أبحاث ودراسات

قراءة دستورية للنظام اللبناني المأزوم عند تأليف الحكومات/جاد طعمه

المحامي د. جاد طعمه:
(القفز الدائم فوق النصوص الدستورية لمصلحة قواعد الميثاق الوطني)
مقدمة:
النظام السياسي اللبناني بات مرادفا لهدر الوقت الثمين لا سيما في ظل وجود تعقيدات كبيرة تكمن أسبابها في وجوب مراعاة التوازنات الطائفية ذات الأبعاد السياسية وهي التي فرضت احترام مضمون الميثاق الوطني (الذي يعتبر دستورا رديفا) تشكل قواعده غير المكتوبة أساسا في توجيه بوصلة انتظام المؤسسات في البلاد.
اذا الدستور اللبناني لا يرتكز على النصوص المكتوبة الواردة فيه حصرا لأن واجب التوافق الطائفي ركن أساسي لصحة التمثيل والتعيين وهو مكمن الداء في كل الاشكاليات الحاصلة في لبنان لا سيما اذا ما تحدثنا عن كل تأخير يعاني منه الشعب اللبناني عند وجود استحقاقات دستورية ووطنية.
بعد ابرام اتفاق الطائف وجدت “الترويكا” بداية لتسيير أمور البلاد دون اغفال دور الوصاية السورية في فرض الحلول. وبعد الانسحاب السوري استقر الأمر على اقرار عرف سياسي جماعي دستوري يحترمه الجميع تحت مسمى ظاهري جذاب هو مبدأ “الديمقراطية التوافقية” الذي من خلاله تتم عمليات توزيع المناصب الرئيسية وفقا للتركيبة الطائفية للبلاد والحصص ما بين أهل السلطة، لذلك وجدنا ان استحقاقات انتخاب رؤساء الجمهورية وتأليف الحكومات المتعاقبة دون اغفال مراسيم التشكيلات القضائية والتعيينات في الادارات والمؤسسات العامة هي عمليات بالغة التعقيد وتتسم بالهدر الكبير للجهد والوقت.
في هذا الإطار، لا بد من استعراض قراءة دستورية للنظام اللبناني المأزوم مع تضمين الدراسة مقاربات مع حالات تاريخية توضح المواقف الدستورية والواقعية المرتبطة بتشكيل الحكومة بعد انتخاب رئيس الجمهورية.
1- الدور الدستوري لرئيس الجمهورية في لبنان.
وفقا للمادة 53 من الدستور اللبناني، رئيس الجمهورية هو المسؤول الأول عن تسمية وتكليف رئيس الحكومة بعد اجراء الاستشارات النيابية الملزمة. هذا التكليف يُعد الخطوة الأولى في المسار الطويل لتشكيل الحكومة في لبنان. الاشكالية الدستورية الأولى التي تطرح في هذا الصدد تكمن في الاجابة على سؤال جوهري: هل يمتلك رئيس الجمهورية اللبنانية المنتخب من نواب الأمة اللبنانية كامل الحرية لاختيار الشخص الذي يرغب بالتعاون معه في السلطة التنفيذية أم أنه ملزم بتكليف الشخصية التي نالت العدد الأكبر من الأصوات من الكتل النيابية خلال الاستشارات التي أجراها ؟ وهل هذه الاستشارات النيابية الملزمة لرئيس الجمهورية هي بمثابة المذاكرة السرية بينه وبين النواب أم أنه يستقيم خروج كل نائب أمام الاعلام وفضح مضمون الرأي الذي أعطاه إلى فخامة رئيس الجمهورية ؟ وهل التصريحات الاعلامية للنواب بعد اعطاء المشورة لرئيس الجمهورية هي مجرد هرطقة دستورية أنتجها أصحاب الحنكة السياسية من أجل احراج رئيس الجمهورية اللبنانية ؟
المادة 53 تنص على:
“رئيس الجمهورية يعين رئيس الحكومة بناء على الاستشارات النيابية الملزمة.”
درجت العادة أنه وفي سياق تطبيق هذه المادة، فان التوافق الطائفي داخل مجلس النواب الذي يتم الاعلان عنه يشكل عنصرا رئيسيا في تحديد شخصية الرئيس المكلف بتأليف الحكومة اللبنانية. وهذا السلوك الاعلامي ينتج عنه حين يكون هناك كباش سياسي بين الكتل النيابية حول الشخصية التي ستتولى منصب رئاسة الحكومة تعثرا يدفع ضريبته الوطن لعدة أشهر كما حدث في حالات سابقة في تاريخ لبنان.
