أبحاث ودراسات

ماذا يجب أن يفعل مجلس النواب بعدما أعادت الحكومة قانون الإيجارات غير السكنية إليه؟/هيثم عزو

المحامي الدكتور هيثم عزو:
بتاريخ 2023/12/19أصدرت الحكومة -التي تمارس وكالة وموَقتاً صلاحيات رئاسة الجمهورية لعلَّة خلو سدَّة الرئاسة سنداً لأحكام المادة 62 من الدستور- الأمر بوضع موَضع التنفيذ قانون الإيجارات غير السكنية المحال اليها من مجلس النواب، ومن ثمَّ تبيَّن أنَّ رئيس الحكومة التي تخضع لسلطته المطبعة الرسمية لم يأمر بنشره فيها ليصبح نافذاً ومعمولاً به قضائياً، بل تريّثَ وأعاد النقاش بشأنهِ في جلسة الحكومة المنعقدة بتاريخ 2024/1/12 والتي قررت اعادته لمجلس النواب لدراسته مجدداً وهو ما يعني رجوعها ضمنياً عن قرارها السابق بإصداره.
فهل ما قامت به الحكومة صحيح من الناحية الدستورية؟ وهل يتوجب على مجلس النواب من موجب دستوري لإعادة مناقشة القانون المذكور؟
لقد سبقَ لنا في مقالٍ منشور عبرَ مجلّة “محكمة” أن أشرنا بأنَّهُ لكي يحق قانوناً للحكومة العودة عن قرارها السابق بإصدار القانون واحالته مجدداً الى مجلس النواب لإعادة النظر به، يقتضي أن يتم ذلكَ منها قبلَ تحصّنهِ قانوناً باكتمال مهلة الـ 15 يوماً التي تلي تاريخ اصدار القانون وذلكَ لأنَّه بتصرُّم هذه المهلة يُصبح القانون نافذاً بقوَّة الدستور وواجب النشر لا محالة. بمعنى أنَّهُ نصبح حينها تلقائياً ومباشرةً وجبراً أمام قانون نافذ بحُكم الدستور وواجب العمل به ولا يمكن عندها الرجوع عنه ولا الغائهِ ولا تعطيل مفاعيله القانونية الاَّ بقانون جديد صادر عن مجلس النواب الذي أقرَّه، وذلك سنداً لأحكام المادة 57 من الدستور والتي تنص على أنهُ: “في حال انتهاء المهلة دون اصدار القانون أو اعادته لمجلس النواب، (يصبح نافذاً ووُجِبَ النشر)” وهو ما يؤول الى فقدان سلطة اصدار القانون حينها أي حق في اعادته مجدداً لمجلس النواب من أجل اعادة دراسته، بكوِنه أصبحَ حُكماً واجب التطبيق لصيرورته نافذاَ بقوة الشريعة الدستورية التي تخضع السلطات الثلاثة لأحكامها.
وغني عن البيان أنَّ مهلة اصدار القوانين العادية هي شهر من تاريخ احالتها من مجلس النواب -الذي أقرَّها- الى الحكومة، وخمسة أيام بالنسبة للقوانين المعجلَّة الاصدار، وفقَ أحكام المادة 56 من الدستور.
وفي حال حصول إصدار للقانون – أياً تكن طبيعته، عادياً كانَ أو معجلاً- يقتضي نشره في الجريدة الرسمية خلال مهلة أقصاها 15 يوماً من تاريخ إصداره وذلكَ سنداً لأحكام المادة الأولى من القانون الدستوري رقم 1997/646 المتعلق بمهل نشر القوانين والمراسيم والقرارات في الجريدة الرسمية للحيلولة دون التذرع بجهلها وتعطيل احكامها (والاَّ اعتُبِر ذلك القانون في حال عدم نشره خلال المهلة المشار اليها بمثابة القانون النافذ حُكماً وواجب النشر) ، سنداً لمقتضيات أحكام القانون الدستوري المذكور والمعطوفة بدورها على منطوق احكام المادة ٥٧ من الدستور السابق التنويه عنها أعلاه.
وعودٌ على بدء، يتبيّن بأنَّ الحكومة كانت قد أصدرت بتاريخ 2023/12/19 قانون الإيجارات غير السكنية الذي أٌقرَّه المجلس النيابي ومن ذلكَ التاريخ تسري مهلة الـ 15 يوماً المحددة قانوناً لنشره بالجريدة الرسمية، بحيثُ تنتهي بتاريخ 2024/1/3 ضمناً وبعدها يصبح قرار إصداره متحصِّناً ومبرماً ادارياً ولا يمكن الرجوع عنه ويصبح حينها القانون الصادر بحكم النافذ بقوة الدستور ولا يمكن بالتالي للحكومة إحالته من جديد لمجلس النواب لإعادة النظر به، ولا يمكن أيضاً لهذا الأخير أن يقبل هكذا طلب من الحكومة مردود شكلاً بحكم الدستور ويقتضي عليه -حال حصوله – اعادته للحكومة لتنشره فوراً في الجريدة الرسمية، في ظل صيرورته نافذاً بحُكم الدستور ويقتضي بالتالي ولِزاماً على رئيس الحكومة المشرِف على تلك المطبعة الرسمية -التابعة كجهاز اداري لرئاسته – أن يأمر المعنيين بنشرهِ فوراً فيها دون تلكؤ، تحتَ طائلة اعتباره مُخلاَّ عمداً بالواجبات الوظيفية المترتبة عليها لإعاقته اعلان العملية التشريعية النافذة دستورياً، وهي جريمة، يمكن اتهامه بها من مجلس النواب وذلكَ سنداً لأحكام المادة ٧٠ من الدستور والتي تنص على انّ لمجلس النواب أن یتَّهم رئیس مجلس الوزراء والوزراء بارتكابهم الخیانة العظمى أو (بإخلالهم بالواجبات المترتبة علیهم)…”.
