قراءة قانونية في القرار القضائي الجريء لمصلحة مودع ضدّ مصرف/سابين الكك
الدكتورة سابين الكك*:
من النادر أن يعمد الباحثون في المجالات القانونية إلى التعليق على القرارات الصادرة عن القضاء المستعجل، نظراً لخصوصية، طبيعة وآثار تلك القرارات، ولكن ما دفعنا إلى تناول القرار الصادر في قضيّة “بنك بيبلوس” فرع النبطية، تعليقاً وتحليلاً، هو أبعد من الحسّ النقدي والتحليلي الذي يكون الدافع عند وضع دراسة قانونية أو تعليق على قرار قضائي، إنّه بالأحرى الجانب الشمولي العام لموضوع علاقة المصرف بالجمهور، في أعقاب أزمة “قانونية-مصرفية” لم تختبرها أدراج المحاكم اللبنانية من قبل.
نقطتان أساسيتان جديرتان بالبحث، الأولى تتعلّق باعتبار الطلب، المقدّم من المستدعية بصفتها عميلة بموجب عقد حساب جاري مع “بيبلوس بنك”، مستوفياً صفة العجلة في الحالة المعروضة، والثانية تؤكّد على حقّ العميل إلزام المصرف بأداء الحساب عيناً، أيّ نقداً وبذات العملة موضوع العقد، تطبيقاً للمبادئ العامة المنصوص عليها في قانون الموجبات والعقود اللبناني.
تتلخّص الوقائع التي يمكن استنباطها واستنتاجها من القرار المذكور آنفاً، بأنّ المستدعية شركة…، كانت قد تقدّمت من المصرف المعني بطلب سحب مبلغ وقدره حوالي ١٢٩،٠٣٣،٣٩ يورو نقداً، بعد مراجعات عدّة باءت جميعها بالفشل، لتمسّك البنك بأحوال البلد متذرّعاً بأنّها تحول دون إمكانية التزامه بموجبات عقدية واضحة وصريحة ومحدّدة مسبقاً، الأمر الذي دفع بالشركة صاحبة الحساب الجاري بالتقدّم أمام قاضي الأمور المستعجلة حيث مركز الفرع الذي تتعامل معه، بأمر على عريضة تطلب بموجبه تسطير كتاب إلى المصرف المستدعى ضدّه بدفع المبلغ المذكور تحت طائلة غرامة إكراهية حدّدتها بـ ٥٠ ألف يورو عن كلّ يوم تأخير.
في المقابل، إعترف المصرف بموجب لائحة الملاحظات المبرزة من قبل وكيله القانوني، بأحقّية المبلغ تماماً كما ورد في طلبات الشركة المودعة، ولكنّه عرض أداء هذا الموجب بواسطة شيك مصرفي، الأمر الذي رفضته هذه الأخيرة وأصرّت على وجوب تسليمها كامل المبلغ نقداً وباليورو.
في ظلّ الأزمة المصرفية التي يعاني منها لبنان في الآونة الأخيرة، والتي تترافق مع أزمة مالية ونقدية واقتصادية، كان من الضروري أن يتخذ القضاء اللبناني موقفاً واضحاً يضع الكثير من الأمور في نصابها القانوني الصحيح وبمقتضى القرار المذكور أثبت قاضي الأمور المستعجلة في النبطية أنّ القضاء المستقلّ هو طوق النجاة لبناء دولة القانون والمؤسّسات. هذا القرار الذي يمكن وصفه، موضوعياً، بالجريء، لأنّه، أكّد بأنّ العلاقة بين المصارف والعملاء تحكمها قواعد القانون الخاص، وأرسى بمظلّة حماية لمصلحة العملاء الدائنين في مواجهة حملة ممنهجة، مرتكزة على إعلاء مصالح المصارف فوق الاعتبارات القانونية الأخرى.