الجدل حول مدى التزام رئيس الجمهورية بنتيجة الاستشارات، طرح التساؤل عن مدى احترام موقع الرئاسة الذي بات وكأنه مجرد صندوق بريد لنقل الرغبة التي يجمع عليها النواب ؟ وهل أن فخامة رئيس الجمهورية ملزم حصرا باجراء الاستشارات النيابية الملزمة أم أنه ملزم أيضا بنتيجتها وكيف يتم حفظ موقعه الدستوري في حال أجمع النواب على اختيار شخصية لا تصلح بنظر فخامة الرئيس أو في حال تمت تسمية شخصية يشعر فخامة الرئيس بأنه لا يرغب بالتعاون معها لقيادة السلطة التنفيذية ؟
هناك رأي دستوري لم ينل الاهتمام الكافي يرى أن رئيس الجمهورية ملزم باجراء الاستشارات فقط، وليس ملزماً بالنتيجة التي تؤدي إليها تلك الاستشارات. وهذا يعني أن رئيس الجمهورية قد يتشاور مع النواب ولكن ليس بالضرورة أن يتقيد بالاسم الذي يحظى بتأييد غالبية النواب. لكن من المفيد طرح مقاربة أكثر عمقاً ولها دور في حفظ موقع رئاسة الجمهورية في حال اعتبار الاستشارات النيابية الملزمة لرئيس الجمهورية المنتخب هي من باب المذاكرة السرية التي لا يحق لأي نائب بالخروج والافصاح عنها لأن شخصية الرئيس المكلف بتأليف الحكومة يجب ألا تعرف إلا بعد إعلان صاحب الصلاحية الدستورية بتسميته وتكليفه احتراماً لموقع رئاسة الجمهورية.
السلوك الحالي يجد ما يبرره في تفعيل قواعد الميثاق الوطني (أي الدستور اللبناني الرديف)، هنا تجدر الاشارة الى ان الرأي الذي يجتمع عليه أغلبية نواب الأمة وهم بسوادهم الأعظم من راكبي المحادل الانتخابية السلطوية داخل الدولة العميقة الذين يكونون قد فازوا بالانتخابات النيابية بناء لتحالفات تدرس بعناية وعلى الورقة والقلم بين زعماء الطوائف (المختلفين ظاهريا والمتعاضدين دوما في الخفاء).
2- الدور الدستوري لرئيس الحكومة في لبنان.
بعد تسمية الرئيس المكلف بتأليف الحكومة، وتجاوز العقبة الأولى، تظهر معضلات دستورية جديدة لا تقل خطورة وبشاعة، فقد تقرر بعض الكتل النيابية لعدم رضاها عن الشخصية التي جرى تكليفها بتأليف الحكومة مقاطعة رئيس الحكومة المكلف خلال الاستشارات غير الملزمة التي يجريها مع النواب لاختيار الوزراء في حكومته، وقد تحاول الكتل النيابية التي لا تقاطع الاستشارات غير الملزمة حمل بعض مقترحات الأسماء للتوزير في الحكومة، كل ذلك أدى سابقا ويؤدي حاليا إلى تعقيد عملية تشكيل الحكومة وتأليفها وقد يدفع باتجاه اعتذار الرئيس المكلف عن المهمة في حال انعدام رغبته بمجاراة مطالب النواب، فالحكومة اللبنانية لا تبصر النور دستوريا وتصبح مكتملة الصلاحيات إلا بعد نيل ثقة النواب. وفي حال عدم نيل رضا النواب مسبقا فقد تتعرض لانتكاسة في انطلاقتها داخل قاعة مجلس النواب اللبناني، ودأبت الكتل النيابية على ممارسة نهج وسياسة “الاحراج للاخراج” بحق أي رئيس مكلف لا يجاري النواب في مطالبهم، وهذا يعكس سطوة الإرادة السياسية للنواب على السلطة التنفيذية التي يفترض بها بأن تكون ذات استقلالية عن السلطة التشريعية وليس مجرد انعكاس لنتائج الانتخابات النيابية، فالحكومة فريق عمل يجب أن يعمل تحت اشراف ورقابة السلطة التشريعية التي تراقبه وتحاسبه وتطرح الثقة فيمن لا تجده أهلا لتولي المواقع الوزارية لا أن تكون الحكومة حاصلة سلفا على المباركة الدائمة والمستمرة لأعضاء مجلس النواب مما يشجع الوزراء وبطانتهم في الادارة على ممارسة الفساد وابرام الصفقات لأنهم يعلمون أن دور المجلس النيابي قد جرى تعطيله بمجرد أن تم السماح لكل 6 نواب بتسمية وزير في الحكومة.
