قصّتي مع القاضية سلام شمس الدين/علي الموسوي
علي الموسوي:
حزن العدالة الحقّة مضاعفٌ برحيل سلام شمس الدين.
هذه القاضية التي حلّقت في عالم القانون بقراراتها المتعدّدة فدخلت قلوب كلّ من عرفها من قضاة ومحامين، وتركت لديهم حضورًا مشّعًا يبلسم العمر، ويطمئن إلى أنّ العدل بخير.
نادرًا جدًّا ما يميل الصحافي إلى متابعة أخبار القضاة العاملين في القانون المدني باعتبار أنّ الرأي العام الذي يتوجّه إليه، يميل بطبيعة الحال إلى أيّ خبر جزائي مهما كان حجمه ولو على هيئة ضربة كفّ، وذلك أكثر من أيّ اجتهاد قضائي سطّرته محكمة التمييز وأخذ من قضاتها جهودًا مضنية ووقتًا ثمينًا وبحثًا وتنقيبًا وقراءة وإعمالًا للعقل والمنطق.
غير أنّ الأمر مع سلام شمس الدين كان مختلفًا، إذ إنّ سمعتها الطيّبة في قصر عدل بيروت كانت تسبقها في التعريف بها، كما أنّ جلساتها على قوس المحكمة كثيرًا ما كانت تشدّ الحاضرين لما تمتّعت به من دماثة في الأخلاق واندفاع للعطاء بلا منّة وبلا حدود، والأهمّ لديها أنّ الناس سواسية، وهذا هو العدل بحدّ ذاته.
عرفتها عن بُعْد في بدايات دخولي إلى العدلية من بوّابة القاضي فيليب خيرالله وتوجيهاته المرحّبة في 19 أيّار من العام 1997، إلى أن حصلت حادثة طريفة أوجبت التعارف عن قرْب.
فذات يوم من العام 2002، حصلتُ على كامل مشروع تشكيلات قضائية كانت قيد الصدور، وذهبت إلى عملي في جريدة “السفير” متكتّمًا عمّا في شباكي من صيد يسيل له اللعاب، وينتظر الجميع خارج العدلية وداخلها معرفة تفاصيله، وهذا ما يحصل مع كلّ تشكيلة قضائية.
وصودف أنّ الأخبار السياسية في بلد العجائب لبنان يومذاك لم تكن من النوع الدسم الذي يستحقّ أن يكون “مانشيت” صحيفة يومية مقروءة بوزن “السفير” ومكانتها، فاقترحتُ نشر مخزوني وهكذا كان.
ولكنّني ارتأيت ألّا أنشرها حرفيًا من باب اللياقة والتقدير لمجلس القضاء الأعلى، قبل أن تصدر بشكل رسمي ونهائي وقبل أن يجول المرسوم على وزيري العدل والمالية ورئيسي مجلس الوزراء والجمهورية لنيل بركات تواقيعهم الإلزامية.
ولئلّا ينكشف المصدران اللذان استقيت منهما هذه التشكيلة، وأحدهما كان النائب العام التمييزي القاضي عدنان عضوم رجل العدلية الأوّل من دون منازع في حقبة تسعينيات القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين، قمتُ بتغيير إسمين من دون أن يؤثّر ذلك في جوهر ما اخترت من أسماء مضمونة في هذه التشكيلات، كانت سلام شمس الدين أحدهما.
فقد جعلتها رئيسة لغرفة في محكمة التمييز مكان القاضي شبيب مقلّد وهو عضو في مجلس القضاء الأعلى، وبالتالي ثابت في مركزه ولا يمكن تغييره ولا نقله، ولا يوجد موقع أعلى ممّا هو فيه لكي يحظى به. كما أنّني بهذا الإختيار أعطي المنشور مصداقية أكبر لمن يدرك أنّ هذ الخطأ مقصود.
