لماذا لا يعاد النظر بقائمة العقوبات المسلّطة على القاضي المخالف؟
خاص- “محكمة”:
ليس هناك أيّ اختلاف حول ضرورة توخّي القضاة الانضباط القضائي من خلال استقلالهم في ممارسة وظيفتهم لتحقيق العدالة في المجتمع، وعند الفصل في النزاعات المعروضة أمامهم، فهم مستقلّون في إجراء وظائفهم، ولا يمكن نقلهم أو فصلهم عن السلك القضائي أو محاسبتهم إلاّ وفقاً لأحكام قانون القضاء العدلي مع مراعاة أحكام نظام الموظّفين، وما يثار في ما يتعلّق بمعرفة الكيفية التي يمكن البتّ في العقوبات الممكن تقريرها في حالات سوء التصرّف التي يرتكبها القضاة، وما هي طبيعة، أو ماهية، أو درجة العقوبة عند خضوعهم لتدابير تأديبية نصّ عليها القانون بسبب بعض الأخطاء التي يمكن أن يرتكبونها في معرض قيامهم بوظيفتهم على ما هو مقرّر في المادة /83/ من المرسوم الاشتراعي رقم 150/83، حالهم حال الموظّفين العموميين الذين يخضعون لنظام تأديبي يكون في طبيعته جزءاً لا يتجزأ من أحكام وشروط تولّي الوظيفة العامة.
ولأنّ التأديب، وكما هو أمر طبيعي يفرضه كلّ نظام إجتماعي عام أو خاص في سبيل تحصين كيانه والمحافظة على وجوده وتسهيل أعماله، ويدعم فاعلية هذا النظام لما فيه خير وخدمة المصلحة العامة دون غيرها.
وإذا كان النظام التأديبي للقضاة لا يستهدف العقاب في ذاته، بل ضمان سير العمل في المرفق العام القضائي بانتظام، وهو لم ينظر إلى القاضي كعضو غير سوي في (الجسم القضائي) يجب بتره منه، إنّما كعضو أخطأ لسبب أو لآخر ويجب معاقبته ليبقى فعّالاً في عمله تحقيقاً للعدالة المنشودة دوماً، من خلال تطبيق القوانين وإحقاق الحقّ دون أيّ تجاوز، أو مخالفة، أو إهمال بدقّة وحياد وإخلاص ضمن حدود اختصاصه.
العقوبات والحقوق والواجبات
ومن خلال ما تقدّم، ومن خلال حقوق القاضي وواجباته نصل إلى:
أنّ النظام التأديبي (للقضاة) يجب ألاّ يقتصر على ردع القاضي المخطئ – أيّ مجرّد العقاب فقط – ولو كان كذلك، لأضحى سيف عذاب مسلّطاً على رؤوس القضاة، إنّما يجب أن يهدف إلى الجمع بين ضمانتين، الأولى تتعلّق بضرورة حسن سير العمل في الإدارة القضائية بتطبيق القوانين وبكلّ ثقة، والثانية تتعلّق بحماية القاضي من التعسّف في فرض عقوبة تأديبية بحقّه لا تتلاءم مع المخالفة أو الخطأ المنسوب له، على ما نصّت عليه المادة /83/ المذكورة آنفاً المعطوفة على المادة /89/ منه، والتي نصّت على سلسلة من العقوبات التأديبية التي يمكن الحكم بها على القاضي المحال على المجلس التأديبي الذي يمكن الطعن بقراراته أمام الهيئة القضائية العليا للتأديب. ومن تلك العقوبات:
1- التنبيه، 2- اللوم، 3- تأخير الترقية لمدّة لا تتجاوز السنتين، 4- إنزال الدرجة، 5- التوقّف عن العمل بدون راتب لمدّة لا تتجاوز السنة 6- الصرف من الخدمة، 7- العزل مع الحرمان من تعويض الصرف، أو معاش التقاعد(على أنّه وفي حال إنزال الدرجة، يحتفظ القاضي بمدّة أقدميته للترقية، وفي حال العزل مع الحرمان من تعويض الصرف، أو معاش التقاعد، تعاد له المحسومات التقاعدية).
فالعقوبتان الأولى والثانية عبارة عن جزاء معنوي في الأصل، باطنها إنذار خطيّ لحثّ القاضي على تدارك الخطأ، وعدم التكرار، أيّ لفت نظر لتحسين الأداء ومن باب النصيحة والتحذير، وهما أخفّ العقوبات التأديبية، لأنّ آثارها لا تنال من حقوق القاضي المكتسبة، إنّما تحفظ في ملفّه الشخصي كمقدّمة لاتخاذ تدبير أو عقوبة أشدّ وأقصى منهما في حال تكرار المخالفة.
