“محكمة” تنشر مخالفة الحاج في استئناف وهّاب حكم “المطبوعات” الصادر لمصلحة السنيورة
كتب علي الموسوي:
كثيراً ما تبادل السياسيون اللبنانيون الكلام الجارح، والإنتقادات الملوّنة بالاتهامات الصريحة والصارخة، وذلك على وقع الخلافات المستشرية في طول البلاد وعرضها، وتحت ظلال الاغتيالات والتفجيرات، ووضعوها في إطار الإتهام السياسي، وهذا ما كان يحكونه على شاشات التلفزيونات، وفي المجالس الخاصة والعامة.
ولم يوفّر أحد من السياسيين أحداً آخر من الفريق الواقف في الضفّة السياسية المقابلة، وكثيراً ما امتلأت آذان اللبنانيين بعيارات نارية من هذه الخطابات الخارجة عن إطار التخاطب التقليدي والعادي، حتّى باتت هذه “الموضة” الدارجة من التصريحات الإعلامية كلاماً مستهلكاً سرعان ما يزول مفعوله بانتهاء المناسبة المحكى فيها.
وعلى الرغم من أنّ كلّ الأطراف السياسية الموجودة على الساحة اللبنانية وباختلاف تنوّعها ومشاربها، كانت تدرّ كلاماً”من هبّ ودبّ” في سبيل تقوية عصب جماهيرها ومناصريها دون أدنى اعتبار لمصلحة الوطن العليا، إلاّ أنها كانت في أحيان كثيرة تلجأ إلى القضاء لوضع حدّ للكلام السياسي ولجمه وتخويفه تحت عنوان أنّه يصبّ في إطار القدح والذمّ والتحقير، وهذا ما كدّس الدعاوى السياسية أمام محكمة المطبوعات، ثمّ أمام محكمة التمييز الناظرة استئنافاً في قضايا المطبوعات.
ولم تخرج محكمة المطبوعات عن إطار التجريم في الحالات المنصوص عليها قانوناً، إلاّ أنّ القاضي بسّام إلياس الحاج المنتدب مستشاراً إلى الغرفة التاسعة لمحكمة التمييز، كان له رأي مخالف في كلام السياسيين وتبادل الاتهامات في مختلف المناسبات، معتبراً “أنّ أيّ كلام قد يصدر عن شخص سياسي بحقّ شخص سياسي آخر، يتعيّن عدم عزله عن الظروف المحيطة به والمقدّمات التي أدّت إليه”، وبالتالي، فإنّ” الركن المعنوي في جرائم القدح والذمّ والتحقير” يكون “منتفياً على وجه عام في مثل هذه الأحوال، ما دام الفعل لا ينطوي على أيّ ألفاظ شائنة بذاتها، أو مسيئة لكرامة الشخص وشرفه بعيداً من أدائه السياسي العام”.
وقد ذهب القاضي الحاج بخلاف رأي زميلتيه في المحكمة نفسها القاضي مادي مطران المكلّفة بالرئاسة، والمستشارة القاضي وفاء مطر، إلى أنّه كان يقتضي “الحكم مجدّداً بكفّ التعقّبات” بحقّ المستأنف الوزير السابق وئام وهّاب “لعدم توافر عناصر الجرم المدعى به بحقّه، وردّ دعوى المستأنف ضدّه” الرئيس فؤاد السنيورة، لأنّه “لم يثبت أنّ القصد الجرمي قد توافر لدى المستأنف بتحقير المستأنف ضدّه، أو الإساءة إلى شخصه، وإنّما يندرج كلامه في إطار التقييم السياسي العام لسياسة المستأنف ضدّه من وجهة نظر المستأنف الخاصة”.
ورأى القاضي الحاج “أنّ الجمهور الموجّه إليه الكلام قد اعتاد سماع هذا النوع من الكلام في مناسبات مختلفة، ولا يعطيه من معنى ومدلول وقيمة أكثر ممّا قاله في الواقع، على أنّه مجرّد كلام سياسي عالي النبرة يمكن أن يردّ عليه المستأنف ضدّه في أيّ وقت وبوسائل متعدّدة”.
وقضى قرار محكمة التمييز بالأكثرية، بالحكم بجعل التعويض المتوجّب للمستأنف عليه مبلغاً قدره أربعة ملايين ليرة لبنانية، بدلاً من ثمانية ملايين ليرة لبنانية، وتصديق الحكم الإبتدائي لسائر جهاته الباقية، وتضمين المستأنف المدعى عليه النفقات كافة.
