محضر التحقيق الأوروبي مع رجا سلامة: أجوبة سوريالية/رلى ابراهيم
رلى ابراهيم*:
في طفولته، أُعجب شقيق حاكم مصرف لبنان رجا سلامة بشخصية «غراندايزر»، فأسّس وشقيقه رياض – في بداية مشوارهما المهني – شركة تجارية تُعنى بتسويق كل المنتجات الخاصة به. كَبِرَ الأخَوَان وتماهيا مع البطل الخارق في رغبتهما بالحصول على قدرات خارقة، ولكن ليس لمحاربة الشرّ كـ«غراندايزر»، ولا لإنقاذ العالم، مع أنهما تفوّقا على كل الأبطال الخارقين، في ما أنجزاه طوال 30 عاماً عبر خلالها فوق البحر الأبيض المتوسط وصولاً إلى حدود أميركا الجنوبية… وكله اعتماداً على «إرث الوالد»، وفق ما أكّد رجا سلامة في التحقيق معه.
ففي جلسة الاستماع إليه أمام الوفد القضائي الأوروبي، في قصر العدل في بيروت في 2023/5/4، ورداً على سؤال طُلب فيه منه التعريف عن نفسه وكشف مصدر ثروته، قال شقيق الحاكم إن والده ورّث كلاً من أفراد الأسرة المؤلّفة من أربعة أشقاء، خمسة ملايين دولار. وإلى الملايين الخمسة، أورثت زوجة توفيق سلامة أولادها أيضاً عقارات توازي قيمتها نحو مليونين و500 ألف دولار. هذا الإرث الضخم استثمره الأشقاء في عالم الأعمال منذ عام 1978، فأنشأوا شركة «غراندايزر»، وثم أخرى تُعنى بالفنادق والمطاعم والشاليهات، إلى جانب عمل رجا منفرداً في استثمار عقارات في برمانا وبيروت وكفرذبيان، قبل أن يُعيّن لتسع سنوات عضواً في مجلس إدارة «سوليدير»، وهي «من أكبر الشركات العقارية في لبنان». وعندما أُفهم رجا سلامة بأن الأسئلة التي ستُوجه إليه تشمل غسيل الأموال وإخفاء جنح وتآمراً بهدف ارتكاب جريمة يعاقب عليها بالسجن وتهرّباً ضريبياً مشدّداً، وهي جرائم ارتُكبت على الأراضي الأوروبية بتاريخ لم يمُرّ عليه الزمن، أجاب بأن المعلومات التي سترد في إجاباته قد لا تكون دقيقة جداً كونه يعاني من «وضع نفسي غير مستقر»، بعدما صادف قبل دخوله قاعة الاستجواب، القاضية غادة عون. وقد كانت الأخيرة منفعلة، ما أدى إلى انفعاله أيضاً! وهو حاول استخدام هذه الحجة لعدم المضي في التحقيق، وطلب وقتاً مستقطعاً «ليأخذ نفساً»، وما إن وقف ليخرج حتى قمعته المدّعية العامة الألمانية طالبة منه البقاء في مكانه والجلوس لمتابعة التحقيق.
بسبب انهيار قيمة الليرة اللبنانية، لم يكن سهلاً على رجا توفيق سلامة تقدير ثروته العقارية في لبنان بدقّة. لكنه أكّد، في التحقيق معه، أنها لا تتجاوز الـ15 مليون دولار، وهي عبارة عن عقارين في بيروت و9 عقارات في كفرذبيان وعقار في برمانا، قبل أن يعود إلى تقدير قيمة هذه العقارات بـ 6 ملايين دولار، وهو «رقم تقريبي لأنه يستحيل القيام بتخمين دقيق». أما ثروته الإجمالية، فقدّرها بـ 32 مليون دولار، بالإضافة إلى سيارتين قيمتهما نحو 30 ألف دولار. وتتوزّع هذه الثروة على حسابات مصرفية وشركات عقارية في عدد من الدول الغربية. ففي فرنسا، هناك حسابان يضمّان مليوناً و250 ألف يورو حجزتها السلطات القضائية الفرنسية. أما في لندن، فإن شركتيه العقاريتين اللتين يديرهما نجله إميل مدينتان بحوالي 600 ألف جنيه إسترليني، مشيراً إلى أن «الرقم قد يكون غير دقيق». كما يملك شركتين عقاريتين في الولايات المتحدة يديرهما شريكه ونسيبه كمال ثابت، و55% من الأسهم في شركة استشارية لبنانية اسمها MCS يتولى إدارتها بنفسه، وهي «شركة نائمة منذ 10 سنوات».
