قمْ للأستاذ الجامعي المتعاقد أعطه منديلاً!/هانيا فقيه
كتبت الدكتورة هانيا فقيه دندش(أستاذة متعاقدة في الجامعة اللبنانية، كلّية الحقوق والعلوم السياسية):
“وما نيلُ المطالب بالتمنّي ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً، حكمة يضعها اللاهثُ وراء العلم في جامعة الوطن نُصب عينيه إلى أن يصل إلى أسمى درجاته، ويتوّج بتاج الدكتوراه وبتقدير يتراوح بين الجيّد إلى الجيّد جدّاً، فيبدأ مشواره التعليمي وهو في منتصف العمر، بعقد متواضع ينطوي على ساعات معدودة على أمل أن يزداد نصاب ساعاته التعليمية شيئاً فشيئاً، هذا إذا كان “محظوظاً” من البداية في الدخول إلى الحرم الجامعي!
هذا العقد الذي لا ينطوي على أدنى الشروط التي تحفظ للمتعاقد كرامته أو تسهّل عليه معيشته، فلا ضمان صحّي، ولا بدلات نقل أوانتقال، ولا تقديمات اجتماعية، ولا تعويضات، بالإضافة إلى مبلغ زهيد يتقاضاه المتعاقد بعد مرور سنة أو سنتين أو اكثر، يُحسم منه مصالحة، وضريبة دخل، وطوابع تشكّل نسبة كبيرة من قيمة ما يتقاضاه هذا المتعاقد!
ولعلّ القارئ يسأل لماذا ارتضى المتعاقد بهكذا عقد؟ أليس العقد شريعة المتعاقدين! فهو يعلم مسبقاً بالشروط المفروضة ولم يكن مجبراً على الرضى والقبول!
الجواب وباختصار، يتلخّص بالحاجة إلى التعاقد، فالمتعاقد يجد نفسه مضطرّاً للقبول، فقبوله في الواقع ليس إلاّ مجرّد إذعان(1) يتمثّل بصورة الإكراه المعنوي، أو الإكراه الإقتصادي، فيكون أحد الطرفين ضعيفاً أمام الآخر لسبب مرجعه اقتصادي وتقتضيه ضرورات الحياة اليومية لا ظاهرة نفسية، لأنّ الرضى يعتبر صحيحاً من الوجهة القانونية.
ولعلّ المثال الأبرز على الإكراه المعنوي الذي يمكن أن يُصيب رضى المتعاقد، قبول هذا الأخير بشروط مجحفة تفرضها إدارة الكلّية عليه، إذا أتى هذا القبول نتيجة وضع المتعاقد الذي درس وتعب عدّة سنوات، حتّى لا يُعلّق شهادته على الحائط، ومن الضروري بالنسبة له أن يحصل على عمل ويستفيد من شهادته ويؤدّي رسالته التعليمية إلى جامعته الأمّ التي هو أحقّ من غيره بالتدريس فيها كونه يحمل شهادتها، وكما يُقال “أهلُ مكّة أدرى بشعابها”، فيقبل بالشروط المفروضة عليه مذعناً، خاصة وأنّ الأستاذ الجامعي لا خيار لديه إلاّ الأستذة، والجامعة هي المؤسّسة الوحيدة التي يمكن أن يعمل فيها المتعاقد بنفس مجال اختصاصه.