وهكذا كان. صدرت”السفير” في اليوم التالي، و”المانشيت” يحاكي التشكيلات المنتظرة، وإذ بالمحامين ينهالون على الريسة سلام وهي جالسة على قوس محكمتها في الطابق الثاني من العدلية، بالتهاني والتبريكات بترقيتها من رئاسة غرفة في محكمة الإستئناف إلى رئاسة غرفة في التمييز، من دون أن ينتبه أحد إلى “مكيدتي” الإعلامية التي فرضتها أخلاقيات المهنة والتزامي الأدبي بعدم نشرها حرفيًا قبل صدورها رسميًا.
للوهلة الأولى فوجئت سلام شمس الدين بهذا الخبر غير الوارد لديها آنذاك، وما لبثت أن انتهبت إلى حيلتي فاستدعتني عبر محام صديق إلى مكتبها فحضرتُ طائعًا مختارًا بكامل إرادتي وقواي العقلية واستقبلتني هي بابتسامة لا تغيب عن البال وأخبرتها الحقيقة والسبب الفعلي، فازدان وجهها الجميلُ بابتسامة أكبر.
أجبر المرض اللعين سلام شمس الدين على ترك القضاء وهي الشغوفة به طوال 35 عامًا، قبل تقاعدها رسميًا، فقدّمت في تشرين الثاني 2020 كتاب استقالتها على مضض، إلى أن أسلمت روحها إلى بارئها يوم الثلاثاء الواقع فيه 20 نيسان 2021، تاركة حسرة في قلب كلّ من عرفها وتدرّج على يدها وجالسها على قوس محكمتها يستزيدها معرفة وخبرة وإدارة حكيمة، فإذا كان من المهمّ أن يجلس القاضي على القوس ويرأس هيئة المحكمة، إلّا أنّ الأهمّ منه أن يتقن فنّ إدارة الجلسات والمحاكمات بضمير حيّ يرضي الله أوّلًا وأخيرًا. سلام شمس الدين كانت من هذه الفئة لذلك كانت تستحقّ رئاسة غرفة محكمة في التمييز ذهبت إلى سواها بفضل الرضى السياسي.
لقد عُرفت سلام شمس الدين بحضورها البهي في أيّ موقع قضائي شغلته منذ تخرّجها من معهد الدروس القضائية ضمن مجموعة من القضاة المميّزين في العام 1989، فضلًا عن رفعة أخلاقها وارتباطها بحبّ الناس وعلاقتها المتينة بالقانون، والدليل ما سطّرته من قرارات وخصوصًا في الإيجارات.
منذ البدء، دخلت سلام شمس الدين رئيسة وخرجت رئيسة، وهذا وحده دليل على مكانتها القانونية.
ولدت شمس الدين في محلّة الغبيري في الضاحية الجنوبية لبيروت في 5 أيلول 1957، ودخلت إلى القضاء في 8 نيسان 1985 ضمن دفعة مميّزة قوامها: سهيل عبود، ماجد مزيحم، روكز رزق، سهير الحركة، ريما شبارو، إلهام عبدالله، أيمن عويدات، ناجي عيد، نبيل وهبة، يوسف ياسين، وناهدة خدّاج، وشغلت المراكز التالية:
• قاض منفرد بالوكالة في بيروت في العام 1990، وبقيت قاضيًا منفردًا في بيروت بالأصالة بين العامين 1993 و1995.
• رئيسة محكمة الدرجة الأولى في بيروت في 21 أيلول 1995.
• رئيسة محكمة الدرجة الأولى في جبل لبنان(جديدة المتن) في العام 1997.
• رئيسة محكمة الاستئناف في البقاع في العام 1999.
• رئيسة محكمة الاستئناف في بيروت منذ العام 2000 ولغاية تقديم استقالتها مرغمة ووصلت إلى الدرجة 21.
رحم الله هذه القاضية القدوة والمميّزة وأسكنها الفسيح من جنانه، وأحرّ التعازي لعائلتها وخصوصًا صهرها القاضي رامي عبدالله وابنتها القاضية لميس كزما.
“محكمة” – الأربعاء في 2021/4/21