قرار تاريخي لثلاث قاضيات يفنّد شكوى محام من استهداف “الذكورية” في “محكمة نسائية”/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
إذا كان من حقّ المحامي أن يناقش في معطيات وفحوى ملفّاته بغية التوصّل إلى ما يراه موكّلوه حقّاً لهم، بغضّ النظر عن صوابية موقفهم أو خطأه، مستخدماً كلّ الأساليب المعتادة في عمل المحامين اليومية في مختلف المحاكم ودرجات المحاكمة، إلاّ أنّه ليس من حقّه على الإطلاق، أن يتهمّ محكمة مؤلّفة من ثلاث سيّدات بأنّها لا تراعي في قراراتها مسألة المساواة بين الرجل والمرأة، وبإعطاء الرجال حقوقهم لمجرّد أنّهنّ سيّدات، وذلك في محاولة بائسة منه لتعطيل مجرى العدالة، إذ إنّ تنشيطها لا يكون بطلب كهذا لا يحقّق الهدف المنشود بالوصول إلى حقوق الموكّلين، وإنّما بتوسّل الطرق القانونية المنطقية التي تمكّنه من تحصيل هذه الحقوق.
وليس من حقّ المحامي المطالبة بإحلال قاض رجل مكان قاض إمرأة في هيئة المحكمة، معتبراً أنّ الأخيرة تنحاز للمرأة مهما كانت حالتها مدعيةً أو مدعى عليها، فيما الرجل لن يترك إبن جنسه الذكوري وحيداً في ميدان مطالبه المحقّة والمشروعة من وجهة نظره، وإذا كان الأمر على هذا المنوال، فهذا يعني ضرباً لكلّ الأحكام والقرارات التي صدرت من قضاة رجال وسيّدات بحقّ أشخاص من الجنسين البشريين، فكم من محكمة جنايات على سبيل المثال تشكّلت من قضاة رجال ثلاثة وأنزلت العقوبات المناسبة وفقاً للقانون، بسيّدات إرتكبن الجرائم المنسوبة إليهنّ، وكم من قاض إمرأة في عالم الجزاء لم تتوان للحظة واحدة عن محاكمة بنات جنسها لثبوت الجرائم المحالات بها عليها، والعكس صحيح، لأنّ الثابت هو القانون وتطبيق العدالة بما يوحيه الضمير والوجدان، والمتغيّر هو حالة الجرم والإنسان، سواء أكان ذكراً أو أنثى.
وليس من حقّ المحامي القول إنّ “الفئة المستهدفة من عنصر الرجال غير ممثّلة( في هيئة المحكمة) ممّا أثّر على قرار المحكمة لناحية النظر لمشاعر الوالد المحروم من مشاهدة أولاده بطريقة لائقة وباستقرار”، إذ من قال إنّ القضاة هم كتلة حجرية لا تتأثّر ولا تتفاعل، إنّما هذا التأثّر يكون بحسب منطوق القانون، وليس الأهواء الشخصية، وعندما تتحكّم الأهواء بالأحكام لا تعود هنالك عدالة، وعندما ينحاز القضاة الرجال أو السيّدات إلى أبناء جنسهم وبنات جنسهنّ في القرارات والمواقف، فهذا مؤشّر خطر على زوال الإنسانية، وعودة بالوراء إلى عصور التحكّم والإستئثار والعبودية والعنصرية.
وإذا كان هذا المحامي قد استشعر شيئاً ما من سيّدات المحكمة، فلماذا لم ينازلهنّ في ساحة القانون بتقديم كلّ ما يؤيّد وجهة نظره فيتغلّب عليهنّ بمنطق القانون ويلزمهنّ بما يفرضه القانون لا الأحاسيس؟ ومَنْ قال إنّ مطالبته بإحلال رجل في هيئة المحكمة تعني أنّ الأمور القانونية تسير وفقاً لمخطّطه وتصوّره، وتعني أنّ الفوز حليفه؟ ومَنْ قال إنّ القاضي الرجل يتخلّى عن موضوعيته لينحاز إليه لمجرّد المطالبة به؟ ومَنْ قال إنّ القاضي الرجل يشعر مع المتقاضي الرجل أكثر من القاضي المرأة؟ ومَنْ قال إنّ الأحكام والقرارات تصدر وفقاً لجنس موقّعها والهيئة الحاكمة، أو بحسب جنس المدعي أو المدعى عليه؟.
ولم تقف سيّدات محكمة الإستئناف في جبل لبنان مكتوفات الأيدي إزاء ذكورية ما طالبهنّ به المحامي (زوجته إمرأة قاض)، فوقّعن قرارهنّ بأسمائهنّ الصريحة والواضحة واستفضن في تقديم نقاش علمي وقانوني بحت عن مدلولات القوانين عن المساواة وأهميّة دور القاضي، ومررن على ما أصاب المحامي من “فوبيا” بحسب تعبير المحكمة.
