خاص”محكمة”:محاميات يخطفن الأضواء في عالم الجزاء باستقطاب الملفّات الشائكة في الإرهاب والقتل والمخدّرات/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
إذا كانت أعداد القاضيات في السلطة الثالثة الإسمية في هيكلية توزيع السلطات في لبنان، في ازدياد، إذ لا تخلو دفعة من المتقدّمين والمرشّحات لمباراة القضاء العدلي على سبيل المثال من الناجحات، لا بل من المتفوّقات وبامتياز، ووصول قاضيات إلى مناصب رفيعة وتحديداً في المحاكم الجزائية من دون أن يتوجسنّ خيفة من مقاربة ملفّاتها وصعوباتها وما قد تحمله من تدخّلات ووساطات ليست غائبة عن بال أحد من روّاد قصور العدل والمحاكم، فإنّ “هجوم” المحاميات على الإنخراط في عالم القانون ولاسيّما الجزائي منه، لا تقلّ شأناً على الإطلاق، لا بل هنّ أكثر قدرةً وحركةً على استلام القضايا الشائكة وفي مقدّمتها القتل والإرهاب والمخدّرات، ثمّ يلقين برؤوسهنّ على الوسائد مطمئّنات إلى تأدية دورهنّ براحة وعلى أكمل وجه.
واندفاع المحاميات نحو الدعاوى الجزائية لا يعني تركهنّ ملعب الدعاوى المدنية لاستباحة الزملاء من الرجال، بل على العكس تماماً، فهنّ يزرعن قَدَماً هنا وأخرى هناك، وباتت الأغلبية منهنّ بفضل الخبرة والممارسة، مالكات لعدّة اللَعِب القانونية، فيحدّدن توقيت الهجوم والدفاع بحسب المخطّط المرسوم لكلّ قضيّة نسبةً إلى مضمونها ومعطياتها، ولا بأس من العودة إلى استشارة المحامين الرجال في أمر طارئ ونقطة قانونية ساخنة، أو مستجدّات تستدعي التعمّق أكثر في المسائل والواقعات، وذلك للخروج بانتصار معنوي ومادي في آن معاً.
بوليت امسلند التامر أوّل محامية
ولم يخلُ دخول المرأة إلى نقابة المحامين في بيروت من صعوبات، فالطريق أمامها لم تكن مفروشة بالياسمين والنسرين، بل واجهت تعقيدات كثيرة وصدّاً من بعض القابضين على زمام الأمور من المحامين في ثلاثينيات القرن العشرين، على الرغم من اندلاع حركة الإنفتاح التدريجي على المرأة المثقّفة والمستنيرة والعاملة ليس في الأرض والبيت فقط، وإنّما في رحاب الحياة والمجتمع، فقيّض للفرنسية السيّدة بوليت امسلند التامر زوجة القاضي والوزير الشيعي رضا محمّد التامر أن تكون أوّل محامية متدرّجة في نقابة المحامين في بيروت، وذلك في 7 تشرين الأوّل من العام 1931 حيث سجّلت في جدول المتدرّجين في مكتب المحامي جبرائيل منسّى، بناء على قرار نقابي في عهد النقيب ورئيس الجمهورية لاحقاً بشارة الخوري، وتبعتها في 6 كانون الثاني من العام 1932 نينا ميشال طراد زوجة رئيس الجمهورية لاحقاً شارل حلو، فتدرّجت في مكتب عمّها الرئيس بترو طراد في عهد النقيب دعيبس المرّ، ثمّ كرّت سبحة الهجوم النسائي حتّى صرن رقماً صعباً في معادلة التوكّل، ووصلن إلى الآلاف في صفوف نقابتي المحامين في بيروت وطرابلس.
