ليقطع القضاة رأس التدخّلات السياسية/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
تأخّر الجسم القضائي في التصدّي للسعي السياسي المستفحل لترويضه برمّته وتدجينه وجعله مرآة لمصالحه وليس للعدالة الحقّة، ممّا أوجب عليه أن يدفع ثمناً غالياً وصل إلى حدّ التهديد بالنيل من كرامته، وكلّ شيء بلا كرامة لا يجدي، وكلّ قضاء بلا كرامة لا يمكنه أن يطالب ليس بمكتسباته المالية والإستشفائية ومنَحه التعليمية وحسب، وإنّما بوجوب الإعتراف بوجوده، وبأنّه سلطة ومستقلّة أيضاً.
نعم، تأخّر السلك القضائي كثيراً في وضع حدّ نهائي للسلطة السياسية التي دأبت على الهروب إلى الأمام والتملّص من عدم الإعتراف بما أفردته في متن الدستور من أنّ القضاء سلطة مستقلّة، وهذا الفجور السياسي شجّعها على التمسك باقتناعها التام بأنّ القضاة هم مجرّد موظّفين وإنْ كانوا من الفئة الأولى المحظية، وبأنّ القضاء ما وجد إلاّ لتحقيق المصلحة السياسية قبل أيّ شيء آخر، وبأنّ معزوفة الإستقلالية، ليست واردة على الإطلاق، لأنّها لا تتوافق والرغبة السياسية الجامحة دائماً إلى أنّ القضاءَ سلاحٌ بيدها، وليس طريقاً إلى تحقيق العدالة. هي ذهنية التملّك التي لا تؤمن بالإنسانية. وطوال التاريخ البشري نادراً جدّاً ما توافقت السلطة السياسية مع الإنسانية.
كان يفترض بالجسم القضائي أن ينتفض عندما عرقلت السلطة السياسية خلال جلسة المجلس النيابي التشريعية في 19 كانون الثاني 2017، المصادقة على مشروع قانون تعديل المادة الخامسة من قانون تنظيم القضاء العدلي والذي كان يسمح لمجلس القضاء الأعلى بإطلاق يده في تقرير مصير التشكيلات القضائية، ويخفّف من هيمنة السلطة ممثّلة بوزير العدل عليها، إذ تعمّد النوّاب، كلّ النوّاب ومن كلّ الطوائف والمذاهب والتيّارات والأحزاب السياسية، التراجع ضمنياً عن إقرار هذا التعديل، على الرغم من أنّهم وافقوا في لجنة الإدارة والعدل على مضمونه واستقرّوا على صيغة نهائية له.
كانت ذريعة التراجع تلبيةً للقرار السياسي، بأنّه ليس الآن أوان مثل هذا التعديل، أمّا حجّة التطمينات العلنية فاختبأت خلف عبارة “درسه مجدّداً”!!. إذا لم يكن وقتها هو الموعد الحاسم، فمتى يكون؟.
يومها كان يجب على القضاء ألاّ يقبل بهذه الخديعة السياسية، وبهذا الإلتفاف على منطق الأمور. كان يجب عليه أن يجاهر بكلّ ما أوتي من قوّة وعزم بتطبيق الدستور وبتنفيذ كلّ نصّ قانوني يقول بأنّ القضاء سلطة مستقلّة، حتّى ولو اقتضى الأمر، إستقالات جماعية، أو إضراباً يحمي العدالة من الإنهيار، على الرغم من قساوة مثل هكذا قرار.
لو أنّ القضاة هبّوا ووقفوا وقفة رجل واحد، واعترضوا على هذا التساهل بحقّهم المعنوي بأن يكونوا سلطة مستقلّة، لما تشجّعت السلطة السياسية على استسهال مدّ يدها إلى صندوق تعاضد القضاة العدليين لوقف المكتسبات المتحقّقة فيه وأبرزها الطبابة أو الإستشفاء الصحّي بما يشكّله من ضرورة ملحّة في حياة كلّ إنسان وسلامته، حتى أنّه لا يمكنه أن يستغني عنه، فهل يعقل أن يتنازل المرء عن عافيته؟.
