محطّات من ذكريات إدمون كسبار مع شهاب والخوري وآخرين/ناضر كسبار
المحامي ناضر كسبار:
عندما تقرأ التاريخ في جميع ميادين الحياة السياسية أو الاقتصادية أو القانونية، تستوقفك دائماً أسماء، وفي النتيجة إنّ التاريخ قصّة رجال تولّوا مسؤوليات وقادوا شعباً أو حقّقوا منجزات على كلّ الصعد.
وعندما نتكلّم عن تاريخ القانون في لبنان، يقفز إلى الأذهان فوراً إسم المرحوم النقيب ادمون كسبار.
في أربعين النقيب كسبار، قال المطران خليل أبي نادر إنّه كان “أبا القانون” في لبنان. وكتب الكثيرون من تلامذته ومن زملائه عن مزاياه وقدرته واتفقوا جميعاً على أنّه كان سيّد من عالج قضيّة قانونية. ويمكننا القول، بعد كلّ ذلك وبدون مبالغة، إنّ تاريخ القانون الحديث في لبنان ارتبط باسم النقيب كسبار ارتباطاً وثيقاً.
ساهم في صياغة قوانين كثيرة ومتعدّدة، وكان عضواً فاعلاً وبارزاً في اللجنة التشريعية التي كانت مؤلّفة من كبار القضاة والمحامين وأساتذة الفقه في لبنان من أمثال صبحي المحمصاني وبدري المعوشي وسواهما، وهذه اللجنة هي التي تناقش نصوص القانون قبل إقراره وترفع توصياتها إلى المراجع المختصة، وهذه المراجع تأخذ دائماً بتوصيات اللجنة التي كانت موضع ثقة الجميع.
محمّد جواد مغنية
ولئن حالت ظروف كثيرة، ولاسيّما عامل الوقت، دون انصراف النقيب كسبار إلى التأليف، وهذا أمر كان موضع ندم لديه في أواخر عمره، فإنّ الكتاب الوحيد الذي وضعه عن الوصايا والهبات والمواريث كان ولا يزال مرجعاً فريداً من نوعه يحتوي على كلّ الأحكام لدى الطوائف المسيحية والدرزية والاسلامية من سنّية وشيعية، حول هذه المواضيع.
ويروي النقيب كسبار أنّه، قبل إصدار الكتاب، أرسل نسخاً مطبوعة عنه إلى كبار علماء الدين الدروز والسنّة والشيعة لإبداء رأيهم فيه، وجاءته الأجوبة من هذه المراجع مثنية على ما في الكتاب، ومن أهمّها ما كتبه له الفقيه الشيعي الكبير محمّد جواد مغنية أنّه “لا يمكن الكتابة في الفقه الإسلامي الشيعي أفضل مما كتبت، بوركت يداك”.
كلّ لائحة دراسة
لئن لم ينصرف إلى التأليف، قلنا، فإنّ كلّ لائحة في دعوى يقدّمها للمحكمة كانت تأليفاً في ذاته لما كانت تتضمّنه من دراسة وافية كافية حول النقطة القانونية موضوع البحث.
أسلوبه في كتابة القانون كان “السهل الممتنع”. وأنت تقرأ بحثاً قانونياً إنكبّ عليه ولو القانون مادة جافة غير مشوّقة تعتقد أنّك تقرأ قصّة ممتعة. وبخاصة عند سرده الوقائع بوضوح وتسلسل وتماسك غريب. قلت له مرّة:”لو لم تكن محامياً، لكنت بدون شكّ من ألمع الأدباء وبخاصة الأدب القصصي”، فكان جوابه:”أنا مغرم بالأدب العربي لأنّني تتلمذت على يد أحد كباره الخوري يوسف الحدّاد.