أمّا العقوبة الثالثة، فهي أشدّ من العقوبتين الأولى والثانية، (بالمقابل يمكن إعطاء القاضي ترقية كمكافأة له عن طريق تقريب موعد استحقاق درجته)،لأنّها تتضمّن تأجيل استحقاق الدرجة القادمة للقاضي المُعاقب إلى حين نفاذ المدّة المحدّدة في قرار العقوبة التي تستمرّ آثارها على وضعية القاضي المادية طوال حياته الوظيفية، أضف إلى أنّها تؤثّر بالنتيجة على قيمة المعاش التقاعدي، أو تعويض الصرف الذي يستحقّه عند انتهاء خدمته، كما أنّها تؤثّر على سمعة القاضي ومقدرته.
قساوة العقوبة الرابعة
أمّا العقوبة الرابعة (وبعد الإشارة إلى أنّ القاضي يكتسب بحكم القانون درجة واحدة كلّ سنتين منذ تاريخ تعيينه قاضياً أصيلاً ويتقاضى راتبه على أساس درجته الأخيرة)، فهي عقوبة ذات طابع مالي، لأنّها تنتهي إلى حرمان القاضي من القيمة المالية للدرجة أو أكثر (حسب الحكم التأديبي)، وتعرّضه لارتباك مالي يلازمه طوال فترة حياته الوظيفية، فضلاً عن امتداد أثر العقوبة إلى أسرته وأولاده الذين لا مورد مالي غير راتب والدهم، وهم الذين يتحمّلون العبء الحقيقي لهاذ العقاب، ممّا يجرّد العقوبة من طابعها الشخصي، لأنّ نفقة زوجته وأولاده هم على عاتقه (طبعاً نحن لا نحبّذ إستيفاء هذه العقوبة المالية) بمعنى آخر، إنّ إنزال درجة واحدة أو أكثر، يؤدّي إلى تخفيض راتب القاضي بحسب عدد الدرجات المنزلة تأديبياً، على اعتبار أنّ لكلّ درجة راتباً محدّداً في القانون، وتحتسب كلّ منها وتضاف إلى الراتب وتنفّذ هذه العقوبة من تاريخ النطق بالحكم التأديبي، على أنّ إنزال الدرجة أو الدرجات (القانون لم يحدّد الحدّ الأدنى أو الأقصى للإنزال تاركاً ذلك على همّة وتقدير السلطة التأديبية المخوّلة بفرض هذه العقوبة). باختصار إنّها عقوبة بالغة القسوة، لأنّها سترافق القاضي بما تصيبه على الأقلّ مادياً، وتؤثّر على قيمة معاشه التقاعدي، أو تعويض الصرف، عند انتهاء الخدمة (لاسيّما وأنّ القانون رقم 716 الصادر بتاريخ 5/11/1998 والمعدّل بموجب القانون رقم 173 تاريخ 29/8/2011 جرى تخصيص القاضي براتب وبدرجة جديدة بقيمة 250000 ل.ل. تستحقّ كلّ سنتين على اعتبار أنّ لكلّ درجة راتباً محدّداً بحسب المرسوم الاشتراعي رقم 112/59 بالمادة 16/1 منه، وتضاف قيمة الدرجة إلى راتبه وتحتسب الدرجة الأخيرة للقاضي المتقاعد بتاريخ خدماته وبما يعادلها في هذا القانون، وتتخذ أساساً لاحتساب المعاش التقاعدي).
كما أنّ العقوبة الرابعة تؤدّي إلى تخفيض مستوى درجات القاضي، مع ما يستتبع ذلك حرمانه من حقوق تعود إلى درجته السابقة التي كان ينتمي إليها قبل توقيع العقوبة بحقّه، والتي تخوّله تولّي مناصب قضائية ملحوظة في التنظيم القضائي، كما وتأثير هذه العقوبة على مقدار التقديمات المادية التي يقدّمها صندوق تعاضد القضاة بشكل دوري.
وفضلاً عن تأثير العقوبة الرابعة مادياً، يبقى تأثيرها المعنوي والإداري، إذ إنّه من المعروف أنّ القاضي وعند انتهاء خدمته، ولم يكن قد فرض عليه خلال 20 سنة على الأقلّ من ممارسته الفعلية أيّ عقوبة تأديبية باستثناء “التنبيه”، وبناءً على طلبه يعيّن في “منصب الشرف” برتبته عند تركه الوظيفة، مع ما يتمتّع به في هذا المنصب من إمتيازات وتشريفات معطاة بموجب القوانين والأنظمة للقضاة العاملين في الخدمة الفعلية وفقاً لرتبته ودرجته في هذا المنصب.
