محنة السلطة القضائية في طريق الإستقلال/يوسف لحود
بقلم المحامي يوسف لحود:
مفارقتان تحكمان المشهد:
1 – سلطتان زميلتان تنعمان بالمال العام وتنفقانه حسبما تريانه مع بروز فاقع لبذخ في المقرّات والمكاتب والحاشية والنفقات … (على صعيد القمم فيهما!).
2 – لامبالاة تجاه الحاجات الأوّلية والبديهيّة لسلطة زميلة منوط بها أهمّ ركائز وجود الدولة، أيّ العدالة.
صحيح أنّ القضاء في حاجة ماسّة لأدنى المقوّمات، ولكن:
إذا علا صوت مريض فلا يجوز إتهامه بالصراخ، بل بالتعبير عن ألمه واستغاثته بالطبيب،
أمّا إذا علا صوت طبيب يتألّم، فمن حقّه أن يعبّر عن أوجاعه، وإنّما أيضاً من واجبه أن يساهم في إيجاد الدواء الناجع، لا أن يستجديه من طبيب سواه ليست الأمانة على الحقوق من طبيعته.
الرواتب بخسة ويقتضي رفعها أو احتسابها على سعر صرف محدّد. وإنّ أيّ زيادات يقتضي أن تدخل في صلب الراتب لا كمنحة عابرة، ضمانة لتقاعد كريم.
وقصور العدل تشتهي الكهرباء والمياه والنظافة… فكأنّها شواهد على قتلة أمعنوا التنكيل في سمعة وطنهم ومصالحه الاستراتيجيّة ، مبتهجين بالتفرجة على مرآة تتحطّم إذْ كانوا يخشون رؤية صورهم القبيحة فيها!
فما هي الحلول المطروحة وما دور المظلوم في رفع ظلامته؟
أوّلاً: من السهل الاعتكاف للوصول إلى زيادات فورية في الرواتب، وهذا يؤدّي إلى تضخّم أخطر من الوضع الراهن، فتصبح القوّة الشرائية للراتب الحالي أكبر من القوّة الشرائية للراتب المنشود رغم مضاعفته لمرّات، طالما أنّ الحلّ هنا غير مبني على موازنة كمّية الصرف بكميّة الدخل، بل بطباعة العملة.
وطالما أنّه لا مراهنة على الحدّ من الهدر لدى السلطتين الأخريين لاستعمال المدّخر في تحسين ظروف السلطة القضائية، وإنّ أيّ حلول علّمية موضوعية لا يمكن توخّيها من هاتين السلطتين في ظلّ فوضى عارمة، وانعدام في التخطيط ، وفقدان للقرار الوطني الموحّد، وأعتقد أنّ السلطة القضائية تقف عند هذا الحلّ بالذات، أيّ أنّها حدّدت وجعها، وهو وجع وطني، واعتكفت تنتظر الحلول من سواها، وهي قادرة على فرض بعضها من غير اعتكاف، وأنّه من الخطير عدم فتح نوافذ على وسائل أخرى، رغم أنّ الإكتفاء بالإعتكاف، قد يعطي مفعولاً، ولكنّه غير مستدام، وسوف تكون إستمرارية عمل السلطة القضائية عندها مرتبطة بسعر صرف الليرة المتغيّر والمتبدّل بصورة سريعة!
وهذا يدعو ليس إلى التخلّي عن ورقة قد تجدها السلطة القضائية ذات نفع أكيد وسريع، بل إلى رفد هذه المعالجة الآنية وغير الجذرية ، بمعالجات معمّقة وذات مفاعيل ثابتة ولو كانت تستلزم الصبر وطول الأناة. فالصبر صبران: صبر عمّا تكره وصبر عمّا تحبّ.
وإذا كان الناس العاديون يضيّعون الوقت بانتظار وصول السفينة، فصاحب السلطان يسعى إليها ولو في عرض البحر.
