في أزمنة تَعَب الديموقراطية
كتب النقيب عصام كرم:
رئيس جمهورية! أهمّ من مَلِك. لأنّ المَلِك يأتي بالإرث. أمّا رئيس الجمهورية فالبِغسْل الشعبي.إيمّانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي، جاء بدفق شعبي غير منتظَر. لأنّ اليمين انهزم، خُلُّقياً، مع فرانسوا فِيّون الغارق في الدولشي فيتا … من توظيف أهل بيته إلى ثيابه الفاخرة الغالية الثمن يهديه إيّاها محام فرنسي من أصل لبناني إسمه روبير برجي. وكان هذا اللبناني حمل “حقائب” إلى جاك شيراك ودومينيك دوفيللبان. ولأنّ اليسار سقط سقطة شنيعة بهزال الإشتراكي بونوا هامون وبشيء من اللامبالاة عند جاك لوك ميلانشون.
قليلون ارتقبوا فوز فِيّون في ألإنتخابات التمهيدية لـ الجمهوريين. لأنّ الرجل كان شبه ممحوّ يوم كان رئيس حكومة نيقولا ساركوزي. وهذا سَمْتٌ في فرنسا. رئيس الحكومة تِرْس رئيس الجمهورية. يحترق ليضيء أنوار الـ إيليزي. مثله مثْل مانويل فالس، المنضمّ إلى ماكرون، مع فرانسوا هولاند. مع أنّ هولاند، يوم أراد استبدال جان مارك إيرولت، كان بين خِيارين … مانويل فالس أو مارتين أُوبري بنت ميشال روكار. فاختار فالس لأنّ أُوبري قعدت في مقعده في سولفيرينو أميناً عاماً للحزب الإشتراكي. منافسة أدّت إلى انفقاد الودّ.
عدوّنا المال … كان يقول فرانسوا هولاند. لكنّ المال صار حزباً وأنصاراً ومرشّحين. إيمانويل ماكرون كان موظّفاً في مصرف روتشيلد. هذا ماضٍ يلاحقه، ولو هو تنفّض منه. مع أنّ فرنسا تتطلّع إلى الشخص القوي يطلعها من هيمنة الليبيرالية … من الـ نيوليبيرالية الآتية مع العولمة نذيراً بزمن الإنحطاط . سيرة هرطقة … من مرغريت تاتشر إلى أنغيلا ميركل مروراً بـ طوني بلير. كان يُفترض أن يكون القرن العشرون بداية مسيرة حضارية جديدة تكون كفّارةً عن قرن مسختْهُ الحروب. ولكن ما خَلَتْ حضارة من عمق بربري.
إيمانويل ماكرون فرّق بين العدالة والمساواة. فانحاز إلى العدالة لأنّها منصفة أكثر. ألفرنسيون، منذ الثورة، تعلّقوا بالمساواة على أنّها وجه الديموقراطية والحرّية … وما كان في بالهم أنّ المساواة ستُفضي إلى اللامساواة وإلى الـ توتاليتيرية، وهي، في القرن العشرين، صُنوُ الشعبوية في القرن الحادي والعشرين.
هذا التحدّي…هل يجوزه الرئيس الفرنسي؟ سؤال يرفرف فوق الديموقراطية المتعثّرة. كأنّ الديموقراطية تعبت. “زمن الإنكفاء” كتاب جديد صدر في 13 نيسان 2017 وتُرجَم إلى ثلاث عشرة لغة. كُتب بالفرنسية. مؤلّفوه ثلاثة عشر من جنسيات مختلفة. في هذه “العالمية الجامعية” أنّ القرن العشرين تحسّب لأخطار العولمة، تاركاً لهذا القرن تحديد هذه الأخطار. ألديموقراطية تعبت. أتعبتها الـ نيوليبيرالية بجعل الفروقات تتعمّق بين الناس. “زمن الإنكفاء” ينقض مع العالم الذي قام بعد سقوط حيط برلين في سنة 1989. دلالات تعب الديموقراطية كثيرة. مبدأها ظهور حمّى إستثنائية تتوقّد مع تزايُد الصعوبات.الأحزاب عجزت عن استقطاب المحازبين. وإقبال الناخبين على صناديق الإقتراع هزَل جداً. والعجز يواثب الحكومات ويُقعدها عن التولّي المتعافي. والشلل السياسي يقيم حالةً من العقم … من الصدأ في الفكر السياسي. يواكب كلّ هذا شيءٌ من اللاثقة تقود إلى التحرّك الشعبوي. في أُوروبا … يتطلّع نصف الشباب إلى عالم ديموقراطي. فتقوم أُوروبّتان وفرنستان وألمانيتان بمعايير مختلفة عن معايير الأمس . ألخلاف ما عاد خلاف شرق غرب . ولا خلاف شيوعية رأسمال. صار الخلاف أعمق … بين ناس يعتبرون أنفسهم ممثّلين سياسياً وناس محرومين … إلى أن يستقطبهم مرشّح شعبوي. معركة أُوروبا، اليوم، هي معركة بْروسّيل مع الناس الناهدين إلى قول كلمتهم عبر المشاركة لا عبر التمثيل. قولها بالذات لا بالواسطة. حنين إلى الأزمنة القديمة. إلى الديموقراطية الأثينية. في أثينا كانوا يختارون ممثّليهم بالقرعة.
