“محكمة جزين” توقف قراراً وزارياً من اختصاص “الشورى” على خلفية بئر غير مرخّصة
كتب علي الموسوي:
أن يخطئ القاضي في حكمه وتعليله وتفسير قناعاته فليس عيباً على الإطلاق، لأنّ كلّ إنسان معرّض لهكذا موقف وقد يصاب بكبوة وزلّة وعثرة، شرط أن يعترف بما جنته يداه باعتبار أنّ الكمال لله سبحانه وتعالى، لكنْ أن يخطئ القاضي العدلي بأن ينظر في ملفّ من إختصاص القضاء الإداري ويقرّ بذلك في متن قراره ويكمل في تطريزه وكتابته ويخلص فيه إلى وقف تنفيذ قرار وزاري، فهو لأمر لا يمكن السكوت عنه، ويقتضي تسليط الضوء عليه حفاظاً على روحية العدالة المتوخّاة.
فقد أصدر قاضي الأمور المستعجلة في جزين شادي زرزور في 11 حزيران 2016 قراراً “باسم الشعب اللبناني” أقرّ في إحدى حيثياته القانونية بأنّ محكمته “ليست المرجع الصالح للنظر بمدى صحّة وقانونية القرار الصادر عن الوزير، أو عن المراجع الإدارية الأخرى، أو البتّ بطلب وقف تنفيذه، إلاّ أنّه لا شيء يحول دون أن تتمتّع بالصلاحية الكافية لاتخاذ الإجراءات اللازمة والضرورية لتجميد مفاعيله ودرء الأضرار التي يمكن أن تترتّب عليه في حال تنفيذه”، وذلك في معرض النظر في نزاع حول حفر بئر في منطقة كفرحونة العقارية في قضاء جزين تسبّبت بجفاف برك مياه في الحقول المجاورة، ممّا استدعى تدخّلاً من وزير الطاقة والمياه أرثيور نظريان بناء على شكوى المتضرّر، أصدر في نتيجته، في 8 حزيران 2016، قراراً رمى إلى ردم هذه البئر.
ويظهر جلياً أنّ المحكمة أقرّت بأنّها ليست المرجع الصالح للنظر بمدى صحّة وقانونية القرار الصادر عن الوزير بالنظر إلى الطبيعة الإدارية التي تظلّل هذا القرار ما يجعله من اختصاص المرجع الإداري المعني وهو مجلس شورى الدولة، ولكنّها عادت وناقضت نفسها في الحيثية ذاتها فقالت إنّ لا شيء يحول دون أن تتمتّع بالصلاحية الكافية لاتخاذ الإجراءات اللازمة والضرورية لتجميد مفاعيله، أيّ أنّ المحكمة بعدما أعلنت عدم اختصاصها عادت وناقضت نفسها بإعلان اختصاصها للفصل والبتّ.
العجلة على حساب القانون
ويبدو أنّ مسألة الأضرار الناجمة عن هذه البئر إلتبست على المحكمة ربّما لعدم اطلاعها المعمّق على فحوى الملفّ وكامل مستنداته واكتفائها بسماع وجهة نظر صاحب البئر وما قدّمه لها من وثائق ومستندات تتوافق ورؤيته ومصلحته الشخصية دون التوسّع للوقوف على آراء المتضرّرين من هذه البئر حتّى ولو كان في الأمر عجلة، لكنّ هذه العجلة لا تكون على حساب القانون.
وبدلاً من إعلان المحكمة عدم اختصاصها والإقرار بأنّ الصلاحية هي لمجلس شورى الدولة في هذه الحال كما يعرف أهل القانون، جعلت نفسها مختصة “لرفع المظلومية” عن هذه البئر التي في الأساس غير مرخّصة وإنْ كان صاحبها يسعى إلى تسوية وضعها القانوني، علماً أنّ الوزير نظريان قال بشكل واضح لا لبس فيه إنّها لا تخضع للتسوية.
وبحسب المستندات المتعلّقة بالنزاع القائم حول هذه البئر، وما إذا كانت هنالك أضرار ناشئة عنها أم لا، في ظلّ التضارب الحاصل في تقارير الخبراء والجمعيات المعنية بالحفاظ على البيئة، فإنّ الوزير نظريان إتخذّ قراراً بردم البئر التي حفرت “في العقار رقم 2332 من منطقة كفرحونة العقارية دون الاستحصال على ترخيص قانوني بحفرها من وزارة الطاقة والمياه في مخالفة صريحة للقوانين والقرارات والمراسيم المرعية الإجراء لاسيّما القرار رقم 118/ق.و. تاريخ 12 أيلول 2010، ولا تخضع هذه البئر للتسوية، كما أنّها ألحقت الضرر الفادح بمياه الينابيع المجاورة وتسبّبت بجفاف ستّة منها، ممّا استلزم تقرير ردم البئر المخالفة وختمها بالشمع الأحمر”.
