في مدى قانونية التمديد لقائد الجيش/جهاد اسماعيل
الدكتور جهاد اسماعيل*:
أمّا وقد شارفت «الولاية القانونية» للعماد جوزيف عون على الانتهاء، جرّاء بلوغه السن القانونية في كانون الثاني المقبل، تُطرح، اليوم، إشكالية التعامل مع الوضعية الجديدة لجهة مدى إمكانية تأخير التسريح بقرار صادر عن وزير الدفاع أو عن مجلس الوزراء، أو لجهة إمكانية إقرار مجلس النواب قانوناً يجيز التمديد لقائد الجيش، عملاً بالسوابق الّتي حصلت هنا أو هناك. لكن في قراءة متأنّية للنصوص، يتّضح أن هذه السوابق غير سليمة، ولا تبرّر، بالتالي، العمل بفحواها مجدداً، للأسباب الآتية:
أولاً، لناحية التمديد بقرار وزاري:
يستند البعض إلى المادة 55 من قانون الدفاع الوطني، ١٠٢/١٩٨٣، للتمديد لقائد الجيش بقرار صادر عن وزير الدفاع، والّتي جرى الارتكاز عليها غداة التمديد لقائد الجيش السابق العماد جان قهوجي. وهذا الاستناد، برأينا، غير صائب، لسببين:
1- تنصّ المادة 55 على أن «يؤجل تسريح المتطوّع ولو بلغ السن القانونية في الحالات الآتية:
أ – إذا كان في وضع اعتلال (عذر صحّي)،
ب – بناءً على قرار وزير الدفاع الوطني المبني على اقتراح قائد الجيش في حالات الحرب أو إعلان الطوارئ أو أثناء تكليف الجيش بالمحافظة على الأمن.
وهذا النصّ يقودنا، بمقتضى الحال، إلى نتائج ثلاث:
الأولى: تأجيل التسريح، وفق منطوق المادة أعلاه، يعني تأخير مدة التسريح من أجلٍ إلى آخر، واستطراداً تعليق مفعول تعيين قائد جديد، ما يؤدي إلى تقييد صلاحيات السلطة التنفيذية في حق التعيين الذي أولاها إيّاه الدستور، في المادة ٦٥، وتالياً إلى سموّ القانون على الدستور لا العكس، ما يهدم التراتبية الحقوقية، من دون أن يمنح هذا السياق الحق لمجلس الوزراء في التمديد بمرسوم وإلغاء الحُكم الّذي يتطلّبه نصّ المادة ٥٦ من قانون الدفاع الوطني الصادر عام ١٩٨٣ لجهة شرط السن القانونية المطلوبة للعماد وهو ستون عاماً، بينما القانون يسمو على المرسوم.
الثانية: تشير الحالة الثانية من الحالات الموجبة لتأجيل التسريح إلى وجوب صدور قرار عن وزير الدفاع بناءً على اقتراح قائد الجيش. وهذه الإشارة، أي في اقتران القرار الوزاري باقتراح قائد الجيش، تؤكد على استبعاد نيّة المشرّع قائد الجيش من نطاقها، بدليل أن منطوق المادتين ٤٦ و٥٧، وغيرهما من المواد، اشترط، في لحاظ التطويع والتسريح للرتباء والأفراد على سبيل المثال لا الحصر، اقتراح قائد الجيش، ظناً من المشرّع أن هذا الشرط يشكّل انتفاءً لأيّ مصلحة ذاتية للقائد، وجوازاً في اعتبار «قائد الجيش» السلطة المختصة في اقتراح ما لا يخصّه شخصياً، وإدراج كلّ ما يتعلّق بذاته من اختصاص سلطة محايدة هي، في معظم الأحيان، مجلس الوزراء لا القائد نفسه، بما ينسجم مع المنطق الطبيعي للأمور.