وعادةً لا يتضمّن قرار المحكمة أيّ لقب أو توصيف لهيئتها، فيُذكر إسم القضاة مباشرة من دون سيّد أو سيّدة، غير أنّ القاضيات الثلاث سانيا نصر وألين ناصيف ورزان الحاج شحادة إنتصرن لأنوثتهنّ وقلن بالفم الملآن “القاضيات السيّدات”، إمعاناً منهنّ في تحديد موقفهنّ من ذكورية ما طالب به هذا المحامي بوكالته عن المدعي.
وملخّص “الإشكالية” المفروضة أنّ السيّدة ج.ج.ش. تقدّمت باستحضار إستئنافي بوجه السيّد ف.ت.م. طعناً بقرار المحكمة الإبتدائية في جبل لبنان- الغرفة الرابعة، والرامي إلى منح المدعي الأخير حقّ اصطحاب ولديه، غير أنّ محامي هذا الأخير سلك طريقاً وعرة ومقفرة ومقفلة لا تؤدّي إلى ما توخّاه، فصوّب على جنس هيئة المحكمة بدلاً من الغوص عميقاً في ما يعتقده موكّله حقّاً له.
“محكمة” تنشر ما جاء في قرار المحكمة الصادر في نيسان 2017، بخصوص “الطلب المستعجل” كما أسماه المحامي، وذلك لأهمّية هذا القرار المعلّل في مسار العدالة اللبنانية، ولما تضمّنه من أجوبة شافية ووافية وكافية لن تمحى من تاريخ القضاء:
إنّ محكمة الإستئناف في جبل لبنان، الغرفة الأولى– المدنية، الناظرة في الدعاوى العقارية، ودعاوى الأحوال الشخصية، ودعاوى التزوير المدني، ودعاوى التحكيم، والإعتراضات على أتعاب المحاماة، المؤلّفة من القاضيات السيّدات سانيا نصر رئيسة، وألين ناصيف ورزان الحاج شحاده مستشارتين،
(…) وتبيّــــن أنّه بتاريخ 26/5/2016 تقدّم المستأنف عليه بـ {طلب مستعجل} إنتهى المستأنف عليه بموجبه إلى الطلب من المحكمة ما حرفيته: “إتخاذ القرار بتنحّي رئيسة المحكمة عن هذه القضيّة لكي تتمكّن المراجع المختصة من تعيين أحد ممثّلي الرجال من القضاة لينضمّ لمحكمتكم الموقّرة ومن ثمّ اتخاذ القرار المعجّل التنفيذ القابل للتنفيذ منطقياً وجغرافياً وعملياً حسب جغرافية وتضاريس وطرقات ومسافات لبنان وأزمة السير الدائمة، وتنفيذ قرار محكمة البداية حول المشاهدة، واستطراداً ما يمكن تطبيقه عملياً لناحية المشاهدة بالوقت الكافي في البترون”؛
(…) وتبيّــــن أنّه بتاريخ 13/12/2016 قدّم المستأنف عليه لائحة مع طلب مستعجل، طلب بنتيجته ردّ طلب النفقة لوصلها إليها، واتخاذ قرار منطقي معجّل التنفيذ بالمشاهدة يتوافق مع طبيعة طرقات لبنان والمسافات وحركة السير الدائمة بين البترون وبعبدا، وتصديق الحكم الابتدائي الصادر بموضوع الطلاق وتضمين المستأنفة الرسوم والمصاريف والأتعاب والعطل والضرر، وأنّه في تلك الجلسة اختتمت المحاكمة بعدما كرّر الفريقان أقوالهما وطلباتهما؛
(…) ثالثها، في الطلب المستعجل المقدّم بتاريخ 26/5/2016:
بما أنّه بعد صدور القرار المذكور، أيّ قرار 11/12/2014، وبدلاً من المضي قدماً في الإجراءت المنتجة توصّلاً إلى فصل الطعن بشكل نهائي، كون المطالبة موضوعه تتّصف بأكثر من محقّة، وأكثر من ملحّة (لا سيّما أنّه لم يصر إلى ضمّ الاستئناف الآخر المتعلّق بحكم الطلاق والحضانة والنفقة إلى هذا الملفّ إلاّ بتاريخ 8/3/2016 وبناء على طلب المستأنف عليه نفسه)، راح الأخير يتقدّم بطلبات مستعجلة متتالية تمحورت جميعها حول آلية المشاهدة والإصطحاب، التي تشكّل في واقعها أساس النزاع، لا يستقيم بتّها إستباقاً واعتماد آلية نهائية متكاملة بشأنها قبل القرار النهائي؛
