نهاد جبر(نقيب المحامين سابقاً):
العميد ريمون اده، وخلال زيارة قام بها إلى سويسرا سنة 1947، علم بقانون السرّية المصرفية المطبّق فيها، فحاول تمريره في لبنان، إلاّ أنّه لقي معارضة شديدة أوّلها من المدير العام لوزارة المالية آنذاك، الأمير جميل شهاب، الذي لم يكن قابلاً للفكرة، فارتأى العميد تأجيل طرحه لهذا القانون، حتّى سنة 1956، حيث نجح في إقراره في اللجنة النيابية للمال والموازنة ثمّ في الهيئة العامة لمجلس النوّاب، ومن بعده، قصد العميد رئيس الجمهورية الرئيس كميل شمعون لإقناعه بالتوقيع عليه ليصبح نافذاً، بعدما تناهى له أنّ الرئيس شمعون كان سيقوم بردّ هذا القانون.
خلال مناقشته للقانون مع الرئيس شمعون، إستفاض العميد في شرح فوائده وأسبابه، إلاّ أنّ الرئيس شمعون لم يقتنع به، طالباً اقتصاره على الأجانب دون اللبنانيين، فما كان من العميد إلاّ الطلب من الرئيس أن يطلّ من شبّاك القصر الجمهوري في القنطاري ويشاهد الصحافيين الذين اصطحبهم العميد قائلاً للرئيس:”أخشى إنْ رفضت المشروع يا فخامة الرئيس أو حصرته بالأجانب أن أخبر الصحافيين بالأمر، لأنّهم ينتظرون مني أن أدلي بتصريح عن فحوى اجتماعنا وسأقول لهم حرفياً ما أدليت به أمامي فيكتبون غداً ما أوردته عن التجّار اللبنانيين وأنّ هؤلاء رذلاء والأجانب شرفاء وأنّك تفضّلهم على التجّار اللبنانيين.”
إنفعل الرئيس وقال:
” لن أدعهم يكتبون هذا الكلام. حسناً. هات المشروع لأوقّعه من أجل أن تكون مسروراً.”
فصدر القانون ونشر من ثمّ في الجريدة الرسمية في 1956/9/3
– ملخّص عمّا نشر في كتاب:”ريمون اده، جمهورية الضمير” – نقولا ناصيف – ص 156 – 157.
كان لا بدّ من نشر الواقعة أعلاه لتبيان الأسباب الموجبة لهذا القانون وتتلخّص باستفادة لبنان من ضمانات اقتصادية ومالية تساهم في استقراره وازدهاره من خلال جلب الأموال والإيداعات وتحفيز الإستثمارات وهذا ما حصل فعلاً.
كانت الغاية من قانون سرّية المصارف، حماية المودعين من الأفراد وأصحاب الحسابات لدى المصارف، والدليل، أنّ الرئيس شمعون اقترح اقتصار مفاعيله على الأجانب، خلافاً لرأي العميد الذي طلب أن يشمل اللبنانيين والأجانب على السواء، ممّا يعزّز الغاية منه، أنّه وضع من أجل الأفراد دون الدولة ووزارتها ومؤسّساتها وإداراتها وكلّ ما له علاقة بالمال العام.
ومن العودة إلى القانون، يتبيّن أنّ المادة الأولى منه نصّت على أنّه يخضع لسرّية المهنة المصارف المؤسّسة في لبنان على شكل شركات مغفلة، والمصارف التي هي فروع لشركات أجنبية، وذلك لمصلحة زبائن هذه المصارف وفق ما جاء في المادة الثانية منه، ولم ينصّ هذا القانون على استفادة المصرف المركزي منه، كما لم ينصّ على استفادة الدولة ومؤسّساتها وإداراتها ومصالحها وصناديقها وكلّ ما له علاقة بالمال العام، ممّا يفيد أن لا مجال للتحجّج بقانون سرّية المصارف لعدم السير بالتدقيق الجنائي من خلال الشركة المولجة به بقرار من مجلس الوزراء، كما أنّه لا لزوم لتعديل قانون السرّية المصرفية من أجل غاية التدقيق.
