أبحاث ودراسات

في الاجتهاد الحديث لمجلس شورى الدولة الذي نحا بتوسعة رقابته/فرانسوا ضاهر

القاضي السابق والمحامي فرانسوا ضاهر:
شهدنا في السنوات الأخيرة توجهاً في الإجتهاد لدى مجلس شورى الدولة ذهب الى توسعة صلاحياته لناحية أنه فصل بمواضيع ومسائل ليس له الصلاحية الوظيفية القانونية للفصل فيها.
نذكر منها على سبيل المثال المسائل التالية :
1- القرار الذي أصدره مجلس شورى الدولة رقم ٢٠٢١/٢١٣ بتاريخ 2021/2/2 بموضوع وقف تنفيذ تعميم مصرف لبنان رقم ١٥١ تاريخ 2020/4/21 الذي يجيز للعميل المصرفي إستيفاء مبلغ ١٦٠٠ د.أ. شهرياً من وديعته بالعملة الوطنية على سعر صرف قدره ١٥٠٠٠ لل. للدولار الواحد الذي هو أقل من سعر صرفها في السوق الحرّة، ما شكّل إقتطاعاً (haircut) من أصل المبلغ المحوّل، بمقدار الفارق بين سعريّْ الصرف.
غير أن التعاميم التي يصدرها مصرف لبنان والتي تُعنى بعلاقة المصارف مع عملائها، عملاً بنص المادة ١٧٤ من قانون النقد والتسليف، (“للمصرف المركزي صلاحية إعطاء التوصيات واستخدام الوسائل التي من شأنها أن تؤمن عمل مصرفي سليم… وللمصرف المركزي خاصة بعد استطلاع رأي جمعية مصارف لبنان أن يضع التنظيمات العامة الضرورية لتأمين حسن علاقة المصارف بمودعيها وعملائها”) إنما هي من فئة القرارات التي تنال من الحقوق المالية للعميل في علاقته مع مصرفه والتي تخضع لأحكم القانون المدني الخاص، ولا سيما قانون الموجبات والعقود وقانون التجارة وقانون النقد والتسليف، وليس لأحكام القانون الإداري العام الناظم لعلاقة أفراد الحق العام مع المؤسسات والادارات العامة او لكونهم معنيين بمقررات السلطة الاجرائية او بتلك التي تصدر عن الوزراء الذين يؤلفونها. الامر الذي يُخرج الفصل بقانونية تلك التعاميم عن الاختصاص الوظيفي لمجلس شورى الدولة، بشكل مطلق.
هذا فضلاً عن أن أحكم قانون النقد والتسليف لا تتضمن أي نص يُخضع التعاميم المصرفية التي يُصدرها المجلس المركزي لمصرف لبنان للطعن امام القضاء الاداري بل للتحكيم العادي، سنداً لحكم الفقرة الثانية من المادة ١٥٥ من القانون المذكور (” إذا اعترض المصرف صاحب العلاقة على وجهة نظر المصرف المركزي، يبت بالقضية عن طريق التحكيم العادي، وفقاً لقانون أصول المحاكمات المدنية…ويكون القرار التحكيمي غير قابل الاستئناف”).
كما وأنّ تلك التعاميم ليست من فئة القرارات الإدارية التي تصدر عن المؤسسات او الادارات العامة، بل من فئة القرارات الناظمة للعمل المصرفي بحدّ ذاته او لعلاقة المصارف مع عملائها. بحيث تكون، من هذه الزاوية، قابلة للطعن، على وجه العموم، امام القضاء العدلي، في ما لو تعرّضت او نالت او انتقصت من الحقوق القانونية او العقدية المرتبطة بوديعة المودع، وذلك عملاً بحكم الفقرة الأخيرة من المادة ١٣ من القانون المذكور إياه (“لمحاكم بيروت دون سواها صلاحية النظر في جميع النزاعات بين المصرف والغير”).