العقوبات الشديدة الأثر
أمّا العقوبة الخامسة، وهي من العقوبات الشديدة الأثر في حياة القاضي الوظيفية بالذات من خلال منعه من مزاولة وظيفته لمدّة لا تجاوز السنة، إلاّ أنّ هذه العقوبة لا تنتج آثارها إلاّ من تاريخ النطق بالحكم التأديبي، وتعدّ بمثابة إسقاط ولاية الوظيفة عن القاضي مؤقّتاً، ولا يحقّ له أن يتولّى خلال مدّة العقوبة، تولّي أيّة سلطة، وينحصر منعه في ممارسة أعباء منصبه خلال مدّة الإيقاف، مع حرمانه من راتبه وفق منطوق أحكام القانون الذي منع تقاضي الراتب ما لم يكن قائماً فعلياً بمهامه(طبعاً مع مراعاة الأحوال الخاصة (إجازة سنوية، أو مرضية، أو غيرها) على أن يعود القاضي الموقوف إلى عمله عقب انقضاء مدّة التوقيف مباشرة، ولا حاجة إلى إصدار قرار بذلك، لأنّ مركزه لا ينشغل عن طريق التعيين، ويبقى غير شاغر، ولكن يجوز لمجلس القضاء (أو السلطة الادارية) أن يعهد بعمل القاضي الموقوف مؤقّتاً، إلى قاضي آخر، عن طريق أو الوكالة، أو الانتداب، إذا اقتضى الأمر، ومن المعلوم أيضاً أنّ مدّة عقوبة التوقيف عن العمل لا تدخل في حساب الخدمة الفعلية، ولا تدخل في حساب مدّة التدرّج (لزيادة الدرجة)، لأنّه لا يدخل في حساب هذه المدّة سوى الخدمة الفعلية التي تناول القاضي فيها راتباً كاملاً.
أمّا العقوبة السادسة ، فتعني إنهاء خدمة القاضي وإخراجه نهائياً من ملاك الوظيفة، أيّ قطع كلّ علاقة للقاضي المصروف بالوظيفة التي كان يشغلها، ولا يجوز أن يعاد إلى الخدمة أو الوظيفة العامة في أيّ دائرة من دوائر الدولة، أو البلديات، أو المؤسّسات العامة، ولو بصورة مؤقّتة، ويبقى له تصفية حقوقه المالية كتعويض صرف أو كمعاش تقاعدي (وفقاً للقوانين والأنظمة النافذة)، أيّ أنّ هذه العقوبة وما يترتّب عليها من آثار عقابية، يندرج في نطاق أشدّ العقوبات أثراً في حياة القاضي، وتنصبّ على الوظيفة بذاتها، وتبقى حقوقه المادية المكتسبة.
أشدّ العقوبات ضرراً
أمّا العقوبة السابعة، وهي أشدّ العقوبات التأديبية ضرراً التي تستقلّ بتقديرها وتقريرها السلطة التأديبية، لكونها تقضي حكماً بإنهاء خدمة القاضي وإخراجه نهائياً من الملاك مع حرمانه من كافة حقوقه في تعويض الصرف، أو المعاش التقاعدي، وعدم جواز إعادته إلى أيّ وظيفة عامة (إنّما يبقى له المطالبة بالمحسومات التقاعدية إلاّ إذا صدر نصّ صريح بالحرمان منها في قرار العزل)، أيّ أنّ العزل هو عقوبة تأديبية قاسية جدّاً بحقّ القاضي وأفراد عائلته التي تحرم من كافة حقوقها المالية ممّا يجرّد هذه العقوبة من طابعها الشخصي أيضاً، لأنّ تلك الحقوق ليست ملكاً للقاضي فقط، بقدر ما هي ملك لأفراد عائلته الذين يبقى لهم في جميع الأحوال، الحقّ في الحصول على لقمة العيش.