وبما أنّه في إثْر كلّ تلك الاستدعاءات، تقدّم المستأنف عليه في 26/5/2016 بـ”طلب مستعجل” ورد فيه بحرفية كتابته وصياغته ما يلي: “لمّا كان قد صدر خلال شهر حزيران 2015 عن محكمة البداية في جبل لبنان (غرفة الرئيسة مطر) الحكم الذي قضى بإعلان طلاق المستأنف عليه من المستأنفة وتنظيم المشاهدة والنفقة، ولمّا كان الحكم المستأنف كان من التدابير المؤقّتة قبل صدور الحكم النهائي عن نفس المحكمة البدائية، وبما أنّه وبعد حوالي خمس سنوات من صدور حكم المشاهدة المؤقّت لم تتمكّن محكمتكم الموقّرة من تنفيذ أيّ من الحقوق الطبيعية للمستأنف عليه لجهة مشاهدة أولاده كون القرار المتخذ من قبل محكمتكم لمشاهدة الأولاد في منطقة البترون لعدّة ساعات خلال يوم واحد غير قابل للتنفيذ لأنّه سيقضي الأولاد وقتهم على الطريق من وإلى بيروت وخاصة في أزمة السير هذه ، ولمّا كان الحقّ الطبيعي للوالد أن يصطحب أولاده دون وجود والدتهم لم يؤمّن بعد، ولمّا كانت محكمتكم مؤلّفة من قضاة نساء مشهود لعلمهن، ولكنّ الفئة المستهدفة من عنصر الرجال غير ممثّلة ممّا أثّر على قرار محكمتكم لناحية النظر لمشاعر الوالد المحروم من مشاهدة أولاده بطريقة لائقة وباستقرار،وبما أنّ استمرار حرمان الوالد من قرار عادل لمشاهدة أولاده قابل للتطبيق من مرجعكم يحتّم عليه اعتبار أنّ مرجعكم قد انحاز إلى موقف فريق من الفرقاء، لجميع هذه الأسباب، ولما تراه محكمتكم الموقّرة عفواً، نطلب إتخاذ القرار بتنحّي رئيسة المحكمة عن هذه القضيّة لكي تتمكّن المراجع المختصة من تعيين أحد ممثّلي الرجال من القضاة لينضمّ لمحكمتكم الموقّرة ومن ثمّ اتخاذ القرار المعجّل التنفيذ القابل للتنفيذ منطقياً وجغرافياً وعملياً حسب جغرافية وتضاريس وطرقات ومسافات لبنان وأزمة السير الدائمة، وتنفيذ قرار محكمة البداية حول المشاهدة، واستطراداً ما يمكن تطبيقه عملياً لناحية المشاهدة بالوقت الكافي في البترون”.
وبما أنّه لمناقشة هذا “الطلب المستعجل”، يقتضي تسديد النقاط التالية:
النقطة الأولى: بما أنّ المستأنف أورد جملة من المعطيات الملتبسة لا بدّ من توضيحها:
1) إنّ الحكم النهائي الصادر في تشرين أوّل 2011 وعلى ما صار توضيحه آنفاً، هو الحكم الذي نظم مشاهدة القاصريْن واصطحابهما، وليس حكم حزيران 2015 المتعلّق بدعوى الطلاق والحضانة والنفقة؛
2) إنّ هذه المحكمة كمحكمة موضوع، ليست المرجع الصالح “للتمكين من تنفيذ حقوق المستأنف عليه الطبيعية ” المقضي بها بموجب الحكمين المذكورين لا إجرائياً ولا موضوعياً ولا واقعياً، وللتنفيذ أصول غير مطروحة أساساً للبحث؛
3) إنّ قرار 11/12/2014 ينطوي على مجرّد تدبير مؤقت أجازته المادة 589/أ.م.م. صدر بحالة القضيّة في حينه، وانطلاقاً من ظاهر الأوراق والمستندات، وجلّ غايته بانتظار فصل النزاع تمكين المستأنف عليه من مشاهدة واصطحاب ولديه، وذلك من خلال آلية مستعجلة ومؤقتة تتّسم بالمقبولية في مرحلة ما قبل القرار النهائي، دون أن يكون للمحكمة في معرضه من الناحية القانونية، الغوص في جوهر النزاع أو توسّل التحقيقات المعمّقة والمفصّلة، فالتدبير لم يُتّخذ، لا على أساس مسقط رأسه ومحلّ إقامة والديه قرية راسنحاش، ولا انطلاقاً من موقعها الجغرافي، ولا قياساً على المسافة التي تفصلها عن محلّ إقامة أو مركز عمل فريقي النزاع أو عن موقع مدرسة الولدين ومراكز نشاطاتهما الرياضية والترفيهية، ولا استناداً إلى دراسة دقيقة ومنطقية لجغرافيا و”تضاريس” وطرقات لبنان والمسافات الفاصلة ما بين شماله وعاصمته، ودون الالتفات إلى أزمة السير التي يعاني منها سالكو الطريق من بيروت إلى راسنحاش وبالعكس، وذلك لسبب بسيط هو: آنية القرار ومحدوديته زمنياً ومكانياً، ومحدودية الغاية المُراد تحقيقها من خلاله واقعياً وقانونياً؛
