لَكأنَّكِ الشَّلالُ في جزّينَ يا ماري دنيز المعوشي/جان فهد
القاضي جان فهد(رئيس مجلس القضاء الأعلى)*:
كان حضورُها كبيراً وصارَ غيابُها أَكبَرْ.
رمزٌ من رموزِ الشجاعةِ وسَعَةِ المعرفةِ ونصاعةِ الكفِّ في قصورِ العدل،
سليلةُ الأعالي جَنوباً وشَمالاً ونَسَباً وحَسَباً ومناقِبْ.
أرزةٌ متجذّرةٌ تجذُّرَ الحقِّ في أعماقِ كيانِها.
عِلمٌ منشورٌ وذكاءٌ موفورْ…
هذا بعضٌ ممّا كانَتْ تختزِنُهُ الراحِلةُ العزيزة، الرئيسة ماري دنيز المعوشي، التي انتمتْ إلى القضاء فشرّفتهُ، وإلى لبنانَ فأحبّتهُ، وإلى النّاس فكانتْ لهم ملاذاً في وجه كلّ متجرّئٍ وعاتٍ وظالم.
***
تغيبين ولا تغيبين… فالذكرى ستظلُّ شعشاعَةً في ديار العدل، والسيرةُ ستكونُ مدارَ إلهام، ونجمةُ الصبحِ ستُشرقُ يوماً بعد يوم في الضمائرِ والقلوب.
بِحِكمتِه الّتي لا تُدرَكُ، شاءَ الرّبُّ أن يرفعَكِ مِنْ هذهِ الدُّنيا الفانيةِ إِلى جِوارِهِ، بعد أَنْ أَوْفَيْتِ الْعَمل القضائي الرفيعَ المسؤولَ حقَّهُ، وغَمَرَتِ المتقاضين بلطفكِ الحازِم وعلمكِ العارمْ… وبعد أَن أَضناكِ صِراعُكِ معَ المرضِ الّذي لم يَسْتَكِنْ إِلى أَنْ أسكَتَ قلبَكِ الشّابَّ النّابِضَ بالعنفوانِ، فانْسَلَخْتِ عنّا، لتَدخُلي إلى الملكوت الأعلى، إِلى دارِ الخلودِ وسكينةِ النّفسِ ومدائنِ الرّوح.
تفانَيْتِ يا ماريز لأنّكِ المؤمنةُ بأنَّ المرءَ لا يُعطي فِعْلًا إلّا إذا أعطى من ذاتِه.
من مقالعِ السموِّ والنُّبلِ الذي ورثتِهِ كابراً عن كابر أنتِ.
مِنَ التَّبَحُّرِ في خزائنِ العلمِ أنتِ،
من احْتدامِ السّعيِ إِلى ما فيه خيرُ الإنسانِ وصلاحُ المجتمعِ أنتِ،
مِنَ الإيمانِ بأنَّ الذاتَ هي لَتُبذَلَ حَتّى في أَحلكِ الظّروفِ وأَصعبِ الساعاتْ،
وبفعلِ ذلك حَلَلْتِ في القضاءِ قامةً ومنارةً وعلامةً مميّزةً.
حَملْتِ في عروقِكِ دمَ القادةِ من أجدادِكِ وورِثْتِ عَنْهُم ما عُرفتِ به من إشراقةِ طَلْعَةٍ وَقُوّةِ شكيمةٍ وصلابةِ عودٍ ونظرةٍ ثاقبةٍ ورقَّةٍ كالنّسيمِ حتّى لَكأنَّكِ الشَّلالُ في جزّينَ يا ماريز هَدَّارًا في الشّتاءِ رَقراقًا في الصّيف.
كُنْتِ في مستوى القَضاءِ الّذي انْتميْتِ إلى عائلتِه في العام 1981 وَتَبَوَّأْتِ بجدارتكِ مراكزَ شتّى، من الأصغرِ إلى الأكبر، وصولاً إلى عضوية مجلس القضاء الأعلى. وبَلَغْتِ في العام 2010 رئاسةَ هيئةِ التَّشريعِ والاستشاراتِ في وزارةِ العدلِ، فكُنْتِ الأمينةَ في آرائِكِ وتوجيهاتِك للوزاراتِ والإداراتِ كافّةً ولأصحابِ الشّأنِ عُمومًا.