أمل حدّاد أوّل نقيبة
ولم تنسحب المرأة المحامية من معترك المنافسة على عضوية المجالس النقابية المتعاقبة حيث تمكّنت ولو بصعوبة بالغة في بعض الأحيان، من حجز مقعد لها فيها كما حصل في نقابة المحامين في بيروت مع جاكلين جوزف مسابكي في العام 1965، وصونيا عوض إبراهيم عطيّة في العام 1987، ولودي مسعود نادر في العام 1992، وعليا حليم بارتي زين في العام 1996، وندى نجيب تلحوق في العام 2014، وتوّجت أمل فايز حدّاد نقيبة في العام 2009 بعدما كانت عضواً في العام 2004.
وتأخّر دخول المرأة إلى عضوية مجلس نقابة المحامين في طرابلس إلى شهر تشرين الثاني من العام 2016 حيث استطاعت المحامية زهرة الجسر أن تكون السبّاقة بين زميلاتها.
كما أنّ هناك محاميات استلمن مناصب مهمّة في هيكلية نقابة المحامين في بيروت، فترأست المحامية أسمى داغر حمادة لجنة المرأة، وهي أيضاً نائب رئيس لجنة المرأة في اتحاد المحامين العرب، وترأست المحامية سناء علم الدين لجنة العلاقات العامة، وأنيطت إدارة معهد حقوق الإنسان بالمحامية إليزابيت زخريا سيوفي.
وأنّى تطلّع روّاد العدليات والمحاكم وجدن المرأة المحامية في طريقهم، تتأبّط ملفّاتها وكامل أناقتها ومسرعة لحضور جلسة تحقيق هنا، أو جلسة محاكمة هناك، أو تقديم استدعاء أو لائحة أو مراجعة ما هنالك، من دون أن تكلّ أو تمل أو تبدي تأفّفاً أو امتعاضاً، على الرغم من انهماكها أكثر من الرجال في الإهتمام بشؤونها الأسرية، وعلى الرغم من ترتّبات الإختلاف الفيزيولوجي عن ابن آدم.
خطف الأضواء
وليس خافياً على أحد أنّ الملفّات الجزائية أكثر خطفاً للأضواء، وأكثر سحراً لاهتمامات الرأي العام وخصوصاً إذا كانت تتعلّق بفساد في الدولة، وبفساد في الأخلاق، وبانعدام الإنسانية، أو بعمل أمني وتجسّسي، أو عنف أسري، أو اغتصاب، أو تحرّش، أو اعتداء جنسي، فالإنسان بطبعه يميل إلى ما يثيره جسدياً وذهنياً ويأخذ بتلابيب تفكيره حتّى الشهقة الأخيرة.
وكثيرات هنّ المحاميات العاملات بجدّ ونشاط في رحاب القضايا الجزائية، إذ لا يمكن إحصاؤهنّ كلّهنّ دفعةً واحدة، كما أنّه لا يمكن إغفال أسماء لامعة حفرت عميقاً على جدران المحاكم الجنائية في سنوات مختلفة، مثل “الإقتحامية” الجريئة بشرى الخليل التي لم تكتف بالحضور القانوني في لبنان، بل ذهبت إلى العراق ودافعت عن الرئيس صدّام حسين، ومي الخنساء التي قدّمت دعاوى عديدة خارج لبنان ومنها أمام المحكمة الجنائية الدولية.
لماذا الدعاوى الجزائية؟
“محكمة” حملت جملة أسئلة إلى شريحة من المحاميات المعروفات في استلام الدعاوى الجزائية في قصور العدل والمحكمة العسكرية الدائمة، للوقوف منهنّ على الدوافع والأسباب الكامنة وراء التوكّل في هذا النوع من الدعاوى، فهل تجد الواحدة منهنّ نفسها في هذا “الصنف القانوني الممتاز” والمغري، وهل الغاية من التوكّل في هكذا ملفّات هي الشهرة باعتبار أنّ وسائل الإعلام تتابع مجريات المحاكمات فيها، وبالتالي تكتب حركة المحامية والمحامي مع الملفّ صعوداً وهبوطاً، نجاحاً وإخفاقاً، وأليست المسؤولية أكبر في هذا النوع من الملفّات، وهل المردود المالي أكبر من سواه، وبالتالي يعوّض التوكّل في دعاوى أخرى، أم أنّ سرعة الفصل القضائي في هذه الملفّات تشجّع على المضي فيها، وهل هذه الدعاوى أسهل، أم أصعب من الملفّات والدعاوى المدنية؟.
