أبحاث ودراسات

قراءة في تدرّج النظام الإيفائي للدين بالعملة الأجنبية الذي أفتى به القضاء في لبنان بعد 17 تشرين 2019/فرانسوا ضاهر

القاضي السابق والمحامي فرانسوا ضاهر:
لقد مرّ القضاء في لبنان بفترة تأرجح حول كيفية تصفية حق الدائن بالعملة الأجنبية.
فإذ به يرخّص، في مرحلة أولى، إمتدّت لسنوات، للمدين بتسديد دينه لدائنه بالعملة الأجنبية بالعملة الوطنية على سعر صرفها الرسمي (1500 ل.ل./د.أ.) وذلك مهما كان مصدر ذلك الدين أو سببه أو ظروفه أو تاريخ نشأته.
فجاءت الحلول التي قضى بها، مخالفة لنص وروحيّة أحكام القانون العام (٣٠١ م.ع.) وقانون النقد والتسليف (٧ و٨ و١٩٢ ق.ن.ت.)، ومجحفةً بشكل فاحش بحقّ الدائن، ومثريةً بشكل غير مبرّر وغير مشروع مقابلةً لمصلحة المدين حتّى السيء النيّة، ومضرّةً بالاقتصاد الوطني عامةً لكون لبنان بلداً إستيراديّاً بامتياز ، ومعطلةً للاستثمارات فيه بشكلٍ كلّي.
حتى ينتقل بعدها القضاء الى الترخيص للمدين بتسديده دينه إيّاه، بالعملة الوطنية على سعر منصة صيرفة، التي كانت، على الدوام، أدنى بكثير من سعر صرفها في السوق الحرّة (لا سيما، في ما يتعلق بتسديد أتعاب المحاماة المتعاقد حولها قبل 2019/10/17).
حتّى وصل، الى المرحلة الآخيرة ، التي بات يحكم فيها على المدين بتسديد دينه بالعملة الأجنبية نقداً، وإلاّ بالعملة الوطنية على سعر صرفها في السوق الحرّة (لا سيّما، في ما يتعلّق بتسديد البدلات التأجيرية المتعاقد حولها قبل 2019/10/17 والمستحقة بعد هذا التاريخ).
هذا، وقد كان يأخذ، في بعض الأحيان، بسبب الدين بالعملة الأجنبية، ليرخّص بتسديده بذات العملة نقداً أو بالعملة الوطنية على إحدى أسعار الصرف المعتمدة من مصرف لبنان لكل فئة من التعاملات والتي كانت دوماً دون سعر السوق الحرّة. وذلك دون أن يكون لهذا المنحى في التقرير أي سندٍ قانوني او وضعي على الإطلاق، بل سند يخالفه، هو مستوحى حصراً من معطيات القضية ومسند الى سلطة القاضي الاستنسابية (pouvoir discrétionnaire ou arbitraire du juge) وليس الى سلطته التقديرية المشروعة (pouvoir appréciatif légitime du juge) لا سيما، عندما يثبت للمحكمة أن المدين كان يستوفي مداخيله بالعملة الأجنبية.
وقد أسقط، في كلّ هذه الحالات، وخلافاً لأحكام القانون، القوّة الابرائية الملازمة للشك الصادر عن المدين فجرّده بالتتابع (par corollaire) من كونه وسيلة إيفاء فعلية لدينه. بحجة أنه لم يعد بالإمكان استيفاء قيمته الإسمية نقداً من المصرف المسحوب عليه، نتيجة انهيار القطاع المصرفي في لبنان بعد 2019/10/17.
أما في ما يتعلّق بالقروض المصرفية، فقد رخّص الإجتهاد للمدين المقترض أن يسدّد دينه للمصرف المقرِض بالشيكات المصرفية أو بالعملة الوطنية على سعر صرفها الرسمي (1500 لل./د.أ.)، إستناداً الى التعليمات التي أصدرها مصرف لبنان بهذا الخصوص، وبخاصة الى التعميم الوسيط رقم 568 تاريخ 2020/8/26. الأمر الذي ولّد وضعيتين قانونيتين متناقضتين للمدين. وضعية المدين في التعاملات الخاصة حيث بات ملزماً، مؤخراً، بتسديد دينه بذات عملة الموجب الأصلي نقداً. ووضعية المدين لمصرف حيث يمكنه تسديد دينه بالشيكات المصرفية او بالعملة الوطنية على سعر صرفها الرسمي.