وهنا تطرح الاشكالية الدستورية نفسها مجددا، هل يستقيم خروج النواب بعد اعطاء المشورة غير الملزمة للرئيس المكلف واعلان أسماء المستوزرين على الاعلام، أم أن هذا الأمر يجب أن يكون بمثابة المذاكرة السرية والرأي يوضع بتصرف الرئيس المكلف ؟؟ أيضا قواعد الميثاق الوطني (الدستور اللبناني غير المكتوب) تتدخل مرة أخرى من جديد لتكريس مشهدية دستورية سيئة للغاية، ففي حال قرر الرئيس المكلف تشكيل فريق عمله الخاص سيجد نفسه أمام احتمال أكبر بعدم نيل تشكيلة حكومته ثقة مجلس النواب، ما يؤدي الى اعتبار الحكومة حكومة تصريف أعمال واضطرار رئيس الجمهورية إلى إعادة تكليف شخصية جديدة لرئاسة الحكومة لا بد لها من الرضوح لارادة النواب.
3- الدور الدستوري لرئيس المجلس النيابي في لبنان.
رغم أن رئيس الجمهورية يتحمل مسؤولية تكليف رئيس الحكومة، فإن رئيس مجلس النواب في لبنان يعد من الشخصيات المحورية في تحديد مصير الحكومة كونه حسب أحكام الدستور اللبناني والنظام الداخلي لمجلس النواب صاحب السلطة والسطوة على أعضاء المجلس النيابي في تحديد جدول الأعمال للجلسات وفي تقرير فتح باب المجلس أمام النواب أنفسهم أو اغلاقه. من الناحية الدستورية والسياسية، رئيس مجلس النواب هو رئيس السلطة التشريعية المنوط بها اجراء الدور الرقابي على أعمال الحكومة ومحاسبتها، ورئيس مجلس النواب هو وحده كما ذكرنا من يمتلك القدرة على التأثير في المشهد السياسي العام في لبنان لأنه الوحيد الذي يتحكم بوضع جدول أعمال الجلسات العامة لمجلس النواب وبالتالي فان له الكلمة العليا على الكتل النيابية التي تعكس التوازنات الطائفية التي تنتج عن الانتخابات النيابية في لبنان.
النظام اللبناني هو من ناحية نظرية نظام جمهوري برلماني، ولكن ما بعد ابرام اتفاق الطائف، عاش اللبنانيون عقدة تحجيم صلاحيات من يشغل موقع رئاسة الجمهورية بسبب التوازنات الطائفية وقواعد الميثاق الوطني، لكن لا بد من الالتفات على توافر القدرة لتغيير الأعراف الدستورية السائدة واعادة دور مفقود طوعا لرئيس الجمهورية من خلال إلزام النواب باعتبار مشورتهم من باب المذاكرة السرية وعدم الزاميتها كل ذلك تحت عناوين دستورية عريضة تتعلق بالحفاظ على استقلالية السلطة التنفيذية وحفظ هيبة وقرار رئيس الجمهورية اللبنانية ورئيس حكومة لبنان وعدم خضوع الموقعين بشكل كامل لأهوء أعضاء مجلس النواب خاصة وأن فخامة رئيس الجمهورية يقسم على احترام مبادئ وقواعد الدستور اللبناني المكتوب وليس من ضمن ذلك قواعد الميثاق الوطني ولا الأعراف الدستورية التي يجب اعتبارها من باب الهرطقات المستحدثة على ضوء التجارب العديدة السيئة والفاشلة والتي أدت الى تعميم ثقافة الفساد لغياب المراقبة والمحاسبة.
ان حماية السلطة التنفيذية من سطوة أعضاء المجلس النيابي تقتضي بأن يحافظ رئيس الجمهورية تماما كما رئيس الحكومة على قوة الشخصية والتمتع بالايمان والقدرة على ممارسة الصلاحيات الدستورية وعدم التفريط اطلاقا بمبدأ دستوري واضح وجلي هو مبدأ استقلالية السلطة التنفيذية ولكسر كل المشاعر بوجود انتقاص كبير من الصلاحيات المنوطة بهذه المواقع الدستورية.
لقد آن الأوان لثبات أن نظام لبنان هو نظام جمهوري برلماني، فإن عجزنا عن اثبات ذلك بالأفعال فلا بد من الاقرار أن النظام اللبناني تحول نتيجة الحنكة السياسية والأعراف الدستورية السائدة الى نظام برلماني.