الخنساء
ومن البديهي أن تتعدّد الأجوبة بحسب كلّ محامية ووجهة نظرها ورؤيتها، وطريقة تعاملها مع المعروض عليها، فالمحامية مي الخنساء لم تخطّط منذ أن وطأت قدماها أرض كلّيّة الحقوق في الجامعة اللبنانية، لاختيار اختصاص محدّد لمستقبلها المهني، ومع ذلك فإنّ “القسم الأكبر من الدعاوى في مكتبي هي قضايا مدنية، وأحقّق إنجازاً في الكثير منها، وأيضاً أمام مجلس شورى الدولة، ولا شكّ بأن الإضاءة الإعلامية على القضايا الجزائية مسلّطة بشكل كبير سواء في لبنان، أو في الخارج”.
وتتذكّر الخنساء(رقمها النقابي 4550) بأنّه “خلال فترة دراستي، كان أساتذتي، وخصوصاً القضاة الدكاترة مصطفى العوجي، وعاطف النقيب، وخالد قبّاني، يثنون على طريقة حلّي للمسائل الجزائية التي كانت مقرّرة للطلاب، وكانوا يؤكّدون لي بأنّ مستقبلي المهني سيكون لامعاً، وقد اكتشفت هذا الأمر على الواقع، خلال تدرّجي حيث كلّفني رئيس محكمة الجنايات القاضي حسن قوّاص بأن أترافع عن أربعة متهمّين في ستّ جرائم قتل”.
من الإعدام إلى البراءة
وتروي الخنساء تفاصيل ما حدث معها “فمن خلال دراستي للملفّ، كان أمامي أربعة أشخاص سيذهبون إلى حبل المشنقة، إذ إنّ الأحكام بالإعدام آنذاك كانت تصدر وتنفّذ، فوجدت أنّ هنالك وقائع مذكورة لا يمكن أن يذكرها أشخاص مجرمون قتلوا ستّة أشخاص، علماً أنّهم كانوا اعترفوا بالجرائم أمام المفرزة القضائية، وقاضي التحقيق، والهيئة الاتهامية ، فقرّرت زيارتهم داخل السجن للوقوف على حقيقة الأمر، وكانت المفاجأة أنّهم أنكروا أمامي ارتكابهم أيّ جرم من الجرائم وخلعوا قمصانهم حيث بدت آثار التعذيب على أجسادهم واضحة، وحاولت أن أبحث معهم عن شاهد واحد يشهد معهم دون جدوى، إلى أن تذكّر أحدهم أنّه خلال فترة الجرائم المرتكبة كان معتقلاً لدى العدوّ الصهيوني داخل الأرض المحتلة، وبعد جهد حصلت على إفادة من الصليب الأحمر الدولي تؤكّد هذه الواقعة”.
وتضيف الخنساء: “في جلسة المرافعة، بدأت بسرد ما حصل من تعذيب، فابتسم رئيس المحكمة القاضي حسن قوّاص، بحضور ممثّل النيابة العامة القاضي منيف حمدان وقال كلمات ما تزال ترنّ في أذني:”وكأنك يا أستاذة لح تطلبيلهم البراءة .. نحن وكّلناك من أجل أصول المحاكمات، والتهمة ثابتة عليهم، وهم اعترفوا في كلّ المراحل”، فقلت له فعلاً سأطلب البراءة، وضحك مَنْ كان في القاعة من الزملاء تهكّماً، ومع ذلك تابعت المرافعة وأبرزت المستند، وطلبت البراءة لهم جميعاً، وبالفعل صدر الحكم بالبراءة، وأرسل القاضي قوّاص كتاب تنويه إلى نقابة المحامين مثنياً فيه على جهودي”.