لم يكن القصد من قانون السرّية المصرفية أن يطال الدولة بكامل أجهزتها حتّى يؤخذ حجةً لعدم السير بالتدقيق الجنائي قبل تعديله أو إلغائه، بحيث كان من الممكن تسهيل مهمّتها حتّى إذا ما طال هذا التدقيق أفراداً، يصار عندها إلى طلب رفع السرّية عن هؤلاء تطبيقاً لقانون الإثراء غير المشروع الصادر بالمرسوم رقم 38 تاريخ 1953/2/18 والموضوع بناء لاقتراح العميد اده أيضاً، والمعدّل بالقانون رقم 154 تاريخ 1999/11/27 عملاً بالفقرة 3 من المادة 13 منه التي نصّت:
“يطبّق قاضي التحقيق أو المحكمة المختصة أحكام المادة السابعة من قانون سرّية المصارف الصادر بتاريخ 1956/9/3”
ونصّت المادة 7 من قانون سرّية المصارف:
“لا يمكن للمصارف أن تتذرّع بسرّ المهنة بشأن الطلبات التي توجّهها السلطات القضائية في دعاوى الإثراء غير المشروع …”
يتضح ممّا تقدّم، أنّ التدقيق الجنائي في كلّ مصالح الدولة وإداراتها وأجهزتها وصناديقها ومؤسّساتها الخاصة والعامة، بما فيها المصرف المركزي جائز قانوناً بفعل القوانين الموجودة والتي لا طائل من تعديلها أو إلغائها لأجل هذه المهمّة.
أمّا القطاع المصرفي في لبنان، من خلال عملياته ومعاملاته مع المودعين، لبنانيين وأجانب، أفقد ثقة هؤلاء به، ومن الصعب، إنْ لم يكن مستحيلاً، إستعادة هذه الثقة، ما لم تعاود المصارف إيفاء حسابات المودعين لديها، وإعادة أماناتهم لهم، الأمر المتعثّر منذ فترة حتّى تاريخه، فهل أنّ تعديل أو إلغاء قانون سرّية المصارف، الذي ساهم بجلب الإيداعات والإستثمارات وكان سبباً لازدهار لبنان، سيعيدُ هذه الثقة أو أنّه سيفقد ما تبقّى منها على ضآلته؟
أمّا أصحاب الودائع في المصارف، من لبنانيين وأجانب، فودائعهم أمانة لدى المصارف وهي المسؤولة عن إعادتها لهم، أصلاً وفوائد، بالتكافل والتضامن مع أعضاء مجالس إداراتها والمساهمين فيها، الذين لا يمكنهم التحجّج بعمليات قاموا فيها، ولو بقي التدقيق ساري المفعول وطالهم، لكانوا أحيلوا إلى قاضي التحقيق أو المحكمة المختصة لتطبّق عــليهـــــــم أحكام المادة السابعة من قانون السرّية المصرفية عملاً بالفقرة 3 من المادة 13 من القانون رقم 154 الصادر بتاريخ 1999/11/27.
وما الخلافات حول مدى تطبيق قانون السرّية المصرفية ليست الغاية منها سوى عرقلة وتأخير أو تطيير التدقيق الجنائي للتهرّب من حقيقة ما قد يسفر عنه هذا التدقيق الذي هو الوسيلة وربّما الوحيدة التي تؤدّي إلى كشف مكامن الفساد في لبنان، وهذا ما حصل فعلاً نتيجة إنهاء الشركة المكلّفة به لعقدها مع الدولة، ممّا أعاد الأمور إلى نقطة الصفر، ممّا يوجب تكليف شركة جديدة بمهمّة التدقيق عملاً بقرار مجلس الوزراء بهذا الخصوص، وحتّى اتخاذ القرار هذا، إنّ الرابح والمستفيد من هذا الانهاء هم من عرقل مهمّة التدقيق بذرائع مختلفة، والخاسر الوحيد هو لبنان،
حماه الربّ من الأعظم.
“محكمة” – الأحد في 2020/11/22