٢- القرار الذي أصدره مجلس شورى الدولة رقم ٢٠٢٣/١٦٠ تاريخ 2024/4/4 الذي قضى بوقف تنفيذ المرسوم رقم ١٢٨٣٥ تاريخ 2024/1/12 الذي صدر عن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، المعتبرة مستقيلة، والتي تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً، أثناء فترة الشغور الرئاسي الأخير، عملاً بحكم المادة ٦٢ دستور، والذي قضى بممارسة حق ردّ قانون الايجارات للاماكن غير السكنية (كما قانونين آخرين) الى مجلس النواب الذي كان قد أقرّه، وذلك لإعادة مناقشته مجدّداً وإقراره بالغالبية المطلقة من مجموع أعضائه الذين يؤلفونه، عملاً بحكم المادة ٥٧ من الدستور ذاته.
اما في الواقع، إن الفصل بقانونية هكذا مرسوم (الصادر عن حكومة تصريف أعمال التي تتولى صلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً، وقد قضى بردّ قانون الى المجلس النيابي من أجل إعادة مناقشته) إنما تتطلب التعرّض لأحكام الدستور لجهة تفسيرها وتحديد ميدان تطبيقها. الأمر الذي يخرج عن الصلاحية الوظيفية القانونية لمجلس شورى الدولة على وجه مطلق، ويدخل في صلب صلاحية مجلس النواب الذي يعود له أن يفسّر أحكام الدستور حتى يتخذ موقفاً من المرسوم الذي ورد اليه من الحكومة والذي قضى بردّ قانون اليه، كان قد أقرّه، وذلك حتى يُعيد مناقشته.
كما وإن هكذا مرسوم هو من فئة الأعمال الحكومية (actes de gouvernement) التي ترعى وتنظّم العلاقة بين السلطة الاجرائية والسلطة الاشتراعية، عملاً بحكم الفقرة (هـ) من مقدمة الدستور،(“النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها “)، حيث لا مكان لأن يمارس مجلس شورى الدولة رقابته عليها والنظر بقانونيتها من عدمه.
٣- القرار الذي أصدره مجلس شورى الدولة رقم ٢٠٩ تاريخ 2024/2/6 والذي قضى بإبطال فقرة من ” إستراتيجية النهوض بالقطاع المالي” التي أقرّها مجلس الوزراء بتاريخ 2022/5/22 بالمحضر رقم ٣٢ والتي تقول “بإلغاء جزء كبير من التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية تجاه المصارف اللبنانية وذلك لتخفيض العجز في رأسمال مصرف لبنان وإغلاق صافي مركز النقد الأجنبي المفتوح للمصرف”، ما يعني “شطب ديون مصرف لبنان تجاه المصارف”. الأمر الذي يؤدي الى خسارة المودعين لودائعهم، نتيجة عدم إستيفاء المصارف لمديونيتها تجاه مصرف لبنان، بفعل عملية الشطب تلك.
غير أن الخطط المالية التي تقرّها السلطة الاجرائية، هي بطبيعتها، من فئة الأعمال الحكومية التي لا صلاحية وظيفية لمجلس شورى الدولة للنظر فيها. من زاوية أنها تخضع لاعتبارات الملاءمة والتقييم والاحتساب والتصوّر المالي والرؤيا للانتاج الوطني والتوجيه للقطاعات الاقتصادية، التي تعصى على أي رقابة قضائية، بل تخضع حصراً للرقابة البرلمانية من قبل المجلس النيابي.
٤- كما وإن مجلس شورى الدولة أصدر قراراً بتاريخ 2024/1/25 قضى برد طلب وقف تنفيذ القرار الرامي الى تكليف القاضي بلال حلاوي بمهام قاضي التحقيق الاول بالإنابة في بيروت، بالمراجعة التي رمت الى إبطال القرار المذكور، لعدم مراعاته حكم المادة ٣٦ من قانون القضاء العدلي. معتبراً “أن القرار المطعون فيه قد إحترم تسلسل الدرجات، المنصوص عنه في تلك المادة، إذ أن القاضي المكلّف مهام قاضي التحقيق الأول هو الأعلى درجة من بين القضاة الاصيلين، في حين أن القاضي مستدعي المراجعة هو من قضاة التحقيق بالانتداب”.