أضرار البئر كثيرة
وما دام أنّ قرار وزير الطاقة والمياه واضح المضمون لجهة تأكيده بأنّ البئر غير مرخّصة، ولا تخضع للتسوية، وألحقت الضرر الفادح بمياه الينابيع المجاورة وتسبّبت بجفاف ستّة منها، فإنّه لا يعود هناك أيّ مجال للبحث في وجود عجلة تقتضي فرملة القرار الوزاري وتأخيره حيث كان مقرّراً ردم البئر في 14 حزيران 2016، فأصدرت المحكمة في جزين قرارها في 11 حزيران 2016، أيّ في يوم سبت، فهل هناك صراحة أكثر من أنّ أضرار هذه البئر كثيرة؟ وكيف يمكن أن تؤدّي أضرار تنفيذ القرار الوزاري بردم البئر إلى “خلق أوضاع لا يمكن تداركها وتصحيحها أو العودة عنها” كما ارتأت المحكمة ورئيسها القاضي زرزور؟ ولماذا أخذ القرار القضائي بوجهة نظر جهة دون سماع وجهة النظر المعاكسة؟ وما دام أنّ المحكمة مقتنعة بأنّها غير مختصة للبتّ بطلب وقف تنفيذ القرار الوزاري، فلماذا لم تشر على صاحب العلاقة و”الأمر على عريضة”، ومن باب النصيحة، بوجوب التوجّه إلى صاحب الإختصاص الوظيفي مباشرة وهو مجلس شورى الدولة الذي لديه غرفة لقضايا الأمور المستعجلة؟.
إنّ قرار الوزير نظريان صادر في 8 حزيران 2016، ولا بدّ أنّ الأخير مهّد لقراره من خلال المسؤولين والمعنيين في وزارته، بالإطلاع على حيثيات ملفّ البئر وما فيه من مستندات ومن بينها نتيجة الكشف الميداني الصادر عن تكليف صاحب البئر شركة قدّمت في 8 شباط 2016، أيّ قبل أربعة شهور، تقريراً في “ملفّ معاملة التسوية خلصت فيه إلى عدم تأثير البئر على الينابيع السطحية الموسمية الموجودة في العقارات المجاورة”، ولو أنّ نظريان اقتنع مع المعنيين في وزارته بما ذهبت إليه الشركة في تقريرها، لما أصدر قراراً بردم البئر، لذلك كان يتوجّب على المحكمة أن تكون حذرة في ملامسة الملفّ ومقاربة النزاع، وهي في الأساس غير مختصة قانوناً لوقف القرار الوزاري والحؤول دون ردم بئر غير مرخّصة ومخالفة للقانون.
البئر جفّفت الينابيع والبرك المحيطة
واللافت للنظر أنّ القانون يحظّر حفر الآبار كلّيّاً ضمن شعاع مسافته 350 متراً عن أيّ بئر عامة للإدارة أو نبع متفجّر دائماً أو موسمياً، ولكنّ البئر المشكو منها تبعد عن ينبوعي عطا الياس عبد النور وجورج أيوب الحدّاد حوالي 179 متراً بحسب ما هو وارد في تقرير الكشف الميداني الموقّع من المهندس جوزف كسّاب وحنّا الأسمر بتاريخ 2 حزيران 2016، كما أنّ الخبير الجيولوجي المحلّف سمير عرمان أصدر في 11 كانون الأوّل 2015 تقريراً أكّد فيه أنّ البئر الإرتوازية هي سبب جفاف ينابيع وبرك تجميع المياه في المنطقة المحيطة بالبئر، ولا تستوفي الشروط المتوجّبة لجهة تأمين الأبعاد المطلوبة عن الينابيع، أيّ أن تبعد البئر 350 متراً عن أيّ نبع.
كما أنّ المدير العام للموارد المائية والكهربائية الدكتور فادي قمير أصدر في 2 شباط 2016، قراراً بوقف استثمار هذه البئر وتمّ تبليغه لمحافظ الجنوب منصور ضو، لأنّ هذه البئر وبكلّ بساطة، جفّفت كلّ الينابيع المحيطة بها وكلّ أحواض تجميع المياه التي كان المزارعون يستعملونها لريّ أراضيهم ومزروعاتهم.
وقام فريق من جمعية الشبّان المسيحية في 2 حزيران 2016، بناء على تكليف من وزارة البيئة، بالكشف ميدانياً على موقع البئر المشكو منها، ليتبيّن بأنّ الضرر البيئي قد حصل بجفاف بعض الينابيع التي تقع ضمن شعاع 350 متراً منها، على ما ورد حرفياً في الكتاب الموجّه من وزير البيئة محمّد المشنوق إلى المحافظ ضو.
“الشورى” يردّ طلب وقف التنفيذ
وأكثر ممّا تقدّم، فإنّ مجلس شورى الدولة المؤلّف من القاضية دعد شديد رئيساً، وطوني فنيانوس وشانتال أبو يزبك مستشارين، أصدر في 26 تموز 2016، قراراً إعدادياً في المراجعة المقدّمة من صاحب البئر المشكو منها ريمون خليل عزيز ضدّ الدولة اللبنانية ممثّلة بوزارة الطاقة والمياه طعناً بقرار الوزير نظريان بردم البئر الإرتوازية غير المرخّصة، إنتهى فيه إلى ردّ طلب وقف تنفيذ القرار الوزاري، لأنّ شروط وقف التنفيذ غير متوافرة.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 11 – تشرين الثاني 2016).