النقطة الثانية: بما أنّه بكلّ التحفّظ والتردّد الذي يُدرِكُ العارف في كلّ مرّة يُضْطَرّ فيها وبمواجهة النكوص إلى توضيح ومناقشة بديهيات وثوابت ومسلّمات على أهمّيتها، هي في مُسْتَقرّ ألف باء المعرفة، لا بدّ للمحكمة، وإعمالاً للأحكام الملزمة المنصوص عليها بموجب الفقرة ما قبل الأخيرة من المادة 537 والمادتين 366 و369/أ.م.م.، وطالما على المحكمة أن تُضمِّن حكمها تحت طائلة البطلان حلّاً لجميع المسائل المطروحة من الخصوم، وأن تبيّن الأسباب الملائمة لذلك، وتالياً أن تفصل بموجبه بكلّ ما هو مطلوب من التصدّي إلى المسألة المثارة المتعلّقة بجنس أعضاء هيئتها؛
وعليـــــــــــــــــــــــــــــــه، وبما أنّ البند (ب) من مقدّمة الدستور اللبناني ينصّ على أنّ ” لبنان …عضو مؤسّس وعامل في منظّمة الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتجسّد الدولة هذه المبادئ في جميع الحقوق والمجالات دون استثناء”.كما ينصّ البند (ج) منها على أنّ “لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحرّيات العامة وفي طليعتها حرّية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الإجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل”. كما أنّه بموجب المادة 7 من الدستور اللبناني “كلّ اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتّعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحمّلون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهم”. كما تنصّ المادة 12 منه على ان “لكلّ لبناني الحقّ في تولّي الوظائف العامة لا ميزة لأحد على الآخر إلّا من حيث الاستحقاق والجدارة حسب الشروط التي ينصّ عليها القانون …”. كما أنّ المادة 20 منه تنصّ على أنّ “السلطة القضائية تتولّاها المحاكم … ضمن نظام ينصّ عليه القانون ويحفظ بموجبه للقضاة والمتقاضين الضمانات اللازمة. أمّا شروط الضمانة القضائية وحدودها فيعيّنها القانون. والقضاة مستقلّون في إجراء وظيفتهم وتصدر القرارات والأحكام من قبل كلّ المحاكم وتنفّذ باسم الشعب اللبناني”.
وبما أنّ الدستور اللبناني ساوى في المبدأ بين كلّ اللبنانيين دون أي تمييز، ولا سيّما على أساس الجنس: أنثى أم ذكر؛
وبما أنّه لا التنظيم القضائي ولا قانون تنظيم مهنة المحاماة ولا نظامها الداخلي، ألمح استناداً إلى جنس القاضي أو المساعد القضائي أو المحامي كلّ من موقعه، إلى أيّ تمايز أو تفرقة في الحقوق والواجبات، حين تولّي المراكز والمناصب والمهام، وحين تأدية الواجب الوظيفي أم المهني سواء في سلك القضاء أم في مهنة المحاماة، أو حتّـــــــــــــى إلى جنس المتقاضي، حين التقاضي؛ فالمرأة القاضية في المؤسسة القضائية عامةً، تتولّى المهام القضائية، أسوة بالقاضي الرجل، كما تتولّى في معرض عملها القضائي تحديداً، القضايا بكامل المسؤوليات والصلاحيات والتمكين والثقة، ابتداءَ من توجيه الملفّ وإدارة الجلسات وصولاً إلى إصدار حكمها فيه باسم الشعب اللبناني؛ كما أنّه وفي الموقع المعاون والمؤازر للقضاة:
