قراءة في الحصانات المثارة في ملفّ تفجير مرفأ بيروت/فرانسوا ضاهر
القاضي السابق والمحامي فرانسوا ضاهر:
ننطلق من قاعدة قانونية مبدئية مفادها أنّ كلّ عمل ضارٍ (fait délictuel) يحتمل وجهين من التوصيف، نسبةً إلى الأشخاص الطبيعيين الذين يُنسب إليهم ارتكاب هذا الفعل ويُعتبرون من أفراد السلطة العامة (agent public) أيْ من فئة المسؤولين الإداريين أو الأمنيين أو من فئة المسؤولين الدستوريين كرؤساء الجمهورية ورؤساء الوزراء والوزراء والنوّاب.
الوجه الأوّل: يقوم على المسؤولية الجزائية أو الجنائية.
والوجه الثاني: يقوم على المسؤولية الوظيفية أو الإخلال بالواجبات والمهام.
أمّا القاعدة الثانية فهي أنّ ملاحقة هؤلاء الأفراد بالمسؤولية الجنائية لا تستغرق ملاحقتهم بالمسؤولية الوظيفية، والعكس بالعكس. إستنادًا، على سبيل الإستئناس، إلى نصّ المادة 61 من قانون الموظّفين الصادر بالمرسوم الإشتراعي رقم 112 تاريخ 59/6/12 الذي ورد فيه:
” 5- إنّ دعوى الحقّ العام مستقلّة عن الدعوى التأديبية. ولا تحول إقامة دعوى الحقّ العام دون إقامة الدعوى التأديبية والسير بها والحكم فيها. ”
أمّا في ما يتعلّق بملفّ تفجير مرفأ بيروت ومسألة الحصانات التي أثارها المحقّق العدلي طارق البيطار نسبةً إلى الأفراد الذين اشتَبَه بمسؤوليتهم الجنائية عن هذا التفجير، فيمكن مقاربتها على الوجه التالي:
أ- في ما يتعلّق بالمسؤولين الإداريين والأمنيين:
في حال لم تُرفع الحصانة عنهم من قبل المرجع الإداري التسلسلي، الذي لحظه القانون والمخوّل برفعها، تبعًا للأسلاك التي ينتمون إليها، يبقى للنائب العام لدى محكمة التمييز أمر البتّ نهائيًا في موضوع رفع الحصانة عن هؤلاء المسؤولين، إستنادًا إلى المادة 13 من قانون أصول المحاكمات الجزائية.
ب- في ما يتعلّق بالوزراء:
1- إنّ ملاحقتهم بالمسؤولية الوظيفية أيّ التقصيريّة بمعنى الإخلال بالواجبات المترتّبة عليهم تتمّ أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وفق آلية المادة 70 وما يليها من الدستور.
2- أمّا ملاحقتهم بالمسؤولية الجنائية فتتمّ أمام محاكم القضاء العدلي، ولا سيّما المجلس العدلي، بموضوع تفجير مرفأ بيروت. لأنّ الدستور لم ينصّ على تمتّعهم بأيّة حصانة لناحية هذه الفئة من المسؤولية.
ج- في ما يتعلّق بالنوّاب:
إنّ الحصانة التي يتمتّعون بها، في ما خلا حالة التلبّس بالجريمة (الجرم المشهود)، وفق نصّ المادة 40 من الدستور، هي أنّه أثناء دور انعقاد مجلس النوّاب حصرًا، لا يحقّ لقضاء الملاحقة “إتخاذ إجراءات جزائية نحو أيّ عضو من أعضاء المجلس أو إلقاء القبض عليه. ”
وذلك حتّى لا تحول تلك الإجراءات الجزائية أو قرار إلقاء القبض عليه دون قيامه بالواجبات والمهام التي أناطها به الدستور.
أمّا إذا كانت إجراءات الملاحقة الجزائية لا تحول دون قيام النائب بواجباته ومهامه الدستورية، فيمكن القاضي تجاوز إستصدار الإذن بالملاحقة من المجلس النيابي، ومتابعة السير بالإجراءات التي تفرضها عليه معطيات القضيّة. كما يتحرّر من هذا الإذن، بشكلٍ كامل، ويستعيد كامل سلطانه في اتخاذ كلّ الإجراءات التي يرتئيها، خارج دور انعقاد جلسات المجلس النيابي.
من هنا، يصحّ التساؤل في ما إذا كان المحقّق العدلي مضطرًا لطلب الإذن من المجلس النيابي لملاحقة النوّاب المشتبه بمسؤوليتهم بتفجير مرفأ بيروت، أم أنّ الإجراءات التي كان ينوي اتخاذها بحقّهم لم تكن تحول دون ممارستهم لمهامهم الدستورية؟
علمًا أنّ طلب الإذن المقدّم منه لا بدّ أن يقتصر تحديدًا وحصرًا على: “نوع الجرم وزمان ومكان ارتكابه وعلى خلاصة عن الأدلّة التي تستلزم اتخاذ إجراءات عاجلة”، وذلك سندًا لحكم المادة 91 من النظام الداخلي للمجلس النيابي تاريخ 2003/10/21.