إعادة النظر بقائمة العقوبات
وبرأينا ، والأمل كبير بأن يبادر مجلس القضاء الأعلى الى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بإعادة النظر بصورة جذرية في قائمة العقوبات المنصوص عنها في المادة 89 من المرسوم الاشتراعي رقم 150/83 لاستحداث عقوبات تأديبية و /أو إجراءات تنفيذية لضمان تنفيذ العقوبة المحكوم بها القاضي وفقاً للغاية المرجوة، وإبعاد ما يعرف بتأبيد العقوبة التأديبية وإبقائها إلى ما لا نهاية حتّى يقضي الله أمراً كان مفعولا،ً مع ما يستتبع ذلك من إطالة أمد القهر، وآثار ومفاعيل العقوبة التأديبية السلبي، كما ولاستحداث إجراءات وعقوبات تأديبية من شأنها معالجة الخطأ، لا العقاب والقصاص المدمّر أحياناً على ما جرى شرحه(العقوبات ذات الطابع أو التأثير المالي على الأسرة التي لا ذنب لها،) وبهذا يحقّق التأديب أهدافه، وتصبح العقوبة التأديبية شخصية ومفيدة في نفس الوقت، لأنّ راتب القاضي أضحى في ظلّ الأزمات أبعد من أن يسدّ احتياجاته الفعلية والضرورية لمعيشته وعائلته.
وندعو أيضاً، إلى إعادة النظر في النظام التأديبي للقضاة ككلّ، والذي لا يزال يكمن فيه العقاب والقصاص فقط ، لأنّ الخطأ الوظيفي لا يجدي في مواجهته إنزال الدرجة، ولا حتّى إنهاء الخدمة، بل يتعيّن أن يستهدف العقاب التأديبي التقويم، وليس إبقاء العقوبة التأديبية مقيّدة في ملفّ القاضي الشخصي إلى الأبد، ويتمّ على أساسها ترقيته وبغضّ النظر عن استقامته، أو خبرته ونزاهته، ومنعه من تسلّم أيّ مركز قضائي وفق التقسيمات القضائية، وعدم امتداد القرار التأديبي ليصيب أسرته وأولاده عملاً بمبدأ شخصية العقوبة.
إسقاط العقوبات وردّ الاعتبار
ولكي لا يبقى سيف “ديموكلس” – العقوبة مسلّطاً فوق رأس القاضي المحكوم بعقوبة تأديبية إلى مدّة طويلة من الزمن تصل لتشمل طوال حياته الوظيفية، أيّ إبقاء العقوبة التأديبية واجبة التنفيذ (بشقّيها المادي والمعنوي) بشكل دائم وأبدي والى ما لا نهاية، إذ لا بدّ من إسقاط العقوبات التأديبية التي يمكن أن يحكم بها القاضي تأديبياً ضمن إطار مهلة زمنية محدّدة، وإنشاء نظام “ردّ الإعتبار”، أيّ محو العقوبات التأديبية وإزالة آثارها ضمن فترة زمنية محدّدة إذا لم يرتكب القاضي خلالها ما يعرّضه للعقاب، لأنّ إبقاء العقاب(الحكم التأديبي في ملفّه) يترك بالتأكيد أثراً سيّئاً في حياته الوظيفية، ويدفع به إلى حالة من اليأس يكون لها آثارها السيّئة، ليس بالنسبة إليه وحده، إنّما بالنسبة للجسم القضائي بكامله، كما أن فتح باب ردّ الإعتبار يشجّعه على دوام الإستقامة في عمله، وعلى تدارك ما حصل منه من أخطاء سابقة، وتلك غاية نبيلة ومشروعة، أدركها المشترع بالنسبة للجرائم الجزائية وهي أخطر بكثير من مجرّد الأخطاء الوظيفية، فوضع حدّاً للأحكام والعقوبات الجزائية، ومنح النيابة العامة الاستئنافية صلاحية إسقاطها (المواد 24 أ.م.ج. وفق المادة 147 عقوبات، وعند توافر أحكام مرور الزمن بحسب المادة 163 عقوبات وما يليها)، وعلى هذا الأساس، كان نظام ردّ الإعتبار في القضاء العدلي، وعلى عكس العقوبات التأديبية المحكوم بها القاضي، فتبقى آثارها المادية والمعنوية بصورة قاتلة ومدمّرة، ولا تتوقّف إلاّ بعد انتهاء خدمته الفعلية (ولسنا هنا في معرض المقارنة بين العقوبات التأديبية والعقوبات الجزائية، بل للإشارة فقط).
كلمة أخيرة نقولها في مجال محاكمة القضاة تأديبياً، كما يجب أن تكون لدينا القدرة الوافية على معاقبة القاضي الذي يرتكب خطأً مسلكياً، فإنّه يجب أن تكون لدينا في المقابل، القدرة الكافية لمكافأة القاضي المنتج والمتفوّق بعلمه وكفاءته وخبرته، لكي يزيد عطاءه بنسبة أكبر، وتحفّز غيره من القضاة على الاقتداء به.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 13 – كانون الثاني 2017).