مشيناها خطى
وكان مغرماً بإثنين المتنبي وإبن الفارض، وكان دائماً يردّد بيتين من الشعر يعتبرهما من أروع ما قيل:
“مشيناها خطى كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطى مشاها
ومن كانت منيّته بأرض
فليس يموت في أرض سواها”
وكان يعتقد أنّ هذين البيتين من الشعر قالهما الأخطل الصغير، وفي التاسعة من ليل أحد الأيّام، إتصل بي يقول إنّه كان يستمع إلى حسن الكرمي من إذاعة لندن يعلّق على هذين البيتين وأنّ الكرمي ينسبهما إلى شاعر جاهلي مغمور وغير معروف، فهل هذا صحيح؟ قلت إنّ أستاذي مروان شلق كان يقول ذلك أيضاً، فكان جوابه:”حتّى ولو صحّ ما يقولون، يجب أن نبقى على رأينا أنّ الأخطل هو قائل البيتين، لأنّ مجلّة الأحكام العدلية كانت تنصّ على أنّ الأرض لمن أحياها”!
كان يعيش للقانون، ومن خلال القانون، ويحلّل كلّ شيء من الزاوية القانونية دون أيّ اعتبار آخر، حتّى في الشعر.
كان ناسكاً في محراب القانون، رافضاً أيّة لذّة في هذه الدنيا قبل لذّة البحث في المجموعات الفقهية، ورافضاً فكرة عدم إحقاق الحقّ لأيّ اعتبار خارج إطار الملفّ الموجود أمام القضاء. وانسجاماً مع هذا التفكير المتأصّل فيه.
من هم شركاؤك؟
كان ينتقد دائماً الحكم الذي أصدره القضاء الفرنسي ضدّ المارشال بيتان. فقد رافق النقيب كسبار محاكمة المارشال من خلال الصحف والأخبار والجريدة الرسمية الفرنسية، وكان يقول: “إنّ كلّ من يسمع الشهود أو يقرأ وقائع المحاكمة ومستندات الدعوى لا بدّ أن يعتبر أنّ الماريشال أنقذ فرنسا من دمار كامل”، مضيفاً:”ولكن للسياسة أحكامها، ولا يمكنك أن تكون في الوسط، فإمّا أن تكون بطلاً كديغول وإمّا خائناً كبيتان، ألا تذكر قصّة المارشال ناي لقد سأله رئيس المحكمة، من هم شركاؤك في المؤامرة؟ فأجابه: كلّهم سيّدي الرئيس وأنت أوّلهم لو أنّني انتصرت.
أهمية المرافعة
وبرغم أنّ ما يكتبه في لوائحه كان وافياً، كان النقيب كسبار في القضايا المدنية المهمّة، يصرّ على المرافعة الشفوية أمام المحكمة. ومرافعاته دائماً تؤدّي إلى حيث يريد، لم يخسر قضيّة واحدة ترافع فيها لأنّه كان ساحراً في وضع المحكمة في الجوّ الذي يريده وكان أسفه العميق لأنّ الظروف الحالية، من ضيق وقت المحاكم إلى كثرة القضايا والهموم الأمنية، حالت دون المرافعات الكبرى في القضايا المهمّة، وكان يقول بإنّ انعدام المرافعات قد يهضم الكثير من حقوق الناس. ويروي دائماً أنّه في قضيّة مهمّة جدّاً أمام محكمة التمييز ترافع مدّة ساعتين، وصدر الحكم لمصلحته وبعد صدور الحكم جاءه أحد مستشاري المحكمة يخبره أنّ القضاة كانوا متفقين على إصدار حكم لغير مصلحة موكّله، وأنّ المرافعة الرائعة هي التي أقنعتهم بالعكس.
ولم تقتصر مرافعات النقيب كسبار والقضايا التي تولاها على لبنان فحسب، بل تعدّتها إلى بلدان أجنبية كثيرة. إذ تولّى قضايا كبيرة للبنانيين في سوريا والأردن ومصر وإيطاليا وبريطانيا، وخاصة في فرنسا.
كسبار يترافع في فرنسا
وأمام محكمة بداية باريس التجارية كانت للنقيب كسبار مرافعة رائعة في قضيّة مهمّة نترك له سرد وقائعها: “إستدعاني البطريرك عريضة ذات يوم وأخبرني أنّ محكمة بداية باريس التجارية أصدرت حكماً ضدّه بالصورة الغيابية وألزمته بدفع مبالغ كبيرة بحجّة أنّه خالف عقداً بينه وبين أحد التجّار الفرنسيين. وأنّه أوكل إلى النقيب تولوز (من كبار المحامين الفرنسيين) أمر الاعتراض على الحكم والدفاع في الدعوى وطلب مني غبطته أن أسافر إلى باريس لأنّني محامي البطريركية وأن أتعاون مع النقيب تولوز في تلك الدعوى المهمّة.