ولا تميّز الخنساء بين الدعاوي الجزائية والمدنية “فلكلّ واحدة منها أهمّيتها بالنسبة لي، ومع الشعور الخاص لحظة الفوز بها”، وتشير إلى أنّها لم تسع إلى الشهرة، “ولكنّ عملي وإنجازاتي هي من سلّطت الأضواء عليّ، وإذا كانت الشهرة بجهد وتعب فهي حقّ لمن يستحقّها”، معتبرة أنّ أتعاب دعوى مدنية كبيرة واحدة قد تشكّل ما يوازي أتعاب سنة من دعاوى جزائية”.
الأسمر
وقادت المصادفة المحامية فريال الأسمر(رقمها النقابي 7327) إلى اختيار القضايا الجزائية إذ “بدأتُ أستلم ملفّات معونه قضائية وأدرسها وأحاول العمل فيها بشكل منتظم وقانوني، وكنت أزور الموقوفين في السجون، وبدأت النتائج على صعيد الأحكام تجعل إسمي متداولاً بين السجناء، وازداد العمل لديّ من خلال المعونة القضائية خاصة وأنّنا في الدعاوى الجزائية ندافع عن حياة الإنسان، أو ماله الذي يعادل الروح، وكان شعور الفرحة لدى أهل السجين يُفرحني ويزيد إصراري بالعمل”.
القضايا الجزائية تشغل وقتي
ومع مرور الأيّام أصبح العمل في القضايا الجزائية يستهوي المحامية الأسمر “ويشغل وقتي كلّه طوال النهار بين السجون، والمفارز، والمحاكم، والمكتب”، مؤكّدة بأنّ “المردود المالي للدعاوى الجزائية أسرع، كما أنّ الفصل فيها أسرع من الدعاوى المدنية في حال وجود موقوف، ولكن في حال عدم وجود موقوف، فالدعوى تأخذ وقتاً أطول، مع الإشارة إلى أنّ هناك صعوبات في كلّ دعوى، ممّا يقتضي العمل على تذليلها عبر البحث في النصوص والإجتهادات دون إغفال أنّ الدعاوى الجزائية تتطلّب تعباً جسدياً وفكرياً طوال النهار حتّى ضمن الجلسات”.
ولا تبغي المحامية الأسمر الشهرة في عملها، “لأنّه لا يحقّ للمحامي التحدّث في القضايا التي يعمل عليها للإعلام، وهذا نصّ واضح في قانون تنظيم المهنة، وأنا أتقيّد به شخصياً”.
المصري
تمثّل المحامية زينة المصري نقابة المحامين في طرابلس في المحاكم الشرعية منذ العام 2009، كما أنّها مقرّر السجون في النقابة نفسها منذ العام 2014، وعضو هيئة رعايا السجناء وأسرهم في دار الفتوى، وهي” منذ اختياري رسالة المحاماة إخترت ألاّ أكون محامية عادية وإنّما متميّزة لديها رسالة تعرف كيف توظّفها وتعمل عليها بشكل صحيح، ولذلك كان لديّ حلم بتحقيق نتائج ملموسة في الملفّات غير العادية ليس بهدف الظهور الإعلامي، وإنّما إرساء لرسالة الحقّ، والتشديد على أنّ المحاماة ليست مهنة الأشخاص الوصوليين لتحقيق مكاسب مادية، بل هي رسالة سامية”.
ومن البديهي أن” أجد نفسي في هذا النوع من الدعاوى” تقول المصري(رقمها النقابي02502)، وتضيف:” أشتغل عليه من قلبي وأعطيه حقّه من خلال درس الحيثيات والتفتيش عن الثغرات القانونية لمساعدة المتهم سعياً وراء تبرئته أو تخفيف العقوبة إذا كان مذنباً، لأنّني على قناعة تامة بأنّ أيّ شخص مهما بلغ فيه حدّ الإجرام، إلاّ أنّه يبقى محتفظاً بجانب إنساني”.