وإنه بمعرض فصله النهائي في تلك المراجعة بتاريخ 2024/12/19 وقد قضى “بردها لعدم الصلاحية”. إنما دأب على أن يميّز بين “الأعمال العائدة لتنظيم القضاء وتلك المتعلقة بالمسار الوظيفي للقضاة والتي تخضع لرقابة هذا المجلس نظراً لطبيعتها الإدارية، وبين الأعمال المتعلقة بسير المرفق القضائي والتي تخرج عن صلاحيته، كالتدابير التي تختص بتوزيع الاعمال بين القضاة، لكونها ترتبط بسير المرفق العام القضائي”.
غير أن هذا التمييز لمجلس شورى الدولة بين الأعمال التي تختص بالجسم القضائي والذي يجوز له التدخل لمراقبتها وتلك التي تخرج عن صلاحيته الرقابية تلك، إنما يجافي حكم المادة ١٠٥ من قانون نظام مجلس شورى الدولة تاريخ 1975/6/14، التي تقول :”لا يمكن تقديم طلب الابطال بسبب تجاوز حدّ السلطة الاّ ضد قرارات إدارية محضة لها قوة التنفيذ ومن شأنها الحاق الضرر، ولا يجوز في أي حال قبول المراجعة بما يتعلّق بأعمال لها صفة تشريعية او عدلية”.
هذا فضلاً عن أن قانون تنظيم القضاء العدلي تاريخ 1983/9/16 لم يلحظ في أي من مواده، على وجه مطلق وناطق، أن القرارات التي تختص بتسيير العمل في المرفق القضائي، أيّاً تكن السلطة او الهيئة او المرجعية القضائية التي أصدرتها، بأنها تقبل المراجعة امام مجلس شورى الدولة، لأية علة، بما في ذلك، لتجاوز حدّ السلطة.
حتى بات يصحّ القول أن التمييز الملحوظ بين الأعمال القضائية لجهة قابلية بعضها للابطال امام مجلس شورى الدولة دون البعض الآخر، إنما لا يجد أي سند قانوني ليبرّره. سيما وأن قانون القضاء العدلي هو خلوٌ من أي نص وضعي يجيز للقضاء الاداري إتمام رقابته على أعماله. بحيث لم يعد يجد مثل هذا التمييز سنداً، الاّ ذلك المستمد من سلطة الاجتهاد بحدّ ذاته، الذي يسعى الى ترسيخ رقابته على بعض الأعمال الإدارية القضائية. في حين، أنه ليس للقضاء الاداري أية صفة لتقييم قانونية التدابير والاجراءات والقرارات التي يتخذها القضاء العدلي بمعرض تسييره لشؤونه. بخاصة وأنه لا يعلوه مرتبةً.
٥- في المحصّلة، إن هذا التوجه الاجتهادي الحديث لمجلس شورى الدولة، الذي يرمي، في ظاهره، الى الانتصار للصلاحيات المحفوظة لرئيس الجمهورية في شخصه، والى حماية حقوق المودعين على عدة مستويات هامة لهم، والى إتمام رقابته على بعض مفاصل تسيير المرفق القضائي، إنما يفصح، في الواقع، عن رؤية ترمي الى إخضاع قرارات المجلس المركزي لمصرف لبنان، والقرارات التي تصدر عن السلطة الاجرائية ولو أنها من فئة الأعمال الحكومية، كذلك بعض القرارات الإدارية التي تختص بعمل السلطة القضائية، الى رقابته القضائية، بفعل إقرار أسبقيات إجتهادية، لغرض ضبطها وتوجيهها وحتى تقييدها مستقبلاً.
٦- غير أن هذا التوجه يبقى مخالفاً للقواعد الوظيفية الوضعية التي تحكم صلاحية مجلس شورى الدولة قانوناً، والتي هي مرتبطة بالانتظام العام إرتباطاً جوهريّاً وثيقاً. بحيث لا بدّ من تعديله وتصحيحه والخروج عليه. ذلك أن القضاء بكافة أجنحته وإختصاصاته لا بدّ أن يكون مصدر عدالة صافية ومتجرّدة إذا ما استند الى الأحكام الوضعية، وليس مصدر تسلّط إذا ما اجتهد دونما الإرتكاز إليها أو خلافاً لمنطوقها نصّاً وروحاً.
“محكمة” – الاثنين في 2025/4/6

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!