أ) تتولّى المساعدات القضائيات كما المساعدون القضائيون دون أدنى تفرقة، كامل المهام والمسؤوليات المتعلّقة بطبيعة الوظيفة ومقوّماتها،
ب) وللمحاميات النساء كما الرجال تماماً تمثيل موكّليهن أمام المحاكم والهيئات القضائية والتحكيمية الخاصة، وفي كلّ تصرّف أو عمل أو معاملة ترتبط بمهنتهن أو تنبثق عنها؛ وفي القانون اللبناني تعامل المرأة رسمياً بشكل متساوٍ مع الرجل أمام المحاكم سواء كمدعية أم كمدعى عليها من حيث أداء الالتزامات أو استيفاء الحقوق؛
وبما أنّ القضاء كإحدى السلطات الثلاث في الدولة، وكمرفق عام يتصدّر أهدافه إقامة وتوطيد وإرساء أسس العدل بين أفراد المجتمع (من الجنسين)، بما يفضي إلى تحديد المبادئ العامة الأساسية للتنظيم القضائي ومنها:
ألف: المساواة أمام القضاء، فالقضاء ليس فقط سلطة من ثلاث التي يفترض أن تقوم عليها الدول الحديثة الراقية والعادلة، بحيث يتساوى المواطنون فئة واحدة أمام القضاء لا ميزة للواحد منهم على الآخر (لا سيّما لجهة ما يتعلّق بجنسه، رجلاً كان أم امرأة)؛
باء: تعدّد القضاة (من السادة القضاة، والسيّدات القاضيات)، والقاضي الفرد (رجلاً كان أم امرأة)، فالمحاكم عامة وفي كلّ الاختصاصات ودون أيّ استثناء، تتألّف من غرف أو أقسام، القسم يتولّاه رئيس فرد، والغرفة تتولّاها هيئة مؤلّفة من ثلاثة قضاة: رئيس وعضوين أو مستشارين، وهيئة المحكمة: (يمكن أن تتألّف من ثلاثة رجال، أو ثلاث نساء، أو رجلين وامرأة، أو امرأتين ورجل)، رئاسة هيئة المحكمة: (يمكن أن يتولّاها إمّا رجل وإمّا إمرأة)، والقسم: (يمكن أن يتولّاه رئيس رجل أو رئيسة إمرأة)،
جـيم: واجب القاضي (رجلاً كان أو امرأة) في إصدار الحكم وتعليله، فالمحكمة المؤلّفة من قاضٍ فرد (أيّاً كان جنسه) أو من هيئة (أياً كان جنس القضاة المؤلّفة منهم) عليها الالتزام بالقانون وتطبيقه حين إصدار الحكم، كما عليها تعليله بعد تدقيق الوقائع وتطبيق النصوص عليها إحقاقاً للحقّ وإرساء للعدل، وهذا متاح من خلال علم القاضي وكفاءته وسويّته الأخلاقية والقِيَمِيّة، (وليس من خلال جنسه)؛
دال: كفاءة القاضي (رجلاً كان او امرأة) ونزاهته، فانه ولانتظام سير القضاء وضمان العدالة في فصل الخصومات، لا بدّ في المبدأ من أن يتمّ تعيين أشخاصه (من قضاة وقاضيات) من الصفوة، ممن يتمتعون بالمؤهّلات العلمية والخبرة الواسعة المتينة والمتجذّرة في المجالات الحقوقية، ويتحلّون بمزايا خلقية إستثنائية ترقى إلى المصاف الإنساني الأسمى: في الحكمة والرفعة والأنفة والكفاية والعفاف والعصمة والتجرّد والموضوعية والنقاء والرصانة والحصافة والتواضع وطيب السيرة والسمعة ..الخ، تجتمع كلّها في توقه إلى العدالة، والأهمّ: في “اللا إنتماء”، لا إنتمائه إلّا إلى عالمه القيميّ، إلى الواجب والضمير في حَضْرَة كلّ “قضية” أو “معاناة” أو “مسألة” قابعة بين دفّتي الاضبارة المعهود بها إليه، فالإستقلالية تُفرض من داخلٍ ولا تُطلب أو تُستَجدى من خارج. بما يكسب القاضي (رجلاً كان أم امرأة) حصانة ذاتية، ويشكّل الضمانة الحقيقية لعدم المحاباة وعدم الاستزلام، وبالتالي لعدم تحيّزه لمصلحة أحد الخصوم (رجلاً كان أم امرأة) ولتمسكه بتطبيق أحكام القانون على الوقائع الثابتة في القضيّة بكلّ تجرّد، إحقاقاً للحقّ، وذلــــــــــــــــك على وجه يكفل إصدار أحكام علمية صحيحة، وعادلة راجحة بين كلّ المتقاضين والمتقاضيات(من الجنسين)؛