وإن وقوع هاتين الوضعيتين المتناقضتين لصفة المدين نفسه، تثبت أنه يتوجّب إعادة النظر بالمناحي الإجتهادية السائدة راهناً. لأنها، من جهة، ترهق المدين في التعاملات الخاصة إذ توجب عليه إيفاء دينه بذات عملة الموجب الأصلي نقداً. في ما توفّر، من جهة أخرى، لمدين المصرف إثراءً فاحشاً وغير مشروع على حساب المصرف دائنه والمودعين فيه، نتيجة تقلّص كتلة ودائعهم المقترَضة من العملاء المقترضين من ذلك المصرف.
هذا فضلاً عن أن ما استقرّ عليه الإجتهاد، لجهة كيفية إيفاء دين المدين في التعاملات الخاصة، يكون قد أسقط، من جهة، القوة الإبرائية للشك المصرفي. ولم يراع، من جهة أخرى، وضعية ذلك المدين، لناحية أنه لا يُسأل عن انهيار سيولة القطاع المصرفي عامةً في لبنان، ولا عن إفراغ حسابه من السيولة النقدية الموازية للقيود الاسميّة والدفتريّة الواردة فيه، ولا عن عدم توافر السيولة الموازية لمؤونة حسابه المصرفي. فبات يحمّله منفرداً كلّ مخاطر القطاع المصرفي وينصّل الدائن منها كاملةً.
الأمر الذي يتعارض مع قواعد العدالة والإنصاف. سيما وأن الإختلال في الإلزامات الواقعة بين المدينين والدائنين قد تأتّت من ظرفٍ خارجي غير مرتقب وغير محتسب وغير ممكن توقّعه أو تلافيه أو تجنّبه منهما، وقد أدّى الى إنهيار القطاع المصرفي في لبنان. بحيث لا يمكن تحميل مخاطر هذا إلانهيار الى أحدهما (المدين) منفرداً دون الآخر (الدائن).
وإنه للخروج من هذه المناحي المتضاربة في وضعية المدين، لا بدّ من توحيد الوضعيتين، لناحية أن يسير إلإجتهاد على الموازاة بين وضعية المدين في التعاملات الخاصة مع وضعية المدين لمصرف.
لجهة أن يرخّص للأول (المدين في التعاملات الخاصة) تسديد دينه الإسمي المنشأ قبل الأزمة المصرفية في 2019/10/17 بالدولار المصرفي عن طريق التحويل المصرفي الى حساب دائنه أو إصدار شك مصرفي بإسمه أو تسليمه مبلغاً نقدياً يوازي قيمة هذا الشيك النقدية في السوق الحرّة.
وذلك على غرار ما يرخّص لمدين المصرف فعله، من تسديدٍ لقرضه لدى ذلك المصرف بالشيكات المصرفية الموازية لقيمته الإسمية، أو بما يوازي قيمة تلك الشيكات نقداً في السوق الحرّة، إن بعملة الدين الأصلية وإن بالعملة الوطنية على سعر صرفها في السوق الحرّة. بحيث تخضع الالزامات، المعقودة قبل الأزمة المصرفية، والمستجرّة أو المستحقّة بعد 2019/10/17 لذات النظام الإيفائي الذي تخضع له الإلزامات المستحقة قبل هذا التاريخ.
أما الإلزامات المعقودة أو التي نشأت بعد 2019/10/17، أي بعد إندلاع الأزمة المصرفية في لبنان، والتي هي ضمن دائرة التعاملات المالية الخاصة او حتى المصرفية، فإنها تخضع جميعها للنظام الإيفائي المتعاقد حوله. والذي غالباً ما يكون نظام الإيفاء النقدي بذات عملة أصل الموجب. بحيث يتقيّد الإجتهاد الفاصل بتلك الإلزامات، حينئذ، بشرعة المتعاقدين دون إجراء أي تعديل أو تليين عليها، لناحية الترخيص بإيفائها بما يوازي ما تمّ التعاقد حوله، بالاستناد الخاطئ الى نص المادة ٣٠١ موجبات وعقود.
بذلك، يكون هذا الرأي قد أسهم في إرساء عدالة أفضل بين الدائن والمدين، وحال دون تحميل أحدهما دون الآخر مخاطر سقوط القطاع المصرفي في لبنان. الأمر الذي لا يُسألان عنه بالتساوي، وقد أدّى الى تجفيف سيولة مدّخراتهما، على حدٍّ سواء، في المصارف أو تقليصها الى ما يوازي عشر قيمتها الدفترية أو الاسميّة، اليوم، في السوق الحرّة. بحيث لم تعد المؤونة النقدية، التي تمّ توفيرها لتكوين حساباتهما المصرفية، قابلة لأن تتوافر بكلّيتها نقداً بعد 2019/10/17، حتى يفيا بالإلزامات التي أبرماها.
“محكمة” – الثلاثاء في 2025/4/1

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!