وفي باريس، اختلفت مع النقيب تولوز في شأن دفع قانوني يتعلّق بعدم صلاحية المحكمة التجارية لأنّ البطريرك ليس تاجراً بل هو مرجع ديني، ولا يجوز أن تكون الدعوى أمام محكمة التجارة.
وكان النقيب الفرنسي ينظر إليّ نظرة فوقية متعالية وكأنّه يريد أن يقول:أنت من بلد صغير كان في حمايتنا منذ سنوات وتريد أن تعلّمنا القانون، وإزاء إصراري وافق النقيب تولوز على مضض على إثارة هذا الدفع القانوني وطلب مني أن أترافع أمام المحكمة في شأنه. ولا أنكر أنّني تهيّبت الموقف وبقيت نهاري السبت والأحد في غرفتي أحضّر المرافعة، وعندما دخلت إلى المحكمة نهار الإثنين وجدت القاعة تغصّ بالمحامين الفرنسيين الذين جاؤوا “يتفرّجون” على هذا المحامي الآتي من بلد صغير ليترافع في فرنسا.
وترافعت مركّزاً على أنّ البطريرك هو رئيس طائفة ومسؤول عن الأوقاف، والوقف، الذي لا يعرفه القانون الفرنسي، هو مؤسّسة قانونية دينية مستمدّة من الشريعة الإسلامية والهدف منه عمل الخير لا المتاجرة. ترافعت ساعة كاملة. وعندما انتهيت بادرني رئيس المحكمة، وخلافاً لكلّ عرف أمام المحاكم، بالقول إنّ المحكمة تسمح لنفسها بتهنئة النقيب كسبار الآتي من لبنان هذا البلد العظيم. وأحبّ أن أشير هنا إلى أنّني من الذين يعرفون مؤسّسة الوقف لأنّني كنت رئيساً لمحكمة في الجزائر”.
ويضيف النقيب كسبار:”عندها، انفجرت القاعة بالتصفيق بعد هذا الثناء من رئيس المحكمة، وأيضاً خلافاً لكلّ عرف. وصدر الحكم بعد أيّام، وربحنا الدعوى على أساس ما أدليت به. وبعد مرور شهرين تقريباً، وأنا في مكتبي في بيروت، دخل عليّ النقيب وجدي الملاّط وكان لا يزال أحد معاوني في المكتب، والبهجة تغمر محيّاه، ليقول: يا معلّمي، أنظر، إنّ الحكم منشور في مجلّة داللوز وذُكر معه أنّك المحامي في القضيّة”.ومجلّة دللوز القانونية لا تنشر سوى الأحكام المهمّة عن المحاكم الفرنسية.
ويقول الوزير والنائب السابق الأستاذ نهاد بويز وكان مع النقيب كسبار في تلك القضيّة أنّها كانت وقفة عزّ وشموخ للمحامي اللبناني، وكان النقيب كسبار ساحراً، ومجلّياً، وعظيماً من لبنان.
ويقول الأستاذ أوغست باخوس، أحد تلامذة النقيب الأكثر وفاء له:”هنيئاً لك إذا لم يكن النقيب كسبار خصماً لك، أمّا إذا حصل العكس، فالأفضل لك أن تبدأ بالنذور للسيّدة العذراء”!
مقاطعة الحكومة
سنة 1943، وكان نقيباً للمحامين، صدر عن مجلس الوزراء قرار تأليف الوفد اللبناني إلى مؤتمر القانونيين العرب من وزير العدل رئيساً وعضوين إثنين من القضاة. فاحتج النقيب لإشراك نقابة المحامين في الوفد لأنّها معنية أيضاً بالقانون، وإزاء رفض الرئيس بشارة الخوري، جمع النقيب كسبار مجلس النقابة عند الساعة العاشرة ليلاً واتخذ قراره بمقاطعة النقابة للحكومة وهدّد بالإضراب. عندها صدر تعديل للقرار الوزاري في منتصف الليل، وأضيف إلى الوفد نقيب المحامين أو من ينتدبه كنائب لرئيس الوفد.