من يكذب: رياض أم رجا؟
القسم الأكبر من التحقيق تركّز حول شركة «فوري» التي أُسست عام 2001 في جزر العذراء، ويستفيد منها حصراً سلامة. فقد حقّقت الشركة، سريعاً، نمواً استثنائياً عبر عقد موقّع بينها وبين مصرف لبنان الذي «يصدف» أن حاكمه هو نفسه شقيق مدير الشركة. وتعمل الشركة في «تقديم خدمات مالية متصلة بإدارة سندات الدين اللبنانية بالعملات الأجنبية مقابل عمولة» كما أقرّ رياض سلامة في إفادته أمام القاضي جان طنوس في آب 2021. كان عمل «فوري» ينحصر، ببساطة، في الإتيان بـ«زبون» لشراء سندات الخزينة من مصرف لبنان، على أن تتقاضى عمولتها من «الزبون» لا من المصرف المركزي. وقد نفى الحاكم في التحقيق أن يكون معرفته بأي تفاصيل حول كلفة العمولة بين المصارف والوسطاء، لأن هذا الأمر «شأن خاص بينهم». هذه «المتاهة» ضيّعت المحقّقين الأوروبيين الذين توجهوا إلى رجا بسؤال استيضاحي: «بما أن شهادات الإيداع هي سندات مالية صادرة في لبنان، فلماذا يكون المصرف المركزي بحاجة إلى وسيط طالما أن المصارف اللبنانية هي من يشتريها؟»، فأجاب بأن ذلك ليس من اختصاصه! واللافت هنا التناقض بين إفادتَي رجا وشقيقه، حاكم المركزي، إذ أكّد الأول أن «فوري لا علاقة لها بتسويق الأدوات والمنتجات المالية، وهي شركة تصدير فواتير، وتستحصل على عمولة لقاء تحصيل الفواتير، وتقوم بتحويل العمولة إلى مستحقيها».
كذلك نفى رجا سلامة أن تكون لشركته علاقة بمصرف لبنان، بل إن ثمة عقداً يجمعه مع شخص يُدعى عبدو جفّي يقوم «بتسويق سندات مصرف لبنان وغيرها من السندات المالية في السوق المحلية، وكانت لديه شبكة من الوسطاء في لبنان والخارج تمكّنه من التسويق». وقد عرض جفّي على رجا سلامة، بحسب إفادته، بأن يمثّله الأخير في «المركزي» من أجل «تحصيل العمولات المستحقة وتحويلها وفق تعليماته عبر الهاتف». وعليه، فإن «فوري» كانت «تصدر فواتير تتعلق بالعمليات التي يطلبها جفّي وعملاؤه وفقاً للمعلومات التي يبلغني بها جفّي شخصياً من قيمة المبلغ المتوجب وقيمة العمولة، وتجميع المبالغ، وإرسال من يتسلّمها من شركتي». وهنا يبدو مستغرباً أن تحصل شركة ينفي صاحبها أي علاقة له بالمصرف المركزي على مبالغ مستحقة عبر حساب لدى البنك المركزي يُدعى clearing account بموجب عقد. وبحسب رجا، فإن الحساب يتغذى «من التسويق الذي يقوم به عبدو جفي ويضخ المال فيه مستثمرون لا أعرفهم لعدم علاقة شركتي بهم». وفي الأصل، بحسب رجا سلامة، كانت «فوري» فكرة جفي الذي «كان يرغب بتسويق الأدوات المالية»، ولم يجد لتمثيله لدى مصرف لبنان سوى شقيق الحاكم بهدف «تحصيل المستحقات». لذلك اقترح على رجا، كما أدلى الأخير، إنشاء شركة، فراجع رجا مديري مصرفه في جنيف (HSBC) وعرض عليهم الفكرة، فنصحوه بإنشاء الشركة في جزر العذراء وأنجزوا كل المعاملات اللازمة لإنشائها بما فيها فتح حساب لها في سويسرا. ثم، «تلقيت نسخة من العقد الموقّع بين فوري ومصرف لبنان والبالغة مدته 14 عاماً، وتلقّى مصرف لبنان نسخة أيضاً».