وبرزت المصري في ملفّات من أطلقت عليهم تسمية “الموقوفين الإسلاميين” وهي تسمية لا تحبّذها على الإطلاق، “لأنّه مدعى عليهم بجرائم إرهابية ولا يجب تحميل الدين الإسلامي مصطلحات لا علاقة له بها، فهذا المصطلح للإستهلاك الإعلامي ولخدمة سياسيات معيّنة رسمتها الدول بدءاً من أحداث 11 أيلول 2001، والإسلام هو دين المواطنة والإستقرار والتسامح وليس دين الإرهاب والجرائم”.
وتصرّ المصري على القول إنّه” صودف أنّ الإعلام يغطّي هذه الملفّات التي لم أتوكّل فيها للشهرة، وأنا لا أسعى إلى التوكّل في ملفّات يضيء عليها الإعلام، ومع ذلك فالتعاطي مع الإعلام حسّاس جدّاً وأعطي الصحفيين الرأي القانوني السليم بغضّ النظر عن رأيي السياسي والشخصي في الملفّ”، مؤكّدة بأنّ “المسؤولية أكبر، وما فيك تراهن باسمك، ولكلّ ملفّ مسؤوليته الذاتية تجاه الفرد والناس”.
وتعترف المصري بأنّ “الملفّات التي توكّلت فيها شكّلت لي مردوداً معنوياً لا يستهان به، مع العلم أنّني اشتغلت مجاناً ومن دون مقابل مالي في أكثريتها، وأنا لا أسعى من خلال عملي إلى اقتناء ثروة”، وتلفت النظر إلى أنّ “لكلّ دعوى خصوصيتها ولا يمكن الاستهانة بالدعاوى المدنية أيضاً، بينما يوجد ضغط نفسي أكبر في الدعاوى الجزائية خصوصاً إذا كانت العقوبة قد تصل إلى الإعدام، وأريد إيجاد فارق بين الملفّات والعقوبات”.
شحادة
ولا تجد المحامية ديالا شحادة(رقمها النقابي 9736) دافعاً معيّناً للعمل في القضايا الجزائية، ولذلك فهي تتوكّل في كلّ الملفّات التي تعرض عليها “وأكون مقتنعة بموضوعها، وليس لديّ شيء ضدّ الجزاء فهناك محامون يعتبرون أنّ شغل الجزاء صعب ومتعب والمسؤولية فيه أكبر من سواه بسبب وجود موقوفين وعقوبات سجنية، بينما أنا أجده ممتعاً، لأنّه أسرع من سواه، ويمسّ أهمّ شيء في حياة الإنسان ألاّ وهي الحرّيّة”.
وأكثر ما يستوقف شحادة هو “المرافعات التي تستحوذ على تفاعل وإبداع ومتعة لكلّ الجهات والأطراف فيها سواء من حيث دراسة الملفّ وطرح الأسئلة والإستجواب وعرض وجهات نظر الادعاء والدفاع، وبالتالي فهنالك شغل قانوني يزكّيه حضور المحامي”.
هاجس الحرّيّة
وتؤكّد المحامية شحادة أنّ هدفها ليس الشهرة على الإطلاق،”ولكن من هدفه الشهرة ويعمل بجدّيّة وكفاءة، فليس مخطئاً”، مشدّدة على أنّ “المسؤولية دائماً مهمّة، ففي الدعوى المدنية كلّ أموال الموكّل على المحكّ، وفي الدعوى الجزائية حرّيّة الموكّل على المحكّ، فالحرّيّة برأيي مهمّة وهي تأتي بعد الصحّة، ولكنّ المسؤولية في الدعاوى الجزائية أهمّ لأنّها تمسّ حرّيّة الإنسان التي هي حقّ طبيعي لصيق به”.