أوّلاً- علاقة المصارف العاملة في لبنان وعملائها، تعاقدية محضة.
يتبيّن من الحيثيات الواردة في القرار أنّ قاضي الأمور المستعجلة( أحمد مزهر) تذرّع بالمادة ٢٤٩ من قانون الموجبات والعقود للقول بأنّ المصرف ملزم بأداء المبلغ المطلوب عيناً ونقداً، رابطاً هذا القرار بغرامة إكراهية عن كلّ يوم تأخير في تسديد المبلغ، وللقرارات الصادرة عن قضاء الأمور المستعجلة طبيعة خاصة ينبغي توضيحها من خلال هذا التعليق.
أ- قرار قاضي الأمور المستعجلة في النبطية تاريخ 2019/11/25: مؤقّت، معجّل، ونافذ على أصله.
إنّ القرارات المستعجلة وإنْ كانت لا تحوز قوّة القضيّة المحكوم بها كونها تقضي في اتخاذ تدابير مؤقّتة دون التصدّي لأساس النزاع إلاّ أنّها تقيّد القاضي الذي أصدرها لحين حصول أيّ طارىء على حال الفريقين، أو أيّ تطوّر أو تحوير لواقعات القضيّة، وبالتالي يعود لمحاكم الأساس اعتبارها كأنّها لم تكن. وما يجب الإشارة إليه، أنّه في قرار “بيبلوس بنك”- النبطية، قد يكون لهذا القرار قوّة ثبوتية خاصة حتّى لدى محاكم الأساس، فيما إذا حصل نزاع لاحق، وذلك على خلفية عدم تقديم المصرف المستدعى ضدّه، في لائحة الملاحظات، أيّ نفي لحقّ العميل في الحصول على كامل المبلغ المطلوب وحتّى، أكثر من ذلك، ذهب هذا الأخير إلى عرض إمكانية سداده عبر وسيلة إيفاء أخرى، الشيك المصرفي. وبالتالي، الطابع المؤقّت لقرار القضاء المستعجل سيمتدّ، واقعاً، إلى تثبيت أسس العلاقة القانونية بين الطرفين المتنازعين.
ب- القرار موضوع التعليق يحثّ المصارف اللبنانية على تنفيذ التزاماتها القانونية تحت طائلة الغرامة الإكراهية.
بالأصل، لولوج باب القضاء المستعجل بهدف طلب اتخاذ تدبير وقتي، أصول خاصة، ترتكز على طبيعة العجلة لدرء الضرر المحدق اللاحق بأحد المتنازعين، وعادة تحديد طابع الاستعجال في هذه القضايا يستلزم أن تكون مصلحة المستدعي تبرّر وتفترض اتخاذ تدبير مؤقّت يتلاءم، مع القضيّة المعروضة، وعلى القاضي أن يستند عند اختياره التدبير، أن يتوجّه نحو التدابير التي من شأنها أن تتناسب مع وقائع النزاع المعروض، لكي تمنع حصول الضرر الحال والمباشر بالمدعي.
وفي هذا الاطار تحديداً يؤكّد القرار، موضوع التعليق، على حكمة القاضي بالتنبّه إلى مخاطر عدم دفع المصرف المبلغ عيناً إلى الشركة المستدعية، مع ما قد يترافق معه من ارتدادات سلبية على وضع الشركة المالي أو شلّها كلّياً أو جزئياً أو الحدّ من ازدهارها أو من الإيفاء بالتزاماتها، خاصة وأنّ البلد يقع في أزمة اقتصادية ونقدية مفتوحة على احتمالات عدّة. وعمد القاضي، بما يعود له من سلطة تقديرية في اختيار التدبير المؤقّت المناسب إلى فرض غرامة إكراهية تعتبر عالية نسبياً، ٢٠ مليون ليرة لبنانية عن كلّ يوم تأخير، وذلك إدراكاً منه بدقّة المرحلة الحالية من جهة، وتنبّهاً إلى وجود أزمة نقدية وإشارات ترنّح في سعر صرف الليرة من جهة أخرى، ممّا قد يؤدّي في حال التأخير في الايفاء من قبل المصارف إلى إلحاق أضرار مباشرة بالمودعين وبمصالحهم.