لا ريب أنّ العوز ظالم، والمسؤول الذي تراهنون عليه ظالم أيضاً، ومن استعان بظالم على ظالم يُخشى أن يكون فريسة الإثنين!
وإنّ زئير الأسد لا يكفي فقط لاصطياد الفريسة، مهما كان وقعه مجلجلاً ومؤثّراً، فلا غنى عن السعي الدؤوب للوصول.
ثانياً: السلطة القضائية لديها صلاحيات واسعة في استرجاع المال العام، فإذا أهدره أو اختلسه أيّ كان فيمكنها بما هو منوط بها قانوناً حقّ الملاحقة والمداعاة والحكم والإلزام بردّ المال العام.
وهذا باب منتج لخزينة الدولة من شأنه أن يبرّر الصرف على ما يحتاجه القضاء والقضاة دون أن يؤدّي إلى التضخّم، وذلك عبر تطبيق نصوص قانونية تتعلّق:
– بالإثراء غير المشروع.
– بالتهرّب الضريبي.
– بعدم تسديد الفواتير العامة (من كهرباء وهاتف وسواها لا سيّما من كبار المسؤولين …).
– بالإعتداء على الأملاك العامة البحرية والنهرية والبرية.
– باختلاس المال العام ، أو هدره بالصفقات والسمسرات والمحسوبيات والإحتكار والتهريب والرشوة … (وهي لا تستوجب ادعاء شخصياً لتحريك الحقّ العام).
– باعتماد الإجتهاد الإيجابي في تفسير المواد القانونية ولا سيّما منها الدستورية وعلى الأخصّ المادة 70 دستور لوضع اليد على كلّ ما يمسّ المال العام من قبل القضاء العدلي.
وهذا يقتضي ورشة فعليّة بصورة متواصلة لا سيّما من قبل:
أ- النيابات العامة
ب- قضاة التحقيق
ج- قضاء الامور المستعجلة
د- دوائر التنفيذ
هـ- المحاكم العليا لترسيخ اجتهادات متقدّمة ومتطوّرة وغير تقليدية في سبيل المصلحة العليا للدولة وماليتها العامة.
تترافق هذه الورشة مع التركيز على:
– ديناميكية مجلس القضاء الأعلى.
– فعالية هيئة التفتيش القضائي.
وإنّ هيبة العدالة تنمو بكلمة واحدة قاطعة وحاسمة ينطقها قاضٍ ويمشي، وعندما يصبح الكلام تبادل اتهامات أو دفاعات … (لا سيّما داخل السلطة – الأمل) فلا ريب أنّ الهيبة تتآكل.
ثالثاً: وعلى مدى أبعد، العمل على مشاريع قوانين لإطلاقها بصفة المعجّل المكرّر في المجلس النيابي (رغم الأفق شبه المسدود حالياً)، لاقتطاع نسبة محدّدة لصالح صندوق تعاضد القضاة من أيّ مال عام يُستعاد لصالح صندوق الخزينة بفعل قرارات قضائية ونسبة أخرى لكلّ من ساهم في تقديم أيّ أدلّة جديّة أدّت إلى صدور الحكم المذكور(أكان بموجب شكاوى أم إخبارات)، إضافة لنسبة أيضاً للمساعدين القضائيين… وإيجاد حلول قانونية لفرض طوابع ورسوم لا ترهق المتقاضين وتتناسب مع قيمة الدعاوى في ضوء تغيّرات سعر الصرف.
وكذلك تفعيل استيفاء الغرامات والرسوم وسواها، أو إبتكار الحلول لحصر المبالغ المستوفاة كرسوم دعاوى وأحكام … في إطار السلطة القضائية فحسب (قصور العدل + قضاة + مساعدون قضائيون)، ممّا يمهّد بوضوح لاستقلالية السلطة القضائية مالياً.