***
جَمَعَتْنا سَوِيًّا محكمة جديدة المتن في العامين 1993 و1994، حيثُ نهضنا بالملفّاتِ المتراكمة يَوْمَ كان القضاءُ يَتَعافى مِنْ آثارِ الْأَحْداثِ اللُّبْنانِيَّة. كَما جَمَعَنا مجلسُ القَضاءِ الأَعْلى بينَ العامَيْنِ 2012 و2015، فَكانَتْ لَكِ الْمُساهَمَةُ الفَعّالَة في وَضْعِ الْخُطَّةِ الْخَمْسِيَّة لِتَحْديثِ الْقَضاء. ولا أَنسى مواقِفَكِ الشُّجاعةَ ونظرتَكِ المثالِيَّةَ التَّوّاقةَ إِلى بناءِ سُلطةٍ قضائِيّةٍ مُستقلَّةٍ وفاعلة لا نزال حتّى هذه اللحظات نناضلُ في سبيلِها مهما كانت العثرات.
ولأنَّكِ أَوّلًا وَأَخيرًا ساعيةٌ إِلى الْعلمِ، نِلْتِ شهادةَ الدُّكتوراه من جامعة بواتييه في فرنسا بتفوُّقٍ، وَمارسْتِ التَّدريسَ في الجامعات اللُّبْنانِيَّةِ، وشاركْتِ بِفعالِيّةٍ في العديدِ من المؤتمراتِ الحقوقيّةِ المحلِّيَّةِ والدّوْلِيَّةِ، كَما أسهمْتِ في صياغةِ الْعديدِ من مشاريعِ الْقَوانين.
وَمِثْلَما تَفانَيْتِ في عائلة الْقَضاء، أَدَّيْتِ عَلى أَكْمَلِ وَجْه دَوْرَكِ في الْعائِلَة الّتي حَضَنْتِها وَرَبَّيْتِها خَيْرَ تَرْبِيَة. فَجَمَعْتِ بَيْنَ الرِّسالَتَيْنِ، وأغنَيتِ العائلتين.
لم تجانبي مسالكَ الخيرِ ولم تستوحِشي مسالكَ النّضال، وظللْتِ الأنيقةَ فكراً، الرّاجحةَ عقلاً، المفطورَة على التّواضعِ، المجبولَةَ بالشّجاعة… وما الدّموعُ الَّتي ذُرِفَتْ وَتُذْرَفُ عَليكِ، والجمهرةُ المشاركةُ في وَداعِكِ اليومَ، وَالْمَكْرُمَةُ الصّادرةُ عن فَخامَةِ رئيسِ الجمهورِيَّةِ الْمُتَمثّلةُ بِالوسام الرفيع الذي منحكِ إيّاه، إِلّا لصفاتكِ النّادرةِ الّتي اجتمعَتْ في شخصِكِ ولِبَذْلِكِ حَياتَكِ خدمةً للعدلِ والوطن.
***
باقيةٌ أنتِ، يا أيَتُّها الصّديقةُ والزَّميلةُ العزيزة، في خواطِرِنا وفي وجدانِنا،
باقيةٌ أنتِ، فنحنُ لا نموتُ، بل ندخُلُ الحياةَ، فطوبى لكِ والسّلامُ لروحكِ في الملكوتِ الأعلى،
عاشَتْ ذِكْراكِ طَيّبةً مُلهِمةً،
عاشَ القَضاءُ متألّقًا،
عِشْتُم
وعاشَ لبنان.
*كلمة الرئيس الأوّل لمحكمة التمييز القاضي جان فهد في حفل تأبين المغفور لها القاضي ماري دنيز المعوشي- تنورين- 2018/7/26.
“محكمة” – الخميس في 2018/07/26