وبعد أسبوع، إستدعى الشيخ بشارة النقيب كسبار وعرض عليه ان يكون سفيراً للبنان في الأرجنتين. وكان الهدف التخلّص بلباقة من هذا “النقيب المزعج”، وإزاء إصرار زوجته، رفض النقيب كسبار العرض. وبدأت خصومة بين الرجلين استمرّت مدّة طويلة وانتهت بمصالحة على الطريقة اللبنانية.
فساد ورشوة
مخاصمته في القانون كانت متعبة للخصم، سواء أكانت هذه الخصومة في ملفّ دعوى خاص، أم في المجال العام. في مجلس الوزراء، أرادوا مرّة تمرير مرسوم مخالف للقانون خدمة لإحدى الفاعليات الاقتصادية، فتصدّى له بحزم مهدّداً بالخروج من المجلس وفضح العملية، فتأجّل إصدار المرسوم إلى ما بعد خروجه من الوزارة. ولكنّه مع ذلك، طعن في المرسوم أمام مجلس الشورى وأبطله. وبعد الابطال، تمكّنت هذه الفاعلية ممّا تريد، وكما كان يقول النقيب كسبار بكلّ أسف على الطريقة اللبنانية التقليدية.
فؤاد شهاب يدفع “إكرامية”
معه لا يمكنك أن تتجاوز القانون أو تتطاول عليه ما لم يكن في اليد حيلة. وفي ذلك، يروي النقيب كسبار أنّه عندما كان وزيراً للداخلية أيّام الرئيس شهاب، أخبرهم في مجلس الوزراء عن الفساد الاداري والرشوة المتفشّية، وكيف اضطرّ، وهو زير الداخلية، لدفع إكرامية لجهاز تابع له كي يحرّك معاملة لإحدى الشركات التي كان وكيلها. وكيف أنّ الرئيس شهاب لم يكن “مرتاحاً” لهذا التصرّف. ولكن وفي صبيحة نهار أحد، إتصل الرئيس شهاب بالنقيب كسبار ودعاه إلى القصر لسماع القدّاس معه. وبعد القدّاس روى الرئيس شهاب للنقيب كسبار أنّه ورث عن جدّه عقاراً وكلّف أحدهم إجراء معاملات الانتقال دون ضجيج وانتهت المعاملة وقدّموا له فاتورة المصارفات وفيها مبلغ من المال تحت بند “إكرامية للموظّفين” وهو أيّ الرئيس دفع هذه الإكرامية.
بالتأكيد، قال الرئيس شهاب، لم يعرفوا أنّ المعاملة تخصّني شخصياً لأنّ حصر الإرث جاء فيه أنّ الورثة هم: فؤاد عبد الله شهاب و…(دون ذكر اللقب) وهذا الموظّف لم يخطر بباله أنّني أنا الوارث.
وشرد الرئيس شهاب قليلاً ليضيف: لقد عتبت عليك لأنّك دفعت إكرامية، واستدعيتك اليوم لأقول لك إنّه يحقّ لك أن تعتب عليّ بدورك. ولكن الموضوع ليس هنا، يا شيخ ادمون، يجب ان نفعل شيئاً. وكلّنا نعرف أنّ الرئيس شهاب حاول أن يفعل شيئاً من خلال القوانين الادارية التي أصدرها… دون جدوى.
يقول نقيب المحامين السابق الأستاذ ريمون عيد: في جلسات مجلس النقابة والنقيب كسبار هو كبيرنا وعميدنا، كان عندما يريد الكلام يرفع يده مستأذناً، ولا يتكلّم إلاّ عندما أعطيه الكلمة. وهذا التصرّف يدلّ على مدى تعلّقه بالنظام والقانون. لقد كان هذا الرجل يتنشّق هواء اسمه القانون، والقانون فقط.
إدمون كسبار مات حزيناً لأنّه في آخر أيّامه، كان يمشي في جنازة القانون، ففي هذا الزمن الردئ قتلوا كلّ شيء عندما استبيح كلّ شيء، وأصبح القانون استثناء، وهل يعيش مجتمع بدون قانون، ووطن بدون نظام؟
“محكمة” – الثلاثاء في 2019/8/27