الثالثة: وقوع الحرب أو إعلان الطوارئ أو تكليف الجيش المحافظة على الأمن سببٌ موجب لتأخير التسريح. ويمكن الجزم، والحال هذه، بأن هذه الحالات غير قائمة ولا سيما حالة «تكليف الجيش بحفظ الأمن». وبالتالي، إنّ الارتكاز على مرسوم صدر عام ١٩٩١ لحفظ الأمن في كلّ الأراضي اللبنانية في غير محلّه القانوني، ذلك أن المادة الرابعة من القانون نفسه تشترط، عند تعرّض الدولة لأعمال ضارّة بسلامتها، تكليف الجيش بمرسوم لمدة محدّدة وتمدّد عند الاقتضاء بالطريقة ذاتها، في حين أن المرسوم، المشكوك في صحته أصلاً، قد عُلّق بمرسوم آخر، رقم ٧٩٨٨، وانتهت مدة نفاذه في ٣١ أيار ١٩٩٦، وبعد ذلك صدر مرسوم، رقم ١١٢٦٩ ، عام ١٩٩٧، قضى بتكليف الجيش المحافظة على الأمن في بعلبك – الهرمل لمدة ثلاثة أشهر، ما يعني أن مفعول هذا المرسوم قد حُصر في منطقة معيّنة، وفي مدة محددة يؤدي سقوطها أو زوالها إلى انتهاء مفاعيله.
يستشفّ من ذلك عدم جواز التكليف لمدة مفتوحة ومطلقة، ما دام الدافع لاتخاذ مرسوم كهذا قد تبدّد بزوال الأعمال الضارّة بسلامة الدولة بحسب المادة ٤ من القانون.
2- أمّا السبب الثاني الّذي لا يبرّر صدور التمديد بقرار وزاري، أي بقرار صادر عن وزير الدفاع وحده، فيُعزى إلى أن أحد شروط تأخير التسريح، وهو تكليف الجيش بحفظ الأمن بمرسوم كما أسلفنا، غير نافذ تبعاً لسموّ القانون على المرسوم، باعتبار أن هناك نصوصاً واضحة أوكلت وزارة الداخلية وقوى الأمن الداخلي، من خارج حالة الطوارئ أو الحالات الاستثنائية، مسؤولية الحفاظ على الأمن، وتحديداً:
– المادة ١٢ من قانون الدفاع بنصّها: «تقع مسؤولية حفظ الأمن الداخلي على عاتق وزير الداخلية مع مراعاة الأحكام التي نصت عليها القوانين الخاصة»،
– المادة الأولى من قانون تنظيم قوى الأمن الداخلي، (القانون رقم 17 صادر في 1990/9/6) بنصّها على أن قوى الأمن الداخلي هي «قوى عامة مسلحة تشمل صلاحياتها جميع الأراضي اللبنانية والمياه والأجواء الإقليمية التابعة لها». أما مهماتها، فيحددها القانون بـ«حفظ النظام وتوطيد الأمن، وتأمين الراحة العامة، وحماية الأشخاص والممتلكات، وحماية الحريات في إطار القانون، والسهر على تطبيق القوانين والأنظمة المنوطة بها».
هذان النصّان يبيّنان الدور الّذي اختزلته الحكومات المتعاقبة، والمُعطى، أساساً، وفي الظروف الطبيعية، إلى قوى الأمن الداخلي، وتقييده، استثناءً، وفي الظروف الاستثنائية حصراً، لمصلحة الجيش، بما يؤدي إلى طغيان الاستثناء على القاعدة كما يحصل في الوقت الحاضر، لكن لا يلغيان، من الناحية الواقعية، الحقيقة الّتي تقول إنه كانت للجيش وظيفة مهمة في حماية أمن المواطنين بقدر إمكاناته، وخصوصاً في الآونة الأخيرة.
ثانياً، لجهة التمديد بقانون: صفة التجديد والعمومية من خصائص القاعدة القانونية، وتعني أن القاعدة لا تخاطب شخصاً معيّناً بذاته أو واقعة محددة. فالقاعدة، أصولاً، يجب أن تشير إلى الشروط والأوصاف، عندئذ يجوز تطبيقها على أشخاص محددين أو وقائع معيّنة إذا ما اجتمعت فيهم الصفات المطلوبة في متن القاعدة.