ثانياً- تأكيد القرار على إعلاء مصلحة المودعين وفقاً للنظام المصرفي اللبناني.
من الواضح، أنّ القاضي وفي ظلّ، إقرار المستدعى ضدّه بحقّ، الشركة المودعة، بالحصول على المبلغ المحدّد ومع تعهّده بالدفع عبر شيك مصرفي، إعتراف من قبل المصارف بأنّ العلاقة التعاقدية مع العملاء تخضع للقواعد العامة في قانون الموجبات والعقود وفي قانون التجارة كما الأحكام والمبادئ التي تنظّم القطاع المصرفي في قانون النقد والتسليف، بعيداً عن أيّ اعتبارات أخرى حاولت المصارف اللبنانية، في الفترة الأخيرة، إشاعتها مثل حالة الضرورة وحالة التدابير الاستثنائية.
أ- عدم إمكانية اعتبار الحالة الراهنة، قوّة قاهرة لإعفاء المصارف من موجباتها العقدية.
أورد القرار نصّ المادة ٢٩٣ م.ع الذي يوجب مبدئياً التنفيذ بين يدي الدائن أو وكيله أو المفوّض عنه إلاّ في حالات استثنائية، معتبراً، عن حقّ، أنّها غير متوافرة في الوضع الراهن، وأضاف بأنّ “الظروف التي يمرّ بها البلد” والتي تذرّع بها “بنك بيبلوس” للتنصّل من أداء التزاماته المادية، عيناً ونقداً غير متوافرة أصلاً.
والقوّة القاهرة، هي الحدث الخارجي الذي لا يمكن توقّعه ولا يمكن تفاديه، يجعل من المستحيل معها تنفيذ الموجبات من قبل المدين وفق البنود العقدية، إلاّ أنّ الظروف الحالية التي يمرّ بها لبنان كانت متوقّعة من قبل الخبراء الماليين، وكان من الممكن تفاديها باتخاذ المصارف بالتعاون مع مصرف لبنان الإحتياطات الواجبة لتحصين القطاع المصرفي والحؤول دون وقوع الخلل في الحافظة الائتمانية للمصارف.
إستناداً لما سبق، أكّد القرار بأنّه وفي حال عدم حدوث أيّ خلل، مبرّر وقانوني، في الموجبات العقدية المتبادلة بين المصرف والعميل، تبقى مصلحة المودعين ككتلة ائتمانية ذات أبعاد إقتصادية واجتماعية هي الأجدر بالحماية.
ب- اعتبار “الكابيتال كونترول” المطبّق من قبل المصارف اللبنانية غير قانوني.
إنّ أهمّ ما يحمله القرار الصادر عن قاضي الأمور المستعجلة في النبطية بتاريخ 2019/11/25 هو ما لم يرد ذكره أصلاً في متن القرار، وما لم يتناوله القاضي، لا صراحةً ولا ضمناً، وأقصد به تحديداً “الكابيتال كونترول” أو مجموعة التدابير التي أعلنتها، دون وجه حقّ، جمعية المصارف في لبنان، وفي هذا تأكيد واعتراف ضمني من المصارف: بعدم قانونية إجراءات “الكابيتال كونترول”، المعتمدة من قبل جمعية المصارف في لبنان، وإلّا كان” بيبلوس بنك” قد تمسك بها ليبرّر عدم التزامه بدفع قيمة الحساب العائد للشركة المستدعية.
*أستاذة محاضرة ورئيسة قسم القانون الخاص في كلّية الحقوق- الجامعة اللبنانية.
“محكمة” – الثلاثاء في 2019/11/26
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.