فيلم هوليوودي رديء
ما سرده رجا بدا أشبه بفيلم هوليوودي ذي إخراج رديء وحبكة غير متناسقة، ولتمييع التحقيق عمل في كل مرة على إدخال مزيد من الأبطال إلى الفيلم. هكذا، ظهر شخص يُدعى كيفن والتر عيّنه رجا مديراً لـ«فوري»، من دون أن يعرفه أو يلتقيه، وذلك بطلب من جفي الذي كان يدفع له راتبه (!). وقد فُوّض والتر بتوقيع كل الفواتير الناتجة عن العمولات التي يرسلها جفي، ليتم بعدها تحويل قيمة هذه الفواتير من حساب في مصرف لبنان إلى حساب «فوري» في سويسرا. «وبعد قبض قيمة الفواتير كنت أعيد إلى عبدو جفي العمولات، وكان يقتطع من قيمة الفاتورة 3 بالألف عن كل عملية كرسوم، ثم يقتطع في سويسرا رسم التحويل. وتقتطع فوري بدورها بدل التمثيل التي لا يعرف رجا قيمة النسبة المئوية المتفق عليها! ثم يقوم بإعادة الباقي إلى عبدو جفي ليدفع للوسطاء». ولأن هذه السردية ضيّعت المحققين، عاد رجا ليوضحها بالشكل التالي: «عبدو جفي يقوم بأعمال الوساطة لمصلحة مصرف لبنان، لكنّ ثمة عقداً بين فوري والمصرف بتقاضي نسبة ثلاثة أثمان كعمولة من خارج أموال مصرف لبنان، يتم إيداعها في حساب في البنك المركزي يُدعى CLEARING ACCOUNT. العمولة تُحوّل من هذا الحساب إلى حساب فوري (التي لا علاقة لها بالمصرف بحسب رجا) في سويسرا، ليحوّلها بدوره إلى عبدو جفي وعملائه، وجزء رمزي منها كان يذهب بدل أتعاب فوري». أي أن الشركة، بحسب رجا، لم تكن تتقاضى أموالاً من المصرف المركزي، وما كانت تتقاضاه كان فعلياً لمصلحة جفي.
لكن، لماذا يحتاج جفي، وهو وسيط، إلى وسيط آخر، وإلى عملية معقّدة تنتقل فيها الأموال من المصرف المركزي إلى سويسرا لتعود إلى لبنان، ولماذا يدفع نسبة لشخص ثالث بدل توفير هذا المبلغ؟ لا يملك رجا تفسيراً لذلك، كما لا يملك تفسيراً لتعيينه مديراً لشركته لم يعرفه أو يلتقِه ويفوّضه بكل التواقيع بما فيها توقيع عقد الشركة مع مصرف لبنان، إذ لم يوقّع رجا على العقد سوى بعد 14 عاماً لدى طلب مصرف HSBC السويسري منه ذلك. ورغم وجود هذا العقد، بقي رجا مصرّاً على أن لا علاقة مباشرة بينه وبين المصرف المركزي، وأن توقيعه عقداً يتضمن مصالح مالية بينه وبين شقيقه ليس «دقيقاً»، بل إنهما وقّعا العقد «كلّ من موقع مختلف وتبعاً لمسؤوليته». ماذا يعني ذلك؟ وحده رجا يعرف معنى الجملة التي أوردها. لكنه بلا شكّ أثار دهشة المحققين بكل ما صرّح به، وخصوصاً تأكيده عدم معرفته بمدير شركته كيفن والتر ولا بجنسيته أو عنوانه، وبأن العلاقة مع من يتولى إدارة شركته وتوقيع كل المستندات عوضاً عنه، كانت تتم عبر عبدو جفي. أمّا «أمّ المصادفات» فكانت في أن كل المستندات في مكتب رجا التي تحتوي على تفاصيل متعلقة بهذا الأمر فُقدت جرّاء انفجار مرفأ بيروت.
«مات سرّه معه»
الواضح في كل مسار التحقيق أن رجا، وقبله شقيقه رياض، أدخلا إلى روايتهما شخصية تدعى عبدو جفي، وهو موظف سابق في مصرف سرادار توفي عام 2016، من دون أن يظهر اسمه في أي مستند أو وثيقة. ويبدو أن جفي توفي و«مات سرّ الأخوين سلامة معه»، بما يتضمنه ذلك من مستندات ونسخ وفواتير. ورغم أن عائلة جفي أصدرت بياناً تطلب فيه من الحاكم وشقيقه وقف التداول باسمه، آثر الشقيقان «لصق» كل ارتكاباتهما به. فأكّد رجا أن الشركة أوقفت أعمالها وتمت تصفيتها بعد وفاة جفي عام 2016. بناءً على ذلك، برّر رجا سلامة تحويلات وصلت إلى حساب شركة فوري في HSBC (سويسرا) بقيمة 248 مليون دولار بأنها تراكم تحويلات على مدى 14 سنة لصالح جفي الذي قام بتوزيعها على عملائه ولا دخل لرجا بها! كما أن الأخير لا يعرف الهدف من إنشاء مصرف لبنان حساب CLEARING بدل أن تكون العمولة بشكل مباشر بين المصرف والوسيط. لكن عندما سُئل عن 4 تحويلات مصرفية خرجت من حساب «فوري» في سويسرا إلى حسابات شركات يمتلكها شقيقه رياض سلامة بمجموع 9.3 ملايين يورو و25 مليون دولار و5.3 ملايين فرنك سويسري، فصل رجا بين الأموال المحوّلة من المركزي إلى الشركة، وتسديده من حساب الشركة عينها، «أرباحاً» لشقيقه ناتجة عن «مبلغ 15 مليون دولار سلّمني إياه عام 1993 وطلب مني استثماره».