ألديموقراطية لا يصنعها قبول الشعب بالحكم القائم. بمعنى أنّها لا تكون بالعلاقة العمودية بين الحاكم والمحكوم.هي تكون بالمشاركة في التصرّف عبر علاقة أُفقية. والديموقراطية تصير خطِرة عندما يغشى المناقشات ضباب وتحوم فوق سمائها غيمة. وعندما تستبدّ الأعصاب بالنّهى. عندما تقف الشتيمة في مواجهة التطلُّع. عندما يحلّ “تويتير” محلّ النصّ. عندما ينفقد المثال . عندما يحصل التلاعب بالوقائع. وما يحصل عندنا … وفي أميركا مع ترامب … خير دليل.
إنتخابات الرئاسة الفرنسية شابَها مسْحٌ من تعب ديموقراطي يواجه الرئيس الجديد . لعلّه التحدّي الأكبر لساكن الآيليزي ولـ ساكن البيت الأبيض ولكثيرين من سكّان الدُّور الحاكمة. خصوصاً في لبنان. قانون الإنتخاب يصير إلى وهدة المزاح السياسي. وهو … إذا كان … ونكتب هذا في 15 أيّار 2017 ،التاريخ الذي أرادوه حدّاً فاصلاً فكان يوماً مثل سائر الأيّام… فهو، بلغة ناس، قانون الضرورة. وهو قانون الساعة الأخيرة ، بلغة آخرين . وهو، بلغة ثالثة، صكّ الهرب من الإرتجال والعتب والفراغ. لكنّه، بكلّ الُّلغات، لن يكون القانون العادل الذي يستحقّه اللبنانيون.
هو ضحيّة العجز. مثلما الحقيقة ضحيّة الحرب. خان شيخون…ستُكتب عنه حقيقتان. مثلما كُتبت حقيقتان عن “دْريسد” وحقيقتان عن هيروشيما، وخصوصاً عن ناغازاكي … لتظلّ “الحقيقة ” هيولى يسعى وراءها السرابيّون. كمثل الثورة ضدّ المال . وكمثْل ردّة أُوروبا على الإستعمار الفرنسي والإستعمار البريطاني.
* * *
هذا كلّه أحدثه التآفُّف الملحاح من الـ نيوليبيرالية المقتحمة … النزعة التي قال لها “لا” ناخبو دونالد ترامب. فهل أصابوا؟ ما جولةٌ شرق أوسطيّة تكون بمثابة عملية تجميل للرجل الذي يحيّر العالم. وهو … رئيس أميركا… عيّن صهره، جاريد كوشنير، زوج بنته الحبيبة إيفانكا، سفيراً أكبر في الشرق الأوسط. مع أنّ جاريد لا يحمل الماضي الحميد. هو إبن شارل كوشنير الراشي المرتشي، الهارب من الضريبة الموجبة، المحوّل إفادات الشهود إلى شهادات زوْر، الرائي إلى الحشمة كما إلى الضريبة المضافة. ورصانة جاريد … الصهر … بانت عندما وعد بحلّ أزمة الشرق الأوسط في الويك أند. وعندما انشغل الويك أند بأشياء أهمّ أرجأ القضيّة الشرق أوسطية إلى الويك أند التالي. والده تعاطى السياسة في شكل غير شرعي. وهو وإيفانكا ديموقراطيان مقنّعان بتأييد الجمهوري دونالد ترامب القادم إلى الشرق الأوسط ترافقه براغماتية أميركية مثلما يرافقه كلام أُوروبي شبّهه بـ هتلر. وقال فيه إنّه غير كفّي. ألكلام الأوروبي منقول عن كلام الديموقراطيين الأميركيين، خصوصاً في شرق أميركا. هناك يرى الديموقراطيون إلى الجمهوريين حكّاماً أغبياء عرقيّين مهووسين، هكذا قالوا في رونالد ريغين. وهكذا قالوا في جورج دبليو بوش … الكاوبوي المتخرّج من جامعة يال.
* * *
ألفرنسيون خافوا،هذه المرة،من الجبهة الوطنية. كما خافوا، قبل فرانسوا ميتّيران، من اليسار. خافوا وخوّفوا… إلى أن كسر الشعب الفرنسي طوق الخوف وانتخب اليسار … وصار يعتبر انتخاب اليسار شيئاً طبيعياً مألوفاً، ولو انهزم اليسار هزيمة صلعاء في الإنتخابات الرئاسية في 2017. ما أقام الفرنسيون حسبةً وازنة لليمين المتطرّف منذ أسّس جان ماري لوبين الجبهة الوطنية في سنة 1972 من “متعاونين” وبيتانيين ومحتربين على جبهات كثيرة. وهو … جان ماري، والد مارين … دخل الجمعية الوطنية نائباً في سنة 1956 على لائحة بيار بوجاد الورّاق الثائر على الضريبة المتطرّف في عَدائه للغريب وفي عَدائه للبرلمانية حتى … وهو الشوفيني الوطني المتشدّد. فهل يُستغرَب، من بعد، أن ترى مارين لوبين في فلاديمير بوتين بطلها الجديد؟ وهل يُستغرب ألاّ يَستغرِب الفرنسيون بقاءها في الدورة الثانية في الإنتخابات الرئاسية؟.
إيمّانويل ماكرون مدعو إلى سياسة جديدة. إلى ثقافة سياسية جديدة، وفي وعيه أنّ السياسة الفرنسية المتمادية هي هي التي تزيّت ماكنة الجبهة الوطنية … عالمةً بذلك كانت أو تاركة للأيّام أن تقول كلمتها . كأنّها لا تعلم أنّ الحوار الديموقراطي…وكأنّ مَن عندنا يعلمون!… لا يكون بمواجهة معطيات قائمة… بل بإمكان تغيير الموقف والرأي عبر عملية المناقشة الحواريّة!
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 18 – حزيران 2017).