ولكن أين هم القضاة الذين يقفون أمام السلطة السياسية؟، وإنْ وجدوا، وأعرف كثيرين منهم، فمن يحميهم؟ لا أحد يقف معهم، ولا أحد يمنع التطاول عليهم بمن فيهم المسؤولون في مجلس القضاء الأعلى وهذه حقيقة مرّة، لأنّ المولجين بالمناصب الحكمية في مجالس القضاء المتعاقبة ما فكّروا يوماً إلاّ بمصالحهم الشخصية، وقلّة منهم إستشعرت مخاطر تدفّق التدخّلات السياسية في العمل القضائي ووقفت ضدّها وحاربتها ومنعتها من التمادي في غيّها وقطعت رأس الضغوطات منذ اللحظة الأولى.
أين هم القضاة الذين لا يدفنون رؤوسهم في باطن الحياء عندما يتصل بهم زعيم، أو سياسي، أو وزير، أو “خزمتشي” عند ناطور البيك، والأفندي، والخواجة، والإقطاعي، ويردّونه خائباً؟!.
أين هم القضاة الذين يغلقون أبواب مكاتبهم في وجه النوّاب والوزراء الأشاوس الذين نراهم ومن ينوب عنهم من ممثّليهم في العدلية مثل النمل، قادمين للمسايرة على حساب العدالة؟!.
أين هو فؤاد بطرس الذي قال لزعيم الجنوب أحمد الأسعد وكان وزيراً للدفاع، وهو قاضي تحقيق عسكري، بعدما ترك شخصاً يعاديه في السياسة أوقف لإطلاقه النار خلال حفل زفاف: “أنا قاض وظيفتي تطبيق العدالة، وهذه لا تتحقّق إلاّ بالمساواة. لم يطاوعني ضميري، لذلك لم أعمد إلى توقيف هذا الرجل البسيط وأتجاهل مئات المخالفين تحت أعين رجال الأمن”، إذ صودف آنذاك أن “ولعت” بيروت بالرصاص إحتفاء بعودة الرئيس رياض الصلح من فرنسا إثر توقيعه إتفاق جلاء الفرنسيين عن لبنان؟.
وأين هو مخايل عيد البستاني الذي ردّ على قريبه المطران البستاني يوم توسّط لديه لمصلحة وزير في دعوى تهمّه خلال ترؤسه محكمة الاستئناف في بيروت وأصدر حكماً ليس لمصلحته، فقال له:” أنت لك أن تكتب، وأنا لي أن أقرأ الكتاب، أمّا الحكم فليس لك ولا لي، بل لما يوحيه الوجدان والقانون”؟.
وأين هو فيليب خيرالله عندما قال لرئيس الجمهورية الياس الهراوي الذي حاول أن يستفسر منه مسبقاً عن خلاصة حكم المجلس العدلي على سمير جعجع، بأنّه عند صدور الحكم تعرف النتيجة؟.
وأين هو إبراهيم المنذر شاعر قصيدة “قلب الأمّ” الشهيرة والذي كان رئيساً لمحكمة المتن قبل أن يعود ويصير نائباً، عندما ألقى كلمة قويّة باللغة العربية في إحدى المناسبات، ضدّ تدخّل الموالين للإنتداب الفرنسي في دعاوى معروضة أمام المحاكم، فقابله جمهور الحاضرين بتصفيق حاد وبينهم المستشار الفرنسي الذي عاد واستفسر عن سبب هذا التصفيق فأُخبر بما قاله المنذر، فاستشاط غضباً، وقطّب حاجبيه، وأقال المنذر من منصبه والقضاء؟.
وأين هو شارل دبّاس عندما كان مديراً للعدلية قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية، ورفض قبول استقالة القاضي بشارة الخوري قبل أن يصبح هو الآخر رئيساً للجمهورية، إثر إصداره حكماً خلافاً لتوصية الحاكم الفرنسي، فقال له:”حسناً فعلت بتوصية الحاكم كأنّها لم تكن، وأرسل تعميماً إلى المحاكم لأجل تسجيل كلّ توصية ترد لها في ضبط المحاكمة”.
