قبل قضيّة المطران الحاج توجد قرارات قضائية بملاحقة رجال دين مسيحيين جزائيًا بينها قرار للقاضي مزيحم/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
هل يحقّ للقضاء اللبناني سواء أكان عدليًا أم عسكريًا، ملاحقة رجال الدين المسيحيين تحديدًا عند ارتكابهم جرمًا جزائيًا ما، لا يتعلّق بوظيفتهم الكنسية، أم أنّ الصلاحية منوطة حصريًا بقانون طائفتهم المعترف به من الدولة اللبنانية؟
وهل يتقدّم القانون الكنسي على القوانين اللبنانية المرعية الإجراء عند اقتراف رجال الاكليروس بغضّ النظر عن رتبتهم الدينية بين راهب وارشمندريت وقسيس وأسقف ومطران، جرمًا جزائيًا منصوصًا عليه في قانون العقوبات اللبناني مثل القتل والاحتيال والتزوير وإساءة الأمانة والاغتصاب والتعامل مع العدوّ الإسرائيلي والشيك بدون رصيد والقدح والذمّ، أم أنّ الإختصاص الوظيفي يقع في صلب عمل وواجب القضاء اللبناني أسوة بما ينفّذ في حالات مماثلة على رجال الدين المسلمين عند ارتكابهم الجرائم المشار إليها أعلاه والواردة ضمن قانون العقوبات اللبناني؟
وهل يتقدّم القانون الكنسي على القوانين اللبنانية في التنفيذ في الجرائم الجزائية المقترفة من رجال الدين على الأراضي اللبنانية؟ وهل يحقّ للبابا في الفاتيكان أن يتدخّل في الدستور اللبناني أو في قانون العقوبات أو في قانون النقد والتسليف مثلًا في حال خرق أحكامه من قبل رجل دين مسيحي؟ ألا يرتبط الأمر بسيادة الدولة؟
لقد افتُعل ضجيج إعلامي وسياسي حول واقعة إصرار مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية الدائمة بالإنابة القاضي فادي عقيقي على تنفيذ القانون بحذافيره، بملاحقة رئيس أساقفة أبرشية حيفا والأراضي المقدّسة المارونية والنائب البطريركي في القدس والأراضي الفلسطينية والمملكة الأردنية الهاشمية المطران موسى طانيوس موسى الحاج، بعدما ضبطت المديرية العامة للأمن العام بحوزته عند معبر الناقورة الحدودي مع فلسطين المحتلة إثر عودته من زيارة رعوية، حقائب محمّلة بالأدوية والأموال مرسلة معه من عملاء ميليشيا أنطوان لحد الفارين إلى فلسطين المحتلة منذ هروبهم من الملاحقة القضائية أمام القضاء العسكري اللبناني بعدما قاتلوا لسنوات خلت إلى جنب القوّات الإسرائيلية خلال احتلال مناطق لبنانية من جنوبه وبقاعه الغربي بين العامين 1978 و2000.
وصدرت مواقف روحية وسياسية وحزبية وحقوقية من كلّ حدب وصوب، لم تقارب الموضوع من زاوية قانونية بحتة كما يفترض أن يحصل لأنّه الحدّ الفاصل بين الحقّ والباطل، بل على العكس تمامًا، طغى الإستثمار السياسي مع إلقاء كمّيات كبيرة وكثيرة من التهويل على القضاء العسكري يعاقب القانونُ بدوره مطلقيها، ولكن من دون جدوى، ذلك أنّ المنطلق الأساس هو أنّ كلّ لبناني سواء أكان رئيسًا للجمهورية أو وزيرًا أو نائبًا أو مديرًا عامًا أو موظّفًا أو قاضيًا أو محاميًا أو مواطنًا عاديًا تحت القانون ويخضع للقوانين عند إتيانه جرمًا ما حتّى ولو كانت لديه حصانة ما، وإلّا فإنّ الفوضى تسود العلاقات الاجتماعية والاقتصادية وحياة اللبنانيين وتتحوّل دولتهم حتّى ولو لم تكن مترهّلة وضعيفة ومثخنة بالجراح، إلى مزرعة.
وما زاد الأمور تعقيدًا أنّ بعض المعترضين على ملاحقة المطران الحاج من جديد بعد مرّة أولى في أواخر العام 2021 وامتدادًا حتّى شهر أيّار 2022، إستندوا إلى قرار صادر عن قاضي التحقيق العسكري الأوّل بالانتداب فادي صوان في 5 أيّار 2022، ذهب فيه بخلاف ما استقرّ عليه المنطق القانوني المتبع في القضاء العدلي حيث تمّت ملاحقةُ غير رجل دين مسيحي، واعتبر الإختصاصُ للقضاء العدلي.
غير أنّ صوّان لم يكلّف نفسه عناء البحث والتدقيق والإستفسار والسؤال كما يفعل كلّ القضاة عندما تصادفهم نقطة قانونية دقيقة أو جديدة، وارتجل قرارًا غير مدروس خلص فيه إلى إعلان عدم صلاحية القضاء العسكري لملاحقة المطران الحاج نفسه في دعوى مرتبطة بعسكري في الجيش اللبناني لوحق بجرم التواصل مع عملاء العدوّ بعدما استلم من الحاج مبلغًا ماليًا مرسلًا إليه من المدعوة ليلى مطر التي تحمل الجنسية الإسرائيلية وتتعامل مع جهاز “الموساد” ومتزوّجة من لبناني كان في صفوف ميليشيا لحد.
واستند صوّان في اعتبار القضاء العسكري غير مختص، إلى المادة 1060 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقية الصادرة عن الفاتيكان سنة 1990 والنافذة في لبنان منذ سنة 1991 والتي تمنح البابا في الفاتيكان حقّ محاكمة الأساقفة الملاحقين في قضايا جزائية كما ورد حرفيًا في متن قراره المذكور.