وعليه، فإنَّنا نرى أنَّ السبب الدستوري الموجب لرد شكلاً مجلس النواب طلب الحكومة بإعادة النظر في قانون الإيجارات غير السكني ووجوب اعادته اليها، هو نفاذه ووجوب نشره بقوة الدستور، في ظل انقضاء – قبلَ اعادته للمجلس- مهلة النشر التي تلت مهلة إصداره وليس السبب هو ممارسة الحكومة لصلاحيات لصيقة بشخص رئيس الجمهورية، كما حبّذا للبعض التذرع له والذين يتمسَّكونَ بقرار يتيم صادر عن مجلس الدستوري كانَ قد وصف صلاحية رد القوانين لمجلس النواب بالصلاحية اللصيقة بشخص الرئيس، وهو أمر لا نؤيِّده اطلاقاً، باعتبار أنَّ صلاحية هذا الأخير برد القانون، الى السلطة الاشتراعية التي أقرّته من أجل إعادة النظر مجدداً به، هي صلاحية ذات طابع رقابي منه على حُسن القوانين التي تم إقرارها – والتي قد يرى أنَّهُ قد يكون لها أحياناً تبعات على المصلحة العامة في الدولة، بحكم كونهِ رئيس الدولة وحامي المصلحة الوطنية العليا فيها وفق المادة 49 من الدستور- وليست بالتالي صلاحية لصيقة جداً بالشخصية الرسمية خاصتهُ والتي تكون عادةً ذاتَ طابع احتفالي – والتي لا يمكن تجييرها ولا ممارستها الاَّ من خلاله ولا يمكن التفويض بشأنها لشخصٍ اخر- كمنح الأوسمة وترؤّس الاحتفالات الرسمية وغيرها من الأمور الملازِمة لرمزيتهِ الشكلية بشأنها ولا سيما أنهُ اذا قلنا إنَّ رد القانون مجدداً لمجلس النواب هو صلاحية لصيقة بشخص رئيس الجمهورية، فهذا يعني انَّ إصدار القانون هو أيضاً صلاحية لصيقة بشخصه، وهذا يعني عدم صحة الإصدار الحاصل من الحكومة أصلاً، وهو أمر لا يستقيم وفق منطق استمرارية أعمال المرافق العمومية وخاصةً أنَّ النص الدستوري الذي وكِّلَ الحكومة بالنيابة عن رئيس الدولة في ممارسة صلاحيته الدستورية حال شغور مركزه، جاء مطلقاً خالياً من أي قيّد عليها في هذا الصدد، فيقتضي بالتالي تفسيره وتطبيقه دونما قيود مطلقاً، عملاً بمبدأ عام مآله: “النص المطلق يبقى على اطلاقه”.
بل إنَّ ما يؤكد أكثر فأكثر أنَّ رد رئيس الجمهورية القانون لمجلس النواب من أجل اعادة النظر فيه ليست صلاحية لصيقة بشخص الرئيس هوَ مدلولات النص الدستوري عيّنهُ (المادة ٥٧) الذي منحه هذا الحق والذي قيّد صلاحيتهُ تلكَ بوجوب إطلاعه أولاً ومسبقاً مجلس الوزراء على هكذا أمر منه قبلَ الإقدام عليه، باعتبار انَّ الحكومة هي المرجع المناطة بهِ أعمال السلطة الإجرائية والمسؤول عن تنفيذ السياسة العامة للدولة، والغرض من ذلك هو تنبيه السلطة التشريعية لتلافي أي شطط تشريعي لا يراعي الصالح العام أو الظروف السائدة في المجتمع، وهذا ما يستشف من تأكيد النص الدستوري على عدم جواز رفض مجلس النواب لهكذا طلب، في حال عدم اصدار رئيس الدولة للقانون وروده منهُ ضمن المهلة القانونية لإصداره أو في حال وروده ضمن المهلة القانونية لنشره إذا ما تم اصداره والرجوع عن قرار الاصدار خلال هذه المهلة وهي حالة قد سكتَ عنها النص، ولكن يمكن الوصول إلى حكمها الدستوري بتحليل المواد ٥١ و٥٦ و٥٧ وربطها بقانون مهل نشر القوانين والقرارات الإدارية والذي ذكرَت المادة الاولى فيه أنّ المهلة القصوى المحددة لنشر القوانين الصادرة جاءت تطبيقاً للمواد الدستورية المشار إليها.
هذا مع العلم أنَّ المجلس الدستوري نفسهُ الذي كان قد وصف بمقتضى قرارٍ له (رقم 2000/4) صلاحية رد القوانين الى مجلس النواب بالصلاحية اللصيقة بشخص رئيس الجمهورية وعدم حق الحكومة في الحلول محله بها، كان قد أقرَّ لاحقاً بموجب قرار اخر (2014/7) بحق الحكومة في استعمل صلاحية اصدار القوانين وكالةً عن رئيس الدولة، بما يعني ذلك أنَّ الذي يملك حق إصدار القانون يملك أيضاً حق ردِّه الى مجلس النواب، لوحدة العِلّة ولترابط تلكَ الصلاحيتين ببعضهما البعض بشكلٍ وثيق.
“محكمة” – السبت في 2024/1/13

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!