وعطفاً على إفادات ممثلي بنك عودة وبنك ميد الذين تم الاستماع إليهم مطلع كانون الثاني الماضي بأنهم لم يسمعوا إطلاقاً بشركة «فوري»، أكّد رجا أن شركته لم تقم بأعمال وساطة أو تتعامل مع المصارف. وعندما وُوجه بوجود معاملات تثبت كذب الطرفين ويرد فيها أن هذين المصرفين دفعا عمولات لـ«فوري»، لم يجد شقيق الحكم ما يقوله سوى أن «الجواب عند عبدو جفي» الذي توفي!
ثروة رياض برعاية خير الدين
المفارقة أن رجا سلامة نفى علمه بتعرض شقيقه، حاكم مصرف لبنان، لمشاكل قضائية في سويسرا رغم أن وسائل الإعلام ضجّت بالأمر. وقد تطرق التحقيق إلى إدارته ثروة الحاكم نيابة عنه عبر حساب في بنك الموارد لمدة 27 عاماً. وقد بلغت قيمة الحساب مع فوائده حوالي 150 مليون دولار. أسئلة المحققين دفعت رجا إلى مزيد من «التخبيص»، إذ أشار في بداية التحقيق إلى أنه تسلّم من شقيقه 15 مليون دولار لاستثمارها، قبل أن يعود ليقول إن رئيس مجلس إدارة بنك الموارد مروان خير الدين هو من أدار الـ15 مليون دولار التي وظّفها لديه، وتضاعفت 10 مرات لأن «الفوائد في لبنان كانت مرتفعة وبإمكانها أن تؤدي إلى هذه النتيجة، علماً أنني لم أتقاضَ دائماً الفائدة الفضلى»، إذ طلب رجا من خير الدين «إدارة الحساب بأفضل ما يمكن» ولم يتدخل في أي تفصيل فيه، كما أكّد خير الدين في إفادته، بما يوحي وكأنّ رجا كان جاهلاً بالأمور المصرفية رغم عمله في هذا القطاع لمدة طويلة. وقد حرص خير الدين على فتح 3 حسابات باسمه، دأب سلامة على التحويل منها إلى شقيقه «بحسب توفّر المؤونة». وفي حال طلب رياض منه تحويل مبلغ إلى حسابه في أوروبا أو أي حساب آخر في أوروبا، كان يعتمد الحساب السويسري ومن ثم تتم المحاسبة بينهما في ما بعد. ولدى سؤاله ما إذا كانت لديه نسخة عن المحاسبة التي أجراها مع شقيقه، نفى ذلك.
تزوير الكشوفات
واجه الوفد القضائي الأوروبي رجا سلامة بمجموعة رسائل صوتية ومستندات ورسائل إلكترونية مستخرجة من هاتف مروان خير الدين. في رسالة صوتية بتاريخ 2021/8/18، يطلب رجا من خير الدين: «خذ وقتك في الموضوع، ما يهمني أن تكون عمليات السحب قد جرت قبل 15 تموز 2019 وسأعود لرؤيتك في أي وقت يناسبك. شكراً لكل شيء». لدى سؤاله عن هذه الرسالة، قال رجا إنه كان يطلب من خير الدين كشف حساب 2019 عن الحسابات الثلاثة في بنك الموارد لإجراء محاسبة مع شقيقه.
وعندما قالت له القاضية إن الرسالة تبدو وكأنها طلب لتعديل كشف الحسابات وتغيير تاريخها، نفى ذلك، كما نفى أن تكون للرسالة علاقة باستماع القاضي جان طنوس له وسؤاله عن الكشوفات. عندها واجهته القاضية بصورة عن الكشوفات مرسلة من رياض إلى خير الدين سائلة إياه عما إذا كان هذا الحساب يتوافق مع حسابه الحقيقي، فردّ بالإيجاب. ولكن، لأنه «منفعل ووضعي النفسي غير مستقر»، لم يتمكن رجا من التذكر ما إذا كان هو من أرسل الكشف إلى شقيقه، ولا ما إذا كان الحاكم قد أرسل كشف الحساب إلى خير الدين لينظّمه بنفسه وكأنه صادر من مصرفه. علماً أن التحقيق الأجنبي يرجّح أن ما يتستّر عليه رجا هو عملية اختلاس من أموال مصرف لبنان إلى شركة «فوري» قبل تبييضها، وأن الحسابات في بنك الموارد كانت وهمية بالتواطؤ بين الأخوين سلامة وخير الدين نفسه لتقديمها أمام القضاء كمستندات رسمية صادرة عن «الموارد».
* المصدر: جريدة الأخبار.
“محكمة”- الخميس في 2023/7/27