هـاء: وفضلاً عن معاونة المساعدين القضائيين والمساعدات القضائيات للقاضي وللقاضية، كذلك معاونة المحامي له (والمقصود المحامي والمحامية) في كلّ مرّة يوجب النصّ القانوني أن توكل القضيّة إلى محامٍ منتسب أو محامية منتسبة إلى نقابة المحامين. محامٍ رجل أو محامية إمرأة، تماماً كما في القضيّة بالنسبة لوكيلي المستأنف عليه القانونيين: الأستاذ المحامي ج. ك.، والأستاذة المحامية غ. ض.. من بين أولئك الموسومين والموسومات بالمهنية والثقة والمصداقية والإستقامة والأمانة والإحترام، من أصحاب وصاحبات العلم والقدرة والاختصاص في مجالات القانون، المؤهّلين والمؤهّلات. بما يتفق والواجبات المهنية تجاه الموكّلين (رجالاً ونساءً) ويتّفق ومضمون اليمين المهني وموجب الالتزام بقانون تنظيم مهنة المحاماة وبالتنظيم الداخلي لنقابة المحامين، إيفاءَ القضية حقّها من الدراسة والتوجيه، وتسديد كلّ النقاط المطروحة فيها والجواب عليها دون إهمال أو إغفال، والسير بها عبر المسالك القانونية القويمة والنصوص الإجرائية والموضوعية المنطقية والمنتجة، والتقدّم بالدفوع والدفاعات الكاملة والواثقة وغير المنتقصة والطلبات الصائبة، وصولاً بها إلى مرحلة الحكم النهائي مكتملة متماسكة غير مقطّعة الأوصال، وبالتالي وصولاً إلى قضاءات يطمئن لها عقل القاضي ووجدانه (القاضي الرجل أو القاضية المرأة)، دون أن يتآكله في حال النفي، الأسف والأسى، إذا ما حال دون إحقاقه الحقوق، قصورُ، أو ذهول أو خطأ أو جنوح أو خواء المرافعات والمدافعات في القضيّة؛
أمّا لجهة ما يتعلّق بأداء المحامي (المحامي الرجل والمحامية المرأة) أمام القضاة (رجالاً ونسوةً على السواء)، فلا بدّ أن ينطوي على سوية أدبية وعلمية، يتفق وكرامة ورقيّ المحاماة وأصولها، وما يجب أن يختزنه بانتسابه إليها من علم ومعرفة في مجال القانون، ممّا يستدعي تجنّبه ما يخلّ باللياقة والإحترام تجاه المحكمة (سواء تولّاها نساء أم رجال)، وكلّ ما يحول دون حسن سير العدالة وأصول سيرها في الوجهة الصحيحة المستقيمة؛
وبما أنّه في ضوء المُسلّمات أعلاه، يُلاحظ بالعودة إلى مندرجات الطلب المستعجل تاريخ 26/5/2016 المشار إليه المقدّم بواسطة الوكيلين القانونييْن المحامييْن : الأستاذ ج. ك. (الرجل) والأستاذة غ. ض. (المرأة):
– أنّ المستأنف عليه (الرجل)، يصنّف نفسه منضوياً في النزاع الراهن ضمن “فئة مستهدفة”؛
– أنّ المستأنف عليه (الرجل)، يشكو استهدافه نسويّاً، استهداف مصدره هيئة محكمة تتألّف من رئيسة ومستشارتين (أي من ثلاث سيّدات)؛
– أنّ المستأنف عليه (كرجل) وفي خضم فوبيا “استهدافه” المُعَبَّر عنه بصفاقة، يفتقد في هيئة المحكمة “عنصر الرجال” غير الممثّل فيها شاكياً غيابه، “عنصر” يعيب على هيئة المحكمة عدم وجوده فيها؛
– أنّ المستأنف عليه (الرجل) يعبّر عن حيف لاحق به بنتيجة غياب هذا “العنصر” كمن يستحضر تاريخ “العنصرية” مستخرجاً عصارتها في أسطرٍ تَقَدّمَ بها قاصداً مخطّطاً مصمّماً، مصرّاً على مضمونها وعلى إبقائها في الملفّ كإحدى أوراقه، تقدّمَ بها إلى محكمة، تصنيفها الحقوقي والإنساني والأخلاقي العام والمعروف والمحسوم، من فئة: المشهود لها؛
– أنّ المستأنف عليه (الرجل- المستهدف) ينشد “عنصر الرجال” ويناشد هيئة المحكمة ذاتها، تنحية (؟) رئيستها القاضية (المرأة) وتعيين قاضٍ (رجل) كفرد من أفراد هيئة المحكمة وإحلاله محلّها في الرئاسة؛