رابعاً: إيجاد حوافز من قبل السلطة القضائية، وبالوسائل المتاحة لديها وبالتعاون الجائز مع من تراه مناسباً، وربط منحها بمعيار موضوعي يصدر عن مجلس القضاء الأعلى يفرّق بين القاضي المنتج والقاضي الأقلّ إنتاجاً.
وهذه الحوافز المتاحة تتراوح بين ما هو مادي وبين ما هو معنوي، مع إمكانية تحصينها بقوانين أو سوى ذلك.
خامساً: إنّ مسألة إحاطة السلطة القضائية بهالة من الاكتفاء المادي المعقول، ومن الهيبة المعنوية، هي مسألة حيوية ومرتبطة بالمصلحة العليا لدولة القانون.
وأمّا التجمّد عند النقطة “أولاً”، فسوف يجعل من السلطة المظلومة بمثابة فرد لا حول ولا قوّة له إلّا بالإعتكاف شأنها شأن أيّ مظلوم آخر لا سلطة له! ممّا يوجب، إعادة تقويم الوسائل، ولو بالإصرار على الوسيلة حسب العنوان “أوّلاً”، وإنّما تناول وسائل أخرى حسبما ورد في العنوان “ثانياً” وذلك بالتنسيق والتزامن، ونقل المطالب المحقّة من حالة الانتظار، إلى حالة التفاعل كون صاحب هذه المطالب هو صاحب سلطة لديه صلاحيات يمكنه استعمالها في مواضعها، وليس مواطناً عادياً لا قدرة له سوى المطالبة والمناشدة.
إضافة لذلك، إستغلال وقت الاعتكاف – فيما لو أصرّ القضاء على متابعته – لفصل جميع الدعاوى العالقة والتي باتت جاهزة للحكم، حتّى يشعر الناس، وحين العودة إلى الأقواس، أنّ المحاكم لم تعد غارقة في دعاوى مزمنة، مما يضع برسم حُسن التقدير لدى جانب السلطة القضائية، إمكانية إيجاد إستثناءات “لموقف الإعتكاف”، أهمّها مباشرة ومتابعة الدعاوى المتعلّقة بالمال العام، والموقوفين … وفصل الدعاوى الجاهزة.
مع الأخذ بعين الاعتبار، التدحرج السريع للوضع المالي في لبنان، بما سوف يؤدّي – باحتمال كبير – إلى فوضى مجتمعيّة عارمة تُطيح بأيّ مكتسبات آنية، وتفرض مجدّداً اللجوء إلى الإعتكاف لتصحيح الخلل تباعاً، وهكذا دواليك، بعكس إتباع الوسائل الجراحية الموجعة والتي تبقى أصلب مقاومة للتغيّرات المالية المتلاحقة.
وأمّا الأشدّ خطورة، فهو إمكانية إنفلات مكابح “شبه الدولة المتبقيّة” وانحلال ضوابطها، وذلك بفعل غياب السلطة القضائية، ممّا سوف يؤدّي إلى شريعة الغاب ويجعل من إمكانية استعادة الهيبة والنظام العام مسألة صعبة تقارب الإستحالة.
ولنا في الأحداث اليوميّة – دون تعدادها – خير مثال على انصراف الناس إلى استيفاء حقوقهم بالذات، أو إلى استسهالهم إرتكاب الجرائم على أنواعها، والتي من الممكن الحدّ من توالدها في ظلّ هيبة تعتمد الجرأة في تلقّف الكبير قبل الصغير.
وعلى أمل نيل إستقلالية القضاء كسلطة ناجزة (مالياً وإدارياً …)، فالمتاح اليوم إستقلالية القضاة لأنّها تنبع من داخل كلّ منهم بما ينعكس أملاً في إنصاف كلّ محقّ بمن فيهم القضاة أنفسهم لعلّ ذلك يمهّد للتأسيس لدولة القانون.
“محكمة” – الجمعة في 2022/10/7