مجلس الشيوخ في لبنان: حاجة وطنية ومطلب برلماني ديمقراطي/ سلام عبد الصمد
دراسة من إعداد المحامي الدكتور سلام عبد الصمد:
تحدّثنا في مقالنا السّابق عن أهمية دستور الطّائف للعام 1990[1] ، والإيجابيات الكثيرة التي أتى بها، وهو ما يجعلنا نُطالبُ بتفعيله وتطبيق كافة بنوده قبل تعديله. ولعلّ في طليعة هذه الإيجابيات، إقرار مجلس الشيوخ، وإنْ كان لم يُبصر النورَ بعد لأسبابٍ معلومةٍ وأُخرى مجهولة. إذ تمَ ربط أمر تشكيله بطريقةٍ غير منطقيةٍ وغير مفهومة بإلغاء الطائفية السياسية، وهو أمرٌ غير مبررٍ على الاطلاق، لأنه لا رابط بين الإثنين.
علماً أنّ تحقيق والغاء الطائفية السياسية لا يُشكّل مسّاً أو تعديلاً للطائف، إنما تنفيذاً له، واستكمالاً لبنودٍ أُقرّتْ، ووافق عليها ممثلو الطائف آنذاك. لكن الانتقائية في التنفيذ وتشابك بعض المصالح المحلية والإقليمية والدولية، حالتْ دون تشكيله حتى وقتنا هذا.
ولكن، هذا لا يحول دون التأكيد على وجوب التمسك بالطائف وبكلِّ بنوده، وأهمها بند استحداث مجلس الشيوخ.
فالشعب، كما يقول الفقيه الدستوري دوغي: “لا يتألّف من أفرادٍ فحسب، بل ومن جماعاتٍ متميزةٍ عن الأفراد، ولذلك يجب أن يتألّف البرلمان من مجلسَيْن: الأول يمثل أفراد الشعب مباشرة، والثاني جماعاته.
وقد اثبت النظام البرلماني القائم على المجلسين نجاحاً عملياً داخل العديد من الدّول التي أخذتْ به، ومنها فرنسا وإيطاليا؛ لكونه يُسهمُ في ترسيخ وتوطيد الدعائم الديمقراطية، ودعم التعدّدية الفكرية، والمقوّمات الأساسية للمجتمع، وتعميق النظام الديموقراطي وتوسيع مجالاته.
وبناءً على ما تقدّم، يُعدّ تشكيل مجلس الشيوخ بمثابة إعطاء فرصة لتمثيل كافة شرائح المجتمع، كما ومنظمات المجتمع المدني، على شاكلة ” مالاوي”. مما يعني إقامة نظام سياسي متوازن، ديمقراطي، بمشاركة المكوّنات في عملية السلطة، ما يُعزّز الاندماج والاستقرار في المؤسّسات الدستورية، كما واستكمال البنية التشريعية داخل الدولة. فمجلس الشيوخ الذي يجمع بتكوينه كفاءاتٍ علميةٍ متنوعةٍ من تخصّصاتٍ عدة، سيكون ضمانةً هامةً وخطوةً فعّالةً وايجابيةً في سبيل تعزيز الديمقراطية، وتوسيع المشاركة، وسماع أكبر قدر من الأصوات والآراء، فضلاً عن دافعٍ صلبٍ لتطوير السياسات العامة للدولة وبرامجها الاقتصادية والاجتماعية، في سبيل إنجاز العملية التشريعية، وسنّ القوانين بطريقة أفضل تضمن حسن الدراسة والمناقشة، والاستفادة المثلى من الخبرات والكفاءات.
وقد ذهب بعض فقهاء القانون – مثل سابستيان دوبان – في مؤلّفه نظام المجلسين في الديمقراطيات الحديثة، إلى اعتبار أنّ وجود مجلس الشيوخ هو من أسباب الإستقرار المؤسّساتي الدّاخلي لأيّ نظامٍ سياسي؛ لذلك يتمتّع غالباً هذا المجلس بالكثير من الصّلاحيات والسلطات في الديمقراطيات الحديثة.