4- مدة تشكيل الحكومات اللبنانية منذ اتفاق الطائف
منذ تطبيق اتفاق الطائف في عام 1990، تعرض لبنان لعدة فترات تعثر في تشكيل الحكومات، حيث استغرق بعضها أشهرا عديدة في ظل التوترات السياسية والضغوط الإقليمية والدولية. وفي ما يلي مدة تشكيل الحكومات منذ تطبيق الاتفاق وحتى اليوم:
حكومة رفيق الحريري (1998-2004): استمر تشكيل الحكومة بقيادة رفيق الحريري بعد انتخاب الرئيس إميل لحود، واستغرق التشكيل حوالي شهرين.
حكومة فؤاد السنيورة (2005-2009): بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005، استغرق تشكيل الحكومة حوالي خمسة أشهر بسبب الأزمة السياسية التي نشأت. الحكومة التي تم تشكيلها كانت بقيادة فؤاد السنيورة.
حكومة سعد الدين الحريري (2009-2011): بعد الانتخابات النيابية في عام 2009، تم تكليف سعد الدين الحريري بتشكيل الحكومة. استغرق تشكيل الحكومة حوالي شهرين بعد الانتخابات، وشهدت فترة استقرار قصيرة، إلا أن الحكومة انهارت في يناير 2011 بعد انسحاب حزب الله وحلفائه من الحكومة.
حكومة نجيب ميقاتي (2011-2014): تم تشكيل حكومة نجيب ميقاتي بعد استقالة حكومة سعد الحريري في 2011. استغرق تشكيل الحكومة شهرين ونصف الشهر.
حكومة تمام سلام (2014-2016): تم تشكيل حكومة تمام سلام بعد أزمة سياسية استمرت نحو 11 شهرًا بسبب اختلافات سياسية داخلية، خاصة بين حزب الله وحلفائه من جهة، وكتل أخرى من جهة ثانية.
حكومة حسان دياب (2020-2021): استغرق تشكيل حكومة حسان دياب حوالي أربعة أشهر بعد استقالة حكومة سعد الحريري نتيجة الاحتجاجات الشعبية والأزمات الاقتصادية.
حكومة نجيب ميقاتي (2021 – 2025): استغرق تشكيل حكومة نجيب ميقاتي الثانية حوالي عام كامل بعد استقالة حكومة حسان دياب في أغسطس 2020 بسبب انفجار مرفأ بيروت.
5- التأثير الشعبي والدولي على المشهد السياسي
شخصية كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة تُعد ذات تأثير في المشهد السياسي اللبناني من خلال أمرين أساسيين:
1. القوة الشعبية: حيث ينعكس الدعم الشعبي في شرعية الشخصيات السياسية في لبنان. رئيس الجمهورية، على سبيل المثال، الذي يتم انتخابه على وقع ترحيب شعبي واسع سيحظى بالدعم مما يعزز قوته السياسية داخل الساحة الداخلية في حال أحسن استثمار الدعم الشعبي له.
2. الدعم الدولي: في ظل الأزمات الاقتصادية والمالية التي يواجهها لبنان، يظل الدعم الدولي من قبل الدول الكبرى ومنظمات المجتمع الدولي أمرا حاسما في تحديد اتجاهات الحكومة. فمن خلال هذا الدعم، يمكن لرئيس الحكومة المكلف ورئيس الجمهورية أن يحظيا بالدعم اللازم الذي يساعد في ضمان استقرار النظام السياسي.
الخاتمة:
قوة الشخصية والتأثير السياسي لكل من رئيس الجمهورية، رئيس مجلس النواب، ورئيس الحكومة في لبنان ستظل محكومة بعوامل متعددة منها الثقل الشعبي والتوافقات السياسية والضغوط الدولية.
لكن في النهاية لا يمكن الانكار ان دور رئيس مجلس النواب في ظل ما هو سائد ما بعد اتفاق الطائف هو الدور الأكثر تأثيرا بفضل فائض الصلاحيات التي تم انتزاعها لمصلحة أعضاء البرلمان في لبنان من بوابة الهيمنة على السلطة التنفيذية وضرب استقلالية الأعضاء فيها وهو أمر لم يلتفت اليه أحد لأن فيه مصلحة لجميع أعضاء النادي السياسي اللبناني، بينما تمّ بالتجربة الفرض على كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وجوب احترام قواعد الميثاق الوطني والأعراف الدستورية كما النتائج التي فرضتها الديمقراطية التوافقية، وكل هذه الاشكاليات تحتاج الى تأمل كبير لاجتراح الحلول الخلاقة خاصة في ظل الظروف الصعبة التي يشهدها لبنان ولو كان ذلك يفرض مواجهة مع كل الأعضاء المنتسبين إلى النادي السياسي اللبناني القيّم على الدولة العميقة.
“محكمة” – الجمعة في 2025/1/31

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!