– أنّ المستأنف عليه (الرجل المستهدف نسوياً) يشكو هذا الاستهداف ويطالب بتنحية رئيسة المحكمة (المرأة) وبتعيين قاضٍ (رجل) مكانها، يكفل بوجوده لجم المفاعيل السلبية لحضور السيّدتين المستشارتين في هيئة المحكمة، ويأمن في ظلّه خطر الاستهداف ووقْع الظلم، ولربّما يستجيب حسب رؤياه لرغباته الأبوية الملحّة، ويمنحه بفعل قدراته المتفوّقة لكونها رجالية، قرارأ مؤقّتاً مخالِفاً للقانون بصيغة نهائي قبل أوانه؛
– غير أنّ المستأنف عليه (المستهدف) لم يحدّد بالظبط المواصفات التي ينشدها في العنصرـ الرجل المطالب بتعيينه؛
– أنّ “العنصر” الذي يطالب المستأنف عليه (المستهدف) بضمّه إلى أفراد هيئة المحكمة ـ بمعزل عن أيّ مواصفات أخرى أو إضافية من أيّ نوع كانت ـ إنّما ينشده فقط لجنسه؛
وبما أنّ المبادئ والنظم والأحكام القانونية المنطبقة المشار إليها آنفاً، والتي توسّلتها قاضيات المحكمة أيّ هيئة المحكمة من أجل بتّ هذا الطلب المستعجل، خيّبت نصوصُها مطالب المستأنف عليه، إذ لم يكن لفطنة وحصافة المشرع على اتساعهما، إدراك أمر حقوقي يرقى إلى مصاف “قضية” كمثل تلك التي ينشدها المستأنف عليه وشعارها: للمرأة قاضية تحميها، وللرجل قاضٍ يحميه ..
أمّا المحاماة ـ المهنة ـ الرسالة ـ الأصول ـ الآداب ـ العلم – الكفاءة، فلها رَبّة تحميها، من قلب بيتها العريق، «نقابة المحامين» القابع في قلب أمّ الشرائع، رَبّة تحميها وتظلّل نقباء وأعضاء من أساتذة ومن أستاذات؛
وأمّا القانون فله غمار، وله رجالات تخوض غماره، تخوضها بالرجولة، تخوضها بالمروءة، تخوضها بالعلم الخالص؛
أمّا المُستوقِف في المسألة المعروضة، يكمن في أنّ “العنصر” الذي يطالب المستأنف عليه (المستهدَف) بضمِّه إلى أفراد هيئة المحكمة، ليس أبداً من أجل خوض غمار القانون بالعلم والرجولة والمروءة، وليس لـ ” مأثرةٍ” علمية أو إنسانية يصبو إلى توقيعها عبر “قضيّته” على جبين الحقّ والعدالة، أو في الذاكرة القضائية أو الإنسانية، إنّما يطــالــب بــه فقط لذكورته، ولكـــــــــــن، لم يكن ليُتصوّر للمستأنف لبرهة بأنّ “الطلب المستعجل” الذي اقتحم به، بما أوتي من علم وفطنة ميدان القضيّة، بعدما أدرك لبّ عقدتها القانونية وفقه حلّها، الحلّ القانوني الصرف المتمثّل بإزاحة إحدى سيّدات هيئة المحكمة، لم يكن ليُتصوّر له أنّ “الطلب المستعجل” المذكور ـ الذي أبى سحبه من الملفّ معبّراً عن تمسّكه المستميت به ـ سيُخلّده قرار قضائي ممهور بتوقيع “ثلاث سيّدات من رجالات القانون ومروءاته”، بتوقيع ثلاث سيّدات، استقرّ لديهنّ الرأي والإجتهاد، على أنّه ليس بالشعارات وبالتدافع والصراخ المنظّماتي ـ ذي العناوين الموجّهة المخطّط لها والمدفوعة الأجرـ تُستجلب للمرأة ولا لغير المرأة حقوق، وذلــــــــــــك:
ـ لكون المساواة بين الرجل والمرأة ـ كلّ من خلال محوريته ودوره ومن خلال طبيعته وجنسه ـ متحقّقة بالفطرة،.مساواة نابعة أيضاً من داخلٍ، بحكم الكينونة، بحكم الأنسنة، بحكم الدور والأداء، وبحكم الفعل في المجتمع كلّ من موقعه مهما ضؤل أو عظُم، ولكون جوهر المشكلة بالنسبة للمرء أيّ لكلّ من الرجل والمرأة، وللمجتمع عامة، لا يكمن في عدم المساواة، والمساواة قائمة فعلاً بحكم الطبيعة، بل يكمن في مستوى الوعي ومستوى بديهيات الأخلاق والقيم ومستوى اللاشخصانية واللاأنانية واللاتبعية المرتبطة بمفهوم الخير العام ومصلحة المجتمع المطلقة، ويشكّل بالتالي محورية السعي الجاد والنضال الحقيقي؛