ومن مبرّرات الدّول الحديثة والمتقدّمة في الأخذ بنظام المجلسين، كما يطرحها الفقهاء في مؤلّفاتهم على سبيل المثال لا الحصر، هي التالية[2] :
– إنّ انشاء مجلس ثانٍ يتمتع بالاستقلالية، يُؤدّي إلى زيادة قدرة البرلمان على مراقبة السلطة التنفيذية والسيطرة على سيادتها؛
– منع تعسُّف واستبداد السلطة التشريعية إذا اقتصرت عملية سنّ التشريعات وإصدارها على مجلس واحد؛
– تسوية الخلافات بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. فعند حصول خلاف بين الحكومة وأحد المجلسيْن، إنّ المجلس الثاني يمكنه التوفيق وحلّ هذا الخلاف، بما لا يضرُّ بالمصالح العامة للدولة.
– معاونة مجلس النوّاب على إنجاز العملية التشريعية وسّن القوانين بطريقة تضمن الشفافية والاستفادة من الخبرات الوطنية وسماع أكبر قدر من الآراء المجتمعية”.
ولقد كان للبنان الفرصة في اعتماد هذا النظام البرلماني القائم على المجلسين سابقاً، لاسيّما في العام 1925، وذلك عندما نقلت فرنسا تجربتها البرلمانية اليه؛ فأوعزت الحكومة الفرنسية في باريس آنذاك الى السلطات الفرنسية في لبنان ممثلةً بالمفوض السامي هنري دي جوفنيل henri de jovenel بتأسيس مجلس الشيوخ بتاريخ العاشر من كانون الأوّل من العام 1925.
فتمّ عندئذٍ إرسال لجنة برلمانية لمتابعة الموضوع برئاسة جوزيف بونكور JOSEPH Paul Bancour، والتي قامت باستفتاء اللبنانيين عن طبيعة النظام السياسي والبرلماني الذي يرغبون به[3] .
وكان الإستفتاء المذكور قد لحظ أسئلةً عن نوع البرلمان المنشود، وعمّا إذا كان سيقوم على مجلسٍ واحدٍ أو مجلسين، ولماذا[4] ؟
والشعب اللبناني الطامح دوماً للتغيير والتجديد، طالب بنظام المجلسين، ألا وهما مجلس الشيوخ ومجلس النواب[5] ، متأثراً بالدّول الديمقراطية، وبنجاح تجربة مجلس الشيوخ في الأنظمة التي اعتُمِدَ فيها.
وتبعاً لذلك، تأسّس مجلس الشيوخ بتاريخ في 24 كانون الأوّل 1925.
أما لناحية صلاحياته وطريقة عمله، فقد وضعتْ فرنسا البنود الاساسية المتعلقة بمجلس الشيوخ (في لبنان بطبيعة الحال) ضمن إطار الدستور؛ فجاءت المادة 16 منه لتنصّ على ما يلي” تتولّى السّلطة التشريعية هيئتان مجلس شيوخ ومجلس النواب”.
في حين خُصِّص الباب الثاني (من الدستور) للحديث عن كلٍّ من مجلس الشيوخ ومجلس النواب؛ فتمّ تحديد طبيعة عملهما وطريقة انتخابهما وتعيين أعضائهما.
وهكذا، تم اعتماد نظام المجلسَيْن في الحياة الدستورية اللبنانية وفقاً لمنطوق المادة 22 من دستور 1926، والتي نصّت صراحةً على أنّ يتألّف مجلس الشيوخ من ستّة عشر عضوًا، يُعيّن رئيس الحكومة سبعة أعضاء، فيما يُنتخب التسعة الباقون؛ على أنْ تكونَ مدّة عضوية المجلس ستّ سنوات قابلة للتجديد، أو الانتخاب وفق كل حالة. ويمكن أن يُعاد انتخاب من انتهت ولايتهم، أو أن يجدّد تعيينهم على التوالي.
كما نصّت المادة 23، على أن يكون سنّ الترشح خمساً وثلاثين سنة على الأقل، ولا يُشترط في المرشّح أنْ يكونَ مقيماً في لبنان في موعد انتخابه أو تعيينه. ونصّت مواد أخرى على طريقة اجتماعاته وسير العمل فيه[6] .
ومع الأسف، وبتاريخ 17 تشرين الأوّل 1927[7] ، عُدّلَ الدستور اللبناني، ليُدمجَ مجلس الشيوخ بمجلس النواب، وتُناطَ السلطة التشريعية بهذا الأخير (مجلس النواب)، بحسب المادة 16 من الدستور.
وهكذا تكون قد طُويت صفحة نيابية من تاريخ الحياة النيابية اللبنانية، مثّلها مجلس الشيوخ لمدّة عام وأربعة أشهر و10 أيّام كاملة، رغم أهمية هذا الموقع ودوره ووظيفته على المستوييْن الدستوري والسياسي.