أمّا الجواب على السؤال المطروح أعلاه، فيأتي من طبيعة الإجراءات التي كان يزمع المحقّق العدلي اتخاذها بحقّهم.
د- في ما يتعلّق بالقضاة:
إنّ الجرائم التي يرتكبها القضاة سواء أكانت خارجة عن وظائفهم أم ناشئة عنها أو بمناسبتها، فتتمّ ملاحقتها من قبل النائب العام التمييزي، إستنادًا إلى حكم المواد 345 و346 و347 و354 أ.م.ج.، الذي يحرّك بوجههم دعوى الحقّ العام.
وفي ما يتعلّق بملفّ تفجير مرفأ بيروت المحال على المجلس العدلي، فإنّ النيابة العامة تتمثَّل لدى المجلس المذكور بالنائب العام التمييزي سندًا لحكم المادة 357 أ.م.ج..
وإنّ محكمة التمييز هي التي تختص بالنظر في الجرائم (الملحوظة أعلاه) التي يرتكبها القضاة، عملًا بحكم المادة 344 أ.م.ج..
أمّا الأفعال الجرمية المنسوبة إلى هؤلاء القضاة، فهي تقع ضمن الإختصاص النوعي للمجلس العدلي، الذي أُحيل إليه، بموجب مرسوم اتخذ في مجلس الوزراء، أمر النظر بدعوى تفجير مرفأ بيروت، إستنادًا إلى حكم المادة 355 أ.م.ج..
من هنا، يمكن القول بأنّه يوجد تلازم، بمفهوم المادتين 55 و56 أ.م.م. معطوفتين على المادة 6 من القانون المذكور[i] بين الأفعال الجرمية موضوع الدعوى العامة المساقة أمام المجلس العدلي، والأفعال موضوع الدعوى العامة الأخرى التي يمكن أن يلاحق بها القضاة، بفعل التسبّب بتفجير مرفأ بيروت، أمام محكمة التمييز الجزائية الخاصة بمحاكمتهم.
وإنّه لحسن سير العدالة، ولتفادي الأحكام المتناقضة حول ذات الأفعال الجرمية، وتبعًا لكون سلطة الإدعاء العام في الدعويين هي بيد النائب العام التمييزي نفسه، يكون ضمّ الدعوى العامة المقامة ضدّ القضاة إلى الدعوى العامة المحالة إلى المجلس العدلي، كمحكمة الدرجة الأعلى في القضايا الجنائية، جائزًا قانونًا.
ه- في ما يتعلّق بالمحامين:
إنّ قراريْ مجلسيْ نقابة المحامين في بيروت وطرابلس برفع الحصانة عن المحامين يوسف فينيانوس وعلي حسن خليل وغازي زعيتر، لكون الأفعال الجرمية المنسوبة إليهم هي خارج نطاق ممارستهم لمهنتهم، من جهة، وقد وقعت في الفترة التي كان فيها قيدهم لممارسة المهنة معلّقًا، من جهة ثانية، قد جعل البحث بمسألة رفع الحصانة عنهم من عدمه، دون جدوى.
و- في الخلاصة:
إنطلاقًا ممّا تقدّم،
1- يمكن تقييم الأداء الفعلي للمحقّق العدلي في ملفّ تفجير مرفأ بيروت، بعد رصد موقف الجهات المعنية من طلبات رفع الحصانات التي رَفَعَها إليها.
2- كما وإنّ النظرية المتداولة في وسائل الإعلام على أنّ النظر بملفّ تفجير مرفأ بيروت هو من اختصاص ثلاث محاكم مختلفة تُصدر أحكامها بالتوازي (المجلس العدلي والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء ومحكمة التمييز الخاصة بمحاكمة القضاة)، هي غير قانونية، وربما هادفة الى إسقاط العدالة في هذا الملفّ التاريخي!
هامش:
[i] وليس بمفهوم التلازم الذي نصّت عليه المادة 63 أ.م.ج. معطوفة على المادة 133 منه، لأنّها تعرّضت لحالة إقامة دعويين عامتين لم تتناولا الأفعال الجرمية ذاتها، بل أفعالًا متلازمة في ما بينها نسبةً إلى ذات الجريمة (مادة 133 فقرات ب، ج، ود) أو أفعالًا مقترفة من أشخاص مجتمعين في ما بينهم وفي آنٍ واحد على ارتكاب ذات الجريمة (مادة 133 فقرة أ).
في حين أنّ المادتين 55 و56 أ.م.م. تناولتا التلازم بين دعويين من زاوية أنّ الأفعال المدعى بها هي ذاتها، وهما ترميان إلى طلبات متلازمة. وإنّ الإجتهاد قد سار على إعمال التلازم بين دعويين في كلّ مرة توجد صلة بينهما، ويكون الفصل بهما، بشكلٍ مستقلّ، يؤدّي إلى صدور أحكام متناقضة في الموضوع الواحد (تمييز رقم 89 تاريخ 1964/7/10).
“محكمة” – الأربعاء في 2021/8/4