وتعتقد شحادة أنّه ليس بالضرورة أن يكون المردود المالي للملفّ الجزائي أكبر من ذلك المحدّد في الملفّ المدني، “فلكلّ ملفّ خصوصيته ولكلّ موكّل ملاءته أو فقره، وفي المبدأ يجب أن تكون المحاكمات في الشقّ الجزائي أسرع، من دون نسيان أنّ بعض الملفّات تأخذ وقتاً طويلاً إذا لم يكن فيها موقوف، بينما إذا كان الشخص موقوفاً، فالبتّ في الملفّ يكون أسرع من الملفّ المدني، ويتطلّب سرعة في الإجراءات ويستوجب الركض من قلم إلى قلم، وبالتالي المزيد من التعب”.
المعلّم
ولا تتوكّل المحامية عليا المعلّم “إلاّ في دعاوى القتل وعن أهل الضحيّة إذا كانت أمّاً وزوجة”، من دون أن تنسى الإشارة إلى أنّ “هذه القضايا تحملاً عبئاً نفسياً كبيراً على المحامي، سواء أكان وكيل الضحية أو المتهم، فأهل الضحيّة يسعون لنيل العدالة القانونية ولا يفهمون بطء الإجراءات، والثغرات، والمماطلات التي يُفسح لها مجالاً كبيراً عدم تحديث القوانين وتعديلها، وعلى المقلب الآخر، فإنّ أهل المتهم يبرّرون له فعلته، أو يؤمنون ببراءته حتّى ولو كان مرتكباً، ويلقون بأيّ لوم على الضحيّة ووكيلها القانوني، فيصل بهم الحال أحياناً، إلى التعرّض للمحامي معنوياً وجسدياً، ولا يسلم وكيل المتهم نفسه من غضب أهل المتهم في أحيان أخرى”.
روح المحاماة الحقيقية
وتعتبر المعلّم(رقمها النقابي 9783) أنّ”هذا النوع من القضايا يجسّد روح المحاماة الحقيقية، لأنّه يتطلّب من الوكيل أن يتجرّد من ذاته ومن الغاية المادية، وأن يعتبر القضيّة شخصية، فيشعر بأنّه هو الضحية، أو المتهم، وشخصياً هذه الدعاوى تعيد إليّ شعور الإندفاع أيّام الجامعة والتدرّج”، مشيرة إلى أنّها تتوكّل في هذه الدعاوى “مجّاناً، أو بمبالغ زهيدة تغطّي النفقات القانونية”، وترفض التوكّل في قضايا تجارة المخدّرات التي يتقاضى فيها المحامي أحياناً مبالغ كبيرة “فأنا لا أتوكّل عن أيّ متهم بتجارة المخدّرات ما عدا حالات نادرة تنتهي بإعلان براءة المتهم، لأنّ الادعاء عليه كان باطلاً وغير قانوني”.
وتشدّد المعلّم على أنّ “المسؤولية في هذا النوع من الملفّات أكبر، لأنّ حياة أشخاص تعتمد عليها، وفِي أغلب الأحيان تكمن الصعوبة في النظام القضائي، وفِي قانون أصول المحاكمات الجزائية، وقانون العقوبات اللذين يحتاجان إلى تعديل كبير وشامل، وأيضاً في عقلية بعض القضاة الذين يلجأون إلى التشدّد، فيظلمون خوفاً من أن يُظلموا بتلميح إلى رشوة، أو تدخّلات”.
نعمة
ليست لدى المحامية سوسن نعمة(رقمها النقابي 10999) دوافع وأسباب معيّنة للتوكّل في أيّ ملفّ، لأنّ “من صلب عمل المحامي تأمين حقّ الدفاع عن المتقاضي، وضمان تمثيله في المحاكمة الذي كرّسه له القانون واتفاقيات حقوق الإنسان”، ولكنْ “تستفزّني القضايا التي يبدو فيها التعدّي واضحاً على الحقوق والحرّيّات، أو التي يكون الدافع إلى ارتكابها وضعاً إنسانياً أو إقتصادياً معيّناً”، وأجد نفسي في كلّ ملفّ أستطيع أن أساهم فيه في إحقاق الحقّ، أو الدفاع عن مظلوم بما يمليه عليّ الضمير والواجب والقسم الذي أدّيته”، معتبرة “أنّ قبولي أو رفضي التوكّل في ملفّات دون أخرى لا علاقة له بكوني إمرأة، بل بقدر ما تتوافق القضيّة المعروضة عليّ مع قناعاتي ومبادئي”.