وعلى ذلك، إن إقرار قانون يمدّد ولاية قائد الجيش بعينه غير جائز بذاته، كونه يخالف صفة التجريد والعمومية، لكن يمكن تعديل السن القانونية للضباط المشمولين في المادة ٥٦ من قانون الدفاع الوطني، حينها تشمل قائد الجيش مستقبلاً وسائر العسكريين الضباط، فتتحقق، عندئذٍ، صفة التجديد والعمومية، شريطةً ألا يكون هذا التعديل في صيغة «لمرة واحدة» كما حصل في مرّات عديدة، فهذا تطويعٌ للالتفاف على النصوص والخروج عن أحكامها بذريعة الفراغ.
ويعزّز هذا المنحى من التحليل ما جاء في قرار المجلس الدستوري، رقم 2017/2 بنصّه «يجب أن تتوافر في القانون شروط التجرّد والعمومية وأن لا يكون شخصياً، على الرغم من تناوله فئة محددة من المواطنين».
ثالثاً، لجهة تعيين بديل في مجلس الوزراء:
لمّا كان مجلس شورى الدولة، في قرارات مختلفة، ولا سيما قرار رقم 2015/349، قد أشار إلى انعكاس مدة ولاية حكومة تصريف الأعمال على مفهومها وصلاحياتها، عندما أكّد بأن نظرية تصريف الأعمال هي نظرية مُعَدّة للتطبيق خلال فترة زمنية محدَّدة انتقالية يجب أن لا تتعدى الأسابيع أو حتى الأيام. وإنّ تمدُّدها لفترة أطول لا بدّ أن ينعكس على مفهومها برمّته حتى يستطيع تحقيق الهدف منها وهو تأمين استمرارية الدولة ومصالحها العامة ومصالح المواطنين،
ولمّا كان قانون الدفاع الوطني، 83/102، وخلافاً لما يراه البعض، لا يقدّم بديلاً أو آليّة لانتقال مهام قيادة الجيش عند الشغور إلى جهة معيّنة على خلاف ما هو سائد في قانون النقد والتسليف وذلك بالإجازة لنائب الحاكم في ممارسة مهام الحاكم ريثما يعيّن البديل، إذ إنّ المادة ٢١ من قانون الدفاع الوطني أجازت لرئيس الأركان ممارسة صلاحية قائد الجيش عند غياب الأخير لا عند الشغور، والفرق واضح ما بين الأمرين، فالغياب يحصل عندما يكون شخصٌ ما في موقع المسؤوليّة إنما تعذّر حضوره، مؤقتاً، لدواعٍ معيّنة (السفر، المرض، الإجازة…). أما الشغور فيتحقق حين خلاء موقع معيّن لأسبابٍ تؤدي إلى انتفاء الحضور، نهائياً، إلى هذا الموقع بقوة القانون (انتهاء الولاية، الاستقالة، الإقالة…)، وهذا التفريق يجد مرتكزه أو قياسه في قوانين متفرقة، عامة وخاصة، ومن شأنه أن يؤول إلى تحقق شرط العجلة أو الضرورة الّذي كان معياراً للاجتهاد والفقه في توسيع صلاحيات حكومة تصريف الأعمال وجواز اتخاذها، في الظروف الاستثنائية، قرارات تصرّفيّة إما حفاظاً على النظام العام والأمن الداخلي والخارجي، وإما حمايةً لأعمال إدارية يجب إجراؤها في مهل قانونية معيّنة تحت طائلة السقوط، في ظل الشغور في رئاسة الأركان.
لذلك، يجوز للحكومة الحالية اتخاذ قرار تعيين قائد جديد فور انتهاء ولاية القائد الحالي حصراً إن بقيت فترة تصريف الأعمال على حالها، وسط حالة انتفاء البديل أو الوكيل بموجب قانون الدفاع الوطني، إلا بتدخّل الحكومة، ما لم يجرِ التمديد للعماد جوزيف عون بقانون في مجلس النواب ضمن المنهجية القانونية والدستورية الملائمة.
* باحث دستوريّ وأستاذ جامعي في القانون العام. نشر هذا المقال في جريدة الأخبار.
“محكمة” – الاثنين في 2023/9/4