وما يلفت النظر في قرار محكمة التمييز الصادر “باسم الشعب اللبناني” تحت الرقم 7/2017، اعتباره “ما أقدم عليه المستأنف المدعى عليه ليس مرتبطاً بعلاقة شخصية بين الطرفين، بل بأداء رجل سياسي لأعمال سياسية، فيكون الجرم له طابع سياسي بامتياز، وترى المحكمة بما لها من سلطة تقدير، تخفيض التعويض المحكوم به بداية للمدعي المستأنف عليه، وجعله مبلغاً قدره أربعة ملايين ليرة لبنانية، وبالتالي فسخ الحكم المستأنف جزئياً للناحية المذكورة، وتحديد التعويض مجدّداً بمبلغ أربعة ملايين ليرة لبنانية”.
وكانت محكمة المطبوعات قد أصدرت في 11 شباط 2016، قراراً قضى بإدانة المدعى عليه الوزير الأسبق وئام وهّاب سنداً لأحكام المادة 22 من المرسوم الاشتراعي رقم 104/77(جرم التحقير)، معطوفة على الفقرة 2 من المادة 35 من القانون رقم 382/1994(قانون البثّ التلفزيوني والإذاعي) وتغريمه مبلغ ستّة ملايين ليرة، وإلزامه بدفع مبلغ ثمانية ملايين ليرة كتعويض للمدعي.
يذكر أنّ كلام وهّاب جاء خلال مقابلة ضمن برنامج”الحدث” الصباحي على تلفزيون”الجديد” في شهر آذار من العام 2015، حيث قال:” إنّ كلّ من ينادي بنزع سلاح حزب الله في ظلّ الوضع القائم في المنطقة هو كمن يكون جزءاً من المشروع الإسرائيلي”، وأضاف:”السنيورة يعمل ضدّ الرئيس سعد الحريري… وضدّ إخماد الفتنة، وبالتالي هو أصبح بطريقة غير مباشرة من المشروع الإسرائيلي”.
وهنا مخالفة القاضي الحاج المؤلّفة من خمس صفحات “فولسكاب”:
خلافاً لما ذهبت إليه أكثرية المحكمة لجهة ردّ الاستئناف الأصلي وتصديق الحكم المستأنف في ما انتهى إليه بإدانة المستأنف بجرم التحقير المنصوص عليه في المادة 22 من المرسوم الاشتراعي رقم 104/77 معطوفة على المادة 26 منه، وعلى المادة 35/2 من القانون رقم 382 لعام 1994،
أرى أنّ الحكم المستأنف كان مستوجباً الفسخ لمخالفته القانون بعدم تحقّقه من توافر جميع العناصر اللازمة قانوناً لتكوين جرم التحقير المقضي به بحقّ المستأنف.
وبالفعل، فإنّ شروط جرم التحقير المنصوص عليها في المواد المشار إليها آنفاً، غير متوافرة في الفعل المنسوب إلى المستأنف ولاسيّما العنصر المعنوي للجرم، إذ تبيّن من الرجوع إلى أوراق الدعوى من جهة أولى، أنّ ما ورد على لسان المستأنف بحقّ المستأنف عليه كان في إطار برنامج سياسي تلفزيوني مباشر على الهواء، يقوم بشكل أساسي على متابعة الأحداث السياسية الراهنة من خلال استطلاع رأي ضيف الحلقة في الموضوعات السياسية المختلفة، وتعليقه على المواقف والأوضاع السياسية المستجدّة، سواء على المستوى الداخلي أو الإقليمي، أو الدولي.
وحيث يتبيّن من جهة ثانية، أنّ المستأنف يتعاطى الشأن السياسي العام، وهو وزير سابق، ورئيس حزب مناوئ في سياسته العامة لسياسة المستأنف ضدّه، الذي هو بدوره من رجالات السياسة، ورئيس كتلة برلمانية، ورئيس سابق للحكومة، ووزير سابق للمالية لفترات طويلة.
وحيث بالتالي، فإنّ تبادل المواقف السياسية بين الفريقين ومعارضة أحدهما للآخر، يغدو أمراً عادياً من حيث المبدأ، ولو رافقته بعض الحدّة في الخطاب، أو في بعض التعابير المستعملة، ما دام الأمر لم يتخطّ آداب التخاطب، أو يقع تحت ما يحظّره القانون من تحقير وخلاف ذلك، مع الإشارة إلى أنّ أيّ كلام قد يصدر عن شخص سياسي بحقّ شخص سياسي آخر، يتعيّن عدم عزله عن الظروف المحيطة به والمقدّمات التي أدّت إليه، وإنّما يُنظر إليه نظرة خاصة في ضوء الوضع السياسي العام السائد في البلاد، حيث من المألوف والمشاهد في المراحل الصعبة والأزمات السياسية التي يمرّ بها أيّ بلد أن تعلو حدّة الخطابات والمواقف بين السياسيين، فيتلقّفها المواطنون بالشكل والإطار الواردة فيه بسهولة وقابلية أكثر ممّا هي الحال في الأوضاع العادية وحالات الإستقرار، ما يؤدّي بالتالي إلى جعل الركن المعنوي في جرائم القدح والذمّ والتحقير منتفياً على وجه عام في مثل هذه الأحوال، ما دام الفعل لا ينطوي على أيّ ألفاظ شائنة بذاتها أو مسيئة لكرامة الشخص وشرفه بعيداً من أدائه السياسي العام.