هذه اللامساواة وانعدام التوازن بين حقوق المتعاقد وواجباته، تضع هذا الأخير في حالة من اللاإستقرار الوظيفي والحياتي، فهو قبل أن يكون أستاذاً، هو إنسان ولديه ضرورات أوّليه والتزامات شهرية، قد يتعرّض للمرض ويُضطرّ أن يدخل مستشفى لا يقوى على تحمّل نفقاتها، فعلى الأقلّ يجب إعطاؤه الخيار أمام دفع اشتراك سنوي لصندوق تعاضد الأساتذة الجامعيين لكي يستفيد من تقديمات اجتماعية(2) تصون له كرامته شأنه في ذلك شأن المتفرّغ أو من هو بالملاك، ولا سيّما أنّ هذا الخيار قد ينعكس إيجاباً في التخفيف من الهجوم على التفرّغ في الجامعة اللبنانية، ولا سيّما أنّ الهالة التي تحيط بمركز الأستاذ الجامعي تجعل غالبية المؤسسات والأشخاص تعامله على أنّه شخص مترف ولديه ما فتح ورزق! فتكون الفاتورة بحسب “المقام”، ولا تعلم بأنّ هذا المتعاقد قد يموت على طرقات حالها يشبه حاله، قبل أن تمرّ السنة أو السنتان ليقبض راتبه الموعود، وأنّ سنين طوالاً قد تمرّ دون أن يطاله التفرّغ، فيمرّ العمر به وهو لا يزال ينتظر على عتبة الأمل منشداً:
ﻗﻢْ ﻟﻠﻤﻌﻠّﻢِ ﺃﻋﻄﻪِ ﻣﻨﺪﻳﻼً ﻳﺒﻜﻲ ﺍﻟﻤﻌﻠّﻢُ ﺑﻜﺮﺓً ﻭﺃﺻﻴﻼً
ﻣﺎ ﻋﺎﺩﺕِ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺗﻘﺮُّ ﺑﻔﻀﻠِﻪِ ﻭﺗﺒﺪّﻟﺖْ ﺃﺣﻮﺍﻟُﻪُ ﺗﺒﺪﻳﻼً
ﻟﻢ ﻳﺮﻓﻌﻮﻩ ﻛﻤﺎ ﻳﻠﻴﻖ ﺑﺸﺄﻧِﻪِ ﻟﻢ ﻳﺤﻔﻈﻮﻩ ﻭﺃﻫﻤﻠﻮﻩ ﺫﻟﻴﻼً
ﻭﺃﺧﻮ ﺍﻟﺠﻬﺎﻟﺔِ ﺃﻛﺮﻣﻮﻩ ﻟﻤﺎﻟِﻪِ ﻭﻳﺮﻭﻥَ ﻗﺒﺤﺎً ﺇﻥْ ﺃﺗﺎﻩُ ﺟﻤﻴﻼً
ﻣﺎ ﻋﺎﺩ ﺃﻫﻞُ ﺍﻟﻌﻠﻢِ ﺳﺎﺩﺓَ ﻗﻮﻣِﻬﻢْ ﺑﻞ ﺳﺎﺩَﻧﺎ ﻣَﻦ ﺃﺗﻘﻨﻮﺍ ﺍﻟﺘﺠﻬﻴﻼ
ﺃﻧّﻰ ﺗﻜﻮﻥ ﻟﻨﺎ ﺍﻟﺼﺪﺍﺭﺓُ ﺃﻣّﺘﻲ ﻭﺍﻟﻌﻠﻢُ ﻳﻜﺘﻢُ ﺻﺮﺧﺔً ﻭﻋﻮﻳﻼً؟
____________
1– للتوسّع حول موضوع عقود الإذعان يرجى مراجعة مؤلفنا بعنوان “الرقابة القضائية على عقود الإذعان”، هانيا محمّد علي فقيه، منشورات الحلبي الحقوقية، الطبعة الأولى، 2014.
2- نصّت المادة 22 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 كانون الأول 1948 على انّه “لكلِّ شخص، بوصفه عضوًا في المجتمع، حقٌّ في الضمان الاجتماعي، ومن حقِّه أن تُوفَّر له، من خلال المجهود القومي والتعاون الدولي، وبما يتَّفق مع هيكل كلِّ دولة ومواردها، الحقوقُ الاقتصاديةُ والاجتماعيةُ والثقافيةُ التي لا غنى عنها لكرامته ولتنامي شخصيته في حرِّية”. وقد أقرّ الدستور اللبناني في مقدّمته، إنتماء لبنان الى منظّمة الأمم المتحدة والتزامه بمواثيقها وبالإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
(نشر هذا المقال في النسخة الورقية من مجلّة “محكمة” – العدد 35 – تشرين الثاني 2018)
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يرجى الإكتفاء بنسخ جزء من الخبر وبما لا يزيد عن 20% من مضمونه، مع ضرورة ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.