أمّا إذا كان “عنصر الرجل” الذي يطالب به المستأنف عليه، لا لكون النساء اللواتي تتألّف منهن هيئة المحكمة ” ناقصات علم “، بل لقناعة لديه:
ـ بِأنهن “ناقصات وجدان”، أو “منعدمات الحسّ الانسانيّ الوالديّ الأبويّ”، وبِأن وجود الرجل في موقع رئاسة الهيئة الحاكمة (وهي لعلم غير المدقّق، رئاسة محض إدارية، بمفهومٍ أقرب إلى تعقيب معاملات المحكمة) من شأنه مؤازرته نفسياً كزوج ووالد، ومواكبة مطالبه الرجّالية، وتحصين رجّاليته المستهدفة، ومعاضدته في محنته كوالد محروم من مشاهدة أولاده، وتعطيل المفعول الداهم لاستهداف تضمره المستشارتان، فيُردّ على ذلك بأنّه ليس للقاضي، ليس لرجل العلم والقانون، صَوْغ القرارات بمشاعره وميوله رجّالية كانت أم نسويّة، وليس له خارج الأطر القانونية، أن يستجيب لطلبات متقاضٍ أو متقاضية، مستنداً إلى رغبات أيّ منهما المتولّدة عن أيّ سبب كان، بل يبتّها في ضوء مدى استجماع المحاكمة لعناصرها الإجرائية والموضوعية، التي تمكّن المحكمة من النطق بالقرار الفصل بشأن النزاع وفقاً للقانون ولأحكامه المنطبقة؛
ومن جهة ثالثة، بما أنّ المسألة القانونية الأخيرة المنبثقة عن هذا المحور، تتمثّل في أنّ المستأنف عليه يطلب من هيئة المحكمة إصدار القرار بتنحي رئيستها عن هذه القضيّة لكي تتمكّن المراجع المختصة من “تعيين أحد ممثّلي الرجال من القضاة” لينضم إليها، مسألةُ بدورها لم تجد لها المحكمة إسناداً في القانون؛ فالمادة 120/ ا.م.م. تناولت أسباب وآلية تقديم طلب ردّ القاضي، التي تخوّل الخصوم أو أحدهم التقدّم بهذا الطلب وفقاً للأصول، في ضوء أحكام المادة 123/ ا.م.م. وعند توافر أحكام المادة 124/ أ.م.م. حتّى تعمد الغرفة المكلّفة بنظر مثل هذا الطلب، إلى بتّه؛ كما أنّ المادة 121 معطوفة على المادة 120، وكذلك المادة 122/ ا.م.م. تناولتا مسألة تنحي القاضي، وآلية هذا التنحي، وذلك إذا ما توافرت أسباب رأى (هو) أنّها تستجمع شروط أو دواعي تنحيه، ولم يشر النصّ إلى أيّ إجراء مفاده، (ولأيّ سبب كان، ومنها الإستبدال بجنس آخر) “أن تصدر هيئة المحكمة الناظرة في النزاع قراراً بتنحية رئيسها أو بتنحّي رئيسها، أو أحد أعضائها أو مستشاريها”، الأمر الذي يعني انتفاء أيّ طلب ردّ مقدّم في الملفّ وفقاً للأصول ضدّ أيّ فرد من أفراد هيئة المحكمة، لا سيّما رئيستها، فضلاً عن انتفاء بالمقابل أيّ طلب تنحٍ مقدّم من هذه الأخيرة أو حتّى من إحدى المستشارتيْن، بحيث يكون طلب [التنحية] المذكور، وبالشكل الوارد فيه، مجرّداً من أيّ قيمة أو إنتاجية قانونية؛
وفي الخلاصة، ولكلّ الأسباب والعلل والمبادئ والأحكام المبيّنة أعلاه يردّ كلّ ماورد في الطلب المستعجل الذي قدّمه المستأنف عليه بتاريخ 26/5/2016، لخرقه أحكام الدستور اللبناني وكلّ المبادئ والقوانين الوطنية الوضعية، لا سيّما التنظيم القضائي وأصول تنظيم مهنة المحاماة والنظام الداخلي لنقابة المحامين، فضلاً عن خرقه قانون الطبيعة والفطرة الإنسانية، بــــــــــــــــــل لعدم سوِيّته وتداعيه، على أن يصار إلى اعتبار الطلب المذكور جزءاً لا يتجزأ من هذا القرار وكأحد مكوّناته، وذلك بعد تدوين عبارة “كي لا يبدّل” عليه ومهره بتوقيع أفراد هيئة المحكمة: القاضيات السيّدات رئيستها ومستشارتيْها؛
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 17 – أيّار 2017).