وحيث وبالرجوع إلى الأقوال الصادرة عن المستأنف بحقّ المستأنف ضدّه خلال المقابلة التلفزيونية المشار إليها، يتبيّن أنّها جاءت في سياق أسئلة وجّهتها إليه مقدّمة البرنامج حول وضع “حزب الله” المعروف بمقاومته للعدوّ الإسرائيلي على لائحة الإرهاب، وعلى خلفية مواقف منسوبة إلى المستأنف ضدّه يمكن أن تؤثّر سلباً في مسار الحوار القائم في البلد، بحسب ما ورد في أحد الأسئلة، وقد جاءت أجوبة المستأنف المعروف بتأييده للحزب المذكور، تُدْرج مواقف المستأنف ضدّه في إطار المشروع الإسرائيلي، معتبراً بأنّ من يسمع المستأنف ضدّه، يقول إنّ هذا الرجل جزء من المشروع الإسرائيلي، ولو بشكل غير مباشر، وأكمل بالحديث عن عمل المستأنف ضدّه، ضدّ أيّ تقارب لبناني وضدّ إخماد الفتنة، ودوره في إفقار الناس على خلفية موقفه من عدم إقرار سلسلة الرتب والرواتب للموظّفين، ومواقفه المعروفة في الإقتصاد والمالية العامة.
وحيث إذا كان القصد الجنائي في جرائم القدح والتحقير يستلزم إستعمال المدعى عليه عبارات تتضمّن في معانيها ما يؤدّي إلى احتقار المدعي في مجتمعه، وعند أهل وطنه، أو الحطّ من كرامته، غير أنّه من أجل تحقّق هذا القصد ينبغي أن يثبت على وجه واضح وقاطع توافر النيّة والعلم لدى الفاعل أنّ ما قاله من شأنه أن يؤدّي إلى حدوث تلك الأمور.
وحيث إنّ ما ورد على لسان المستأنف بحقّ المستأنف ضدّه، وعلى الرغم من حدّته، لا يشكّل في السياق العام الوارد فيه، والإطار الذي كان يجري فيه الحديث، والظروف السياسية العامة السائدة وقت إجراء المقابلة في شهر آذار 2015، حين كانت البلاد تغرق في التجاذبات السياسية الحادة في ظلّ الفراغ الرئاسي الذي كان قائماً، تحقيراً بالمعنى المعاقب عليه في القانون، إذ لم يثبت أنّ القصد الجرمي قد توافر لدى المستأنف بتحقير المستأنف ضدّه، أو الإساءة إلى شخصه، وإنّما يندرج كلامه في إطار التقييم السياسي العام لسياسة المستأنف ضدّه من وجهة نظر المستأنف الخاصة، ولا دليل كافياً في الأوراق على توافر النيّة والعلم لدى المستأنف حول أنّ ما قاله من شأنه المسّ بكرامة المستأنف ضدّه وشرفه بين أهل وطنه، ولاسيّما أنّ الجمهور الموجّه إليه الكلام قد اعتاد سماع هذا النوع من الكلام في مناسبات مختلفة، ولا يعطيه من معنى ومدلول وقيمة أكثر ممّا قاله في الواقع، على أنّه مجرّد كلام سياسي عالي النبرة يمكن أن يردّ عليه المستأنف ضدّه في أيّ وقت وبوسائل متعدّدة.
وحيث إنّ هذه المحكمة قد أرست هذا المنحى في التفسير في قرارات سابقة، كان آخرها القرار رقم 5 تاريخ 12/1/2016.
وحيث بالنتيجة كان يقتضي قبول الاستئناف الأصلي في الأساس وفسخ الحكم المستأنف والحكم مجدّداً بكفّ التعقّبات بحقّ المستأنف لعدم توافر عناصر الجرم المدعى به بحقّه، وردّ دعوى المستأنف ضدّه، وتدريكه الرسوم والنفقات القانونية كافة.
مخالفة دوّنت في بيروت بتاريخ 16/2/2017″.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 16- نيسان 2017).