أمّا أبرز الأسباب التي كانت وراء إلغاء مجلس الشيوخ، ففي الواقع أنّ الفقهَ لا يُجمع على سببٍ واحد. إذ اعتبر البعض أنّ خلافه مع مجلس النواب حول عدد أعضاء الحكومة، وتوزيع الصلاحيات، وانعكاس هذا الخلاف على أعمال السلطة التنفيذية وعرقلة أعمالها، كان السبب وراء إلغاء مجلس الشيوخ، ذهبَ البعض الآخر لتحميل المجلس المذكور (أي مجلس الشيوخ) البطء في سنّ القوانين[8] ، مما أدّى إلى الاستغناء عنه.
وعند إقرار اتفاق الطّائف[9] ، عادتْ بارقة الأمل لتلوح بالأُفق باعتماد مجلس الشيوخ مجدّداً، وإن كان معلّقاً على شرط. حيث اعتبرت المادة 22 من الدستور بأنّه: «مع انتخاب أوّل مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ، تتمثلُ فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية”.
وحتّى تاريخه، ورغم انقضاء اثنتين وعشرين سنة تقريباً، لم يُصر إلى انتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، ولم يُستحدثْ بالتالي مجلس الشيوخ، بالرّغم من أهميته وحاجة النظام البرلماني الديمقراطي له.
وخلاصة القول، إنَّ مجلس الشيوخ يُشكّل ضرورةً للنظام البرلماني الديمقراطي، وقد أثبت نجاحه في العديد من الدّول التي تتبنى نظام المجلسيْن؛ على اعتبار أنَّ وجود مجلس واحد يعني حصر المواجهة بينه وبين الحكومة، وبالتالي استحالة ضبط إيقاع النظام البرلماني من خلال التوازن الذي يُكرّسه مجلس الشيوخ بين كلٍّ من البرلمان والحكومة.
فدور مجلس الشيوخ الجوهري يكمنُ في مراقبة سياسة الحكومة، كما يفعل مجلس النواب، ويُسهم في إصلاح العمل البرلماني.
وقد يكون استحداث مجلس للشيوخ نتيجة تسويةٍ ما، كما حصل في الولايات المتحدة الأميركية؛ ولكن يبقى التـأكيد على أنَّ المجلس المذكور هو حاجةٌ وضرورةٌ لاستقامة النظام الديمقراطي البرلماني ولكفاءة النظام الدستوري. وإنْ تطلّبَ الأمرُ ورشةً دستوريةً تُعنى بوضع آليات مجلس الشيوخ التطبيقية، وعلاقته مع بقية السلطات وتحديد صلاحياته بشكل دقيق.
ختاماً، وبالاستناد إلى الواقع اللبناني، ومن منطلق التشديد على ضرورة تشكيل مجلس الشيوخ، نستذكر ما يقول R.Monory[10] ، عندما تكون الحريات في خطر، فإنَّ وجود غرفتين أفضل من غرفة واحدة.
مصادر ومراجع:
1- اتفاق الطائف في لبنان: للتعديل أو التفعيل – من إعداد المحامي د. سلام عبد الصمد
2- محمود عاطف البنا، الوسيط في النظم السياسية (الدولة، السلطة، الحقوق والحريات العامة) الصفحة 357 وما بعدها
3- هناء صوفي عبد الحي؛ النظام السياسي والدستوري في لبنان، بيروت , 1994 , ص 45
4- حسين حمد عبد الله الصولاغ، التطورات السياسية في لبنان 1920 – 1941 , اطروحة دكتورا غير منشورة، كلية الآداب، جامعة بغداد , 1996 , ص 81
5- الدار العربية للوثائق، بيروت، الدستور والميثاق.
6- أنور الخطيب، الأصول البرلمانية في لبنان وسائر البلدان العربية، دار العلم للملايين، بيروت،1961، ص44.
7- جوزف مغيزل، كتابات جوزيف مغيزل، دار النهار، ج2، 1997، ص73.
8- جوزف مغيزل، تجربة مجلس الشيوخ في لبنان، “النهار”، 18/3/1984.
9- من خلال القانون الدستوري رقم 18 عام 1990.
10- محمد المجذوب، دراسات في السياسة والأحزاب، صفحة 160
“محكمة” – الخميس في 2023/2/2