها: القتل العمد – التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية بما فيها إجراء تجارب بيولوجية – تعمّد إحداث معاناة شديدة أو إلحاق أذى خطير بالجسم أو بالصحة – إلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والاستيلاء عليها من دون أن تكون هناك ضرورة عسكرية تُبرّر ذلك – إرغام أي أسير حرب أو أي شخص آخر مشمول بالحماية على الخدمة في صفوف قوات دولة معادية، أو تعمُّد حرمانه من حق محاكمة عادلة ونظامية – الإبعاد أو النقل غير المشروعين أو الحبس غير المشروع – أخذ رهائن – الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية على المنازعات الدولية المسلحة وفقاً للقانون الدولي، مثل الهجوم المسلح على سكان مدنيين أو مواقع مدنية أو دينية أو علمية أو خيرية، أو تدميرها، أو قتل أو جرح مقاتل استسلم مختاراً، أو إساءة استعمال علم الهدنة أو علم العدو أو شاراته وأزيائه العسكرية أو علم الأمم المتحدة أو شاراتها أو أزيائها العسكرية، أو نقل سكان دولة الاحتلال المدنيين الى الأرض المحتلة وإبعاد سكان تلك الأرض أو تشويههم أو إجراء تجارب عليهم أو إهانة كرامتهم أو اغتصابهم أو تجويعهم أو تجنيد أطفالهم في القوات المسلحة، أو استخدام السموم أو الأسلحة المسممة أو الغازات أو غيرها.
*جريمة العدوان Crime d’aggression:
أما بالنسبة لجريمة العدوان، فلم يتم تحديد تعريف لها أو المقصود بها في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، لكنه نصّ في المادة الخامسة منه على شمول هذه الجريمة ضمن اختصاصها، عندما تتّفق الدول الأطراف على تحديد معناها وشروطها التي يجب أن تكون متوافقة مع ميثاق الأمم المتحدة.
بناءً على كلِّ ما تقدّم،
يُمكننا الجزم بأنّ نظام المحكمة الجنائية الدولية قادرٌ نظرياً، وبشكلٍ عام، على فرض سلطة القانون الدّولي بالقوة، وقادرٌ وبشكلٍ خاصٍّ على وضع يد المحكمة على كلِّ ما يجري في غزة وفلسطين عموماً، إنْ لناحية فداحة الجرائم التي يقترفها العدو الإسرائيلي، أو لناحية أفعاله وتجاوزاته المخالفة للأعراف والقوانين الدولية والأخلاقية.
ولكن تبقى العبرة – ومع الأسف – بالتطبيق!
* أٌستاذ محاضر في الجامعات والمعاهد الحقوقية، ومؤسّس ومدير SALAMAS International Law
“محكمة” – السبت في 2023/11/4