الإقتناع بحقّ الموكّل
وتلحظ نعمة أنّ “بعض الملفّات القضائية خاصة الجزائية منها، تحظى بالإهتمام الإعلامي بها، باعتبار أنّها تتعلّق مباشرة بالإنتظام العام، وتأثيرها على الرأي العام، ومع ذلك فإنّ توكّلي في أيّ ملفّ يُعرض عليّ لا يكون بدافع الشهرة، بل بعد دراسة ظروف وملابسات القضيّة واقتناعي بأنّ الموكّل صاحب حقّ، وممارسةً لمهنتي كمحامية وتحقيقاً لجوهر رسالة المحاماة في إرساء قواعد العدالة والحفاظ على حقوق المتقاضين وصونها وتمكينهم من تحصيلها أو التعويض عنها”، وتحرص على التشديد على أنّ “الشهرة في مهنة المحاماة تتحقّق عند الالتزام بأصول هذه المهنة وبحُسْن ممارستها وفقاً لمبادئ وأصول قانون تنظسم مهنة المحاماة”.
وتصبّ المحامية نعمة كلّ جهودها على كلّ ملف تستلمه سواء أكان مدنياً أو جزائياً توصّلاً إلى النتيجة المرجوّة، إلاّ أنّ الملفّات الجزائية ترتدي طابعاً خاصاً كون الحكم فيها يؤثّر مادياً ومعنوياً على المتقاضي بخلاف القضايا المدنية التي ينحصر تأثيرها بالشقّ المادي فقط، فالحكم في القضايا الجزائية قد يطال المتقاضي في حياته، أو حرّيته، أو المساس بكرامته وصورته وسمعته في المجتمع، وهي من أقدس الحقوق، مما يشكّل مسؤولية أكبر على كاهل المحامي”.
سرعة الفصل عامل مشجّع
وتختلف أتعاب المحامي بين ملفّ جزائي وآخر بحسب نوعه وطبيعته، برأي نعمة، في ظلّ غياب معيار يحدّد هذه الأتعاب، ولكنْ “سرعة الفصل في الدعاوى الجزائية، قد يكون عاملاً مشجّعاً على التوكّل فيها بالنظر إلى قصر أمد المحاكمة فيها إجمالاً، ما يمكّن المتقاضي من استيفاء حقوقه بشكل أسرع، والمحامي أتعابه كاملةً”، من دون إغفال أنّ هذا الأمر يختلف تبعاً لظروف كلّ قضيّة حيث تبقى سرعة الفصل فيها رهنَ القضاء المختصّ.
وتقول نعمة إنّ “صعوبة الملفّات الجزائية تختلف باختلاف نوع الدعوى وطبيعة الجرم وحجم العقوبة المحدّدة له قانوناً، ومدى توافر الأدلّة أو فقدانها مثلاً ما قد يتطلّب وقتاً أطول لاستكمالها حتّى تصبح القضيّة جاهزة للفصل فيها من قبل القضاء، أمّا سهولتها فتكون في يسر إجراءات المحاكمة فيها ما يساعد على سرعة الفصل فيها إجمالاً، في حين أنّ الملفّات المدنية هي أقلّ خطورة، لأنّ نتائجها تطال حقوق المتقاضي المادية، وليس شخصه، بينما تكمن صعوبتها في أهميّة التفاصيل الجزئية، وكثرة الإجراءات القانونية المحدّدة لها، ما يتطلّب جهداً ومتابعة دقيقة للوصول إلى الحقّ المرجو تأمينه”.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 15 – آذار 2017).