قضاة من النيابات العامة.. “قدوة الإنسانية”/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
هل النيابات العامة دوماً بلا ضمير؟ وهل هي بالفعل وحتّى النفس الأخير، عدوة المتهمين أو المدعى عليهم؟ وهل من يعتليها يعيش في عالم الأحلام ولا يطأ الأرض أبداً فيظلّ محلّقاً في عالمه الخاص البعيد عن الواقع؟!.
لا شكّ أنّ هذه الأسئلة التي كثيراً ما تراود الناس باختلاف مشارب تفكيرهم، تحمل في طيّاتها ظلماً أين منه ظلم النيابات العامة نفسها عندما تكون مقتنعة بوجوب توقيف الإنسان لمجرّد أنّه يتنفّس! ولكنّ الحقيقة مغايرة تماماً فليس كلّ من اعتلى صهوة هذه النيابات كان كافراً بالإنسانية، أو ظالماً لا يقدّر عدالة الله، بل على العكس تماماً، فهناك رجال عبروا هذه النيابات العامة في مراحل وتواريخ مختلفة يعرفون أنّ قيمة الإنسان أرقى من أن تمسّها قيود الظلم والظلام مهما اشتدّت وتيرة الخذلان.
نعم لقد مرّ في هيكل النيابات العامة قضاة شرفاء وأشراف لا يزال صدى أصواتهم الجهورية يرنّ وبقوّة في ردهات قصور العدل والمحاكم، وليس في بطون الكتب والتاريخ فقط، لوقوفهم إلى جانب الحقّ حتّى ولو كان محكوماً بأدلّة باردة لا تخرجه من سطوة قانون موضوع بغفلة تشريعية ليكون حاقداً على الإنسان.
نعم لدينا راجي الراعي ووقفته البطولية الشهمة ضدّ الظلم في قضيّة الأديبة المفخرة مي زيادة يوم حاك لها إبن عمها مؤامرة الجنون للإستيلاء على ثروتها، فكاد أن يفعل على الرغم من أنّ ثروتها العقلية والأدبية أرفع وأغنى، فقدّر الله لها أن يقع ملفّها بين يدي إبن مدينة زحلة هذا الراعي الذي يعرف عن كثب أنّ حقّ الرعية بالعدالة لا يمكن المساومة عليه، فأطلق صرخاته المدوّية في المحكمة الإبتدائية المدنية في بيروت ضدّ مساعي إلحاق زيادة بركب الجنون، وضدّ فظاعة تركيب الملفّات وصنّاع شهود الزور وشهود الوهْم والوهن، واستطاع أن يقول أمام الملأ كلّه إنّ مكان هذه المخلوقة ليس في دار العصفورية، وإنّما في رحابة الحياة لتمجيد عزفها على أوتار الكتابات الخالدة، وكان له ما أراد، ففازت مي زيادة بحرّيتها وبقيت لنا أديبة تطربنا بما نسجته من أفكار خلاّقة وأدب رفيع بخياله وكلماته وصياغته المجيدة.
ونعم أيضاً لدينا منيف حمدان الرجل الشهم الذي ما جلس على كرسي النيابة العامة ليقبض على أنفاس الناس، بل سجّل وقفات تاريخية بانحيازه التام إلى الحقّ والعدل الحامي للكرامات، وأبدى الكثير من المرافعات بصوته الآتي من سماء الله، ليقول كلمة الحقّ والإنصاف متى استشعر بأنّ ثمّة خطأ فادحاً مرتكباً في متن الملفّ وسطور الدعوى لا يمكن التغاضي عنه، أو إهماله، أو ترك أمر البتّ به لهيئة المحكمة، أو الإكتفاء بكلمات” تطبيق مواد الإتهام”.
وكم مرّة كانت لهذا القاضي المُنيف كاسمه، والصلب والمخلص للنزاهة والإستقامة التي تربّى عليها في بيت أهله الفقير بالمال، والثري بالقيم الإنسانية، اليدُ الطولى في تبرئة مظلوم أوقف عنوةً من خلال ملفّ ركّبته ذهنية متعثّرة دوماً بفقر الإيمان بالحقّ.
ولدينا أسماء أخرى لا تزال مضيئة في رحاب الحقّ وأثبتت من خلال مواقفها أنّها تملك رصيداً كبيراً من النُبْل والشهامة والأخلاق، فما يحرّكها أولّاً وأخيراً، هو إنسانيتها، وما يدفعها إلى صون العدل هو الكرامة التي يتعزّز بها حضور القضاء لدى الشعب.
“محكمة” – الإثنين في 2017/7/17.