ومن يقلّب سجّلات القضاء العدلي وإنْ كانت غير ممكننة، يعثر على ما يناقض ما ذهب إليه صوان، ويؤكّد أنّ القضاء اللبناني مختص لملاحقة رجال الدين المسيحيين عند ارتكابهم جرمًا جزائيًا، وها هو القاضي ماجد مزيحم يوم كان في مركز قاضي التحقيق في بيروت يرفض أن يوقف التحقيق في دعوى تزوير في سجّلات الزواج المحفوظة لدى رعية إحدى الكنائس، بناء على دفع شكلي يطلب فيه الوكيل القانوني لأحد رجال الدين المسيحيين وقف التحقيق إلى حين صدور قرار عن المرجع الكنسي المختص، وكأنّ لقرار هذا المرجع الكنسي الأفضلية في التطبيق على القوانين اللبنانية.
ولم يكتف مزيحم بردّ الدفع الشكلي والإصرار على متابعة عمله كمحقّق استنطاقي من النقطة التي وصل التحقيق إليها، بل أعطى تعليلًا قانونيًا مميّزًا ومدروسًا يظهر فيه أسباب رفض وقف التحقيق، وفي طليعتها أنّ الأمر يتعلّق بسيادة الدولة فلا تجوز أن تتقدّم القوانين الناظمة للأحوال الشخصية لدى الطوائف على القوانين الجزائية اللبنانية وإلّا فإنّ ذلك في حال حصوله “يؤدّي إلى الاعتراف بعدّة كيانات لها مظاهر الدول ضمن الدولة الواحدة وهذا ما يتعارض مع الدستور اللبناني”.
وأكّد مزيحم أنّ منح المراجع الكنسية حقّ مساءلة الرهبان عند اقترافهم فعلًا يتعارض والقانون، واتخاذها تدابير مسلكية وتأديبية بحقّهم، لا يمنع ملاحقتهم جزائيًا متى كانت عناصر الجرم متوافرة.
وقال مزيحم في متن قراره الصادر في العام 2001 وتنشره “محكمة”، إنّه إذا كانت قوانين الأحوال الشخصية قد حفظت لكلّ طائفة صلاحية تنظيم أمور رعاياها لهذه الناحية، وأوجدت هيئات قضائية تتولّى البتّ بالمنازعات ذات الطابع الشخصي، فإنّ هذه القوانين اقتصر مفعولها على تنظيم الأحوال الشخصية لرعايا كلّ طائفة من نواحي الزواج والإرث والوصاية والوصية والأمور الدينية البحتة، ولم يمتد مفعولها ليطال مسألة النظر في الأفعال الجرمية التي ترتكب لدى تلك الهيئات القضائية على فرض وجودها.
وحيث إنّ تطبيق أحكام قانون العقوبات والقوانين الجزائية الأخرى يرتبط بسيادة الدولة، وإنّ هذه الأخيرة لم تتنازل عن هذا الأمر لصالح الطوائف، بل إنّها احتفظت للقضاء العدلي بصلاحية النظر في الجرائم المرتكبة على أرضها، وإنّ القول بعكس هذه الوجهة يؤدّي إلى الاعتراف بعدّة كيانات لها مظاهر الدول ضمن الدولة الواحدة وهذا ما يتعارض مع الدستور اللبناني.
وحيث إنّه إذا كان القضاء الجزائي يتوقّف أحيانًا عن النظر في المسائل المعروضة عليه في ما إذا تبيّن أنّ هناك قضيّة معترضة، تتعلّق بالأحوال الشخصية، فإنّ هذا محلّه عندما يكون قيام الجرم أو عدمه يرتبط بمسألة تتعلّق بالأحوال الشخصية يعود أمر البتّ بها للمحاكم الناظرة في الأحوال الشخصية، وهذا ما هو غير متوفر في هذه القضية المعروضة أمامنا التي تتناول مسألة تزوير ادعت المدعية أنّه حصل في قيود وسجّلات الكنيسة دون أن يكون هناك أيّ علاقة مؤثّرة للأحوال الشخصية الكنسية لذوي العلاقة بمسألة قيام التزوير أو عدمه.
وحيث إنّه إذا كان القانون الكنسي ولا سيّما القانون /1224/ قد أعطى للقاضي الكنسي حقّ التثبّت ممّا إذا كانت سجّلات الكنيسة تتضمّن حكمًا أو تصليحًا أو تحشية والتثبّت من مقدار الثقة التي تتمتّع بها تلك السجّلات، فإنّ هذا محلّه في الأمور الداخلة في اختصاصه لناحية الأمور الرعوية والمتعلّقة بالأحوال الشخصية للرعايا ولا يمتدّ إلى المسائل التي تنطوي على جرم جزائي على فرض وجوده، سيّما وأنّه أمام القاضي الجزائي لا يكون الإثبات مقيّدًا بأيّ قيد.
وحيث إنّه أضف إلى ذلك، إذا كان القانون الكنسي أعطى بعض المراجع الكنسية حقّ مساءلة الرهبان واتخاذ التدابير الزجرية بحقّهم عندما يرتكبون عملًا مخالفًا للقانون، فإنّ هذه التدابير لا تعدو كونها عقوبات مسلكية وتأديبية لا تحول دون الملاحقة الجزائية في ما إذا توفرت عناصرها.
وحيث إنّه تبعًا لكلّ ما تقدّم يكون الدفع بعدم الصلاحية، في غير محلّه القانوني ومستوجبًا الردّ.
“محكمة” – الثلاثاء في 2022/8/2