وهناك أمثلة كثيرة على هذا المنوال، ومن هذا الطراز..
نعم، يوجد قضاة أوادم ويرفعون رأس لبنان ويطمئنّ المواطن إليهم حتّى ولو لم يكن صاحب حقّ بأنّ ملفّه بأيد أمينة، وأعرف حالات كثيرة عن قدوم أصحاب العلاقة إلى مكتب هذا القاضي أو ذاك، لشكره وتقديره على قانونية قراره وعدالة حكمه، لأنّهم في قرار أنفسهم كانوا يعرفون بأنّه لا حقّ لهم في ما تمنّوه وأرادوه.
نعم، لدينا قضاة طاهرون يتمتّعون بالنزاهة، والإستقامة، والشفافية، والعدالة، والرجولة الحقّة..
لدينا جوزف سماحة، وسهيل عبود، وجون القزّي، وفادي العنيسي، وفؤاد مراد، وفادي الياس، وبسّام الحاج، وفيصل مكّي، وحسن حمدان، وياسر مصطفى، وبلال بدر، وهيلانة اسكندر، وندى دكروب، ونضال شمس الدين، وغادة أبو كروم، ومايا فوّاز، ونجاة أبو شقرا، وجويل عيسى الخوري، وعبير صفا، ودوريس شمعون، ومنى حنقير، وميرنا كلاّب، وميراي ملاّك، وكثيرون آخرون لا يتسع المجال لذكرهم كلّهم، لأنّ لائحة الشرف طويلة، فعذراً منهم ومنهنّ، لكنّني حتماً أفتخر بأنّهم قضاة وقاضيات من وطني.
في المقابل، لدينا، قضاة شوّهوا صورة القضاء. وهم يجب أن يحاسبوا على ما اقترفوه من ذنب عظيم بحقّ مؤسّسة يعوّل عليها لقيام دولة قادرة وعادلة.
ومنهم مَنْ لا يتوانى، وهم فئة قليلة، عن التردّد إلى مجالس سياسيين والإنتظار مطوّلاً عند أبوابهم لنيل رضاهم بغية تذكيرهم بإمكانية دعمهم لنيل مركز مرموق في التشكيلات القضائية، مع أنّ العدالة لا تعرف مركزاً مهمّاً وآخر أقلّ مستوى، ويتوجّب على القاضي أينما وجد، وأينما حلّ، أن يحكم بالعدل، مهما كانت الإغراءات والتقديمات والضغوطات والتدخّلات، وإلاّ فليترك هذه الرسالة السامية.
ولم يجرؤ أحد من القضاة الكبار على منع هؤلاء المتزلّفين من ممارسة هذا التصرّف المسيء للبقيّة، ولم تكن لدى أحد منهم اندفاعة أوّل رئيس لمحكمة التمييز القاضي نجيب أبو صوّان عندما كان وزيراً للعدل وهالَهُ مشاهدة قضاة يودّعون مفتّش العدلية الفرنسي أفايا بسبب سفره إلى بلاده، فنَهَرَهم وبقسوة، قائلاً:”إرجعوا إلى دوائركم.. القضاة لا يستقبلون، ولا يودّعون”.
أمّا نحن عامة الشعب، فليس لنا غير القضاء، ولذلك نريد أن يكون القضاء لكلّ الناس، للفقير، والمُعْدم، ومتوسّطي الحال، والغني، ولكلّ صاحب حقّ، بينما السلطة السياسية تريده للقضاء على الناس، والفرق شاسع بلا شكّ.
لذلك، يا قضاة لبنان إقطعوا رأس التدخّلات السياسية لتصبحوا سلطة مستقلّة، ولتدخلوا تاريخ الإنسانية من أوسع الأبواب.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 16 – نيسان 2017).