مدى انطباق أحكام الضرورة على استيفاء الحقّ بالذات ومصير الوديعة المتحصّلة بواسطته/عطاف قمر الدين
د. عطاف قمر الدين:
مع استمرار مسلسل عمليات اقتحام المصارف لتحصيل الودائع من قبل أصحابها باستخدام القوّة بفعل تداعيات الأزمة المالية الراهنة، تكثر التساؤلات القانونية حول الفعل المذكور من عدّة نواح، وما يهمّنا التركيز عليه في المقال الراهن، مسألتان إثنتان:
الأولى تتعلّق بمدى انطباق أحكام الضرورة على بعض حالات استيفاء الحقّ بالذات، هل يستفيد الفاعل من آثارها القانونية على قاعدة أنّ “الضرورات تبيح المحظورات”؟
والثانية تتعلّق بمصير الوديعة المتحصّلة بواسطة الجرم المذكور، هل يكون من القانوني إعادتها إلى المصرف، أم أنّه يحقّ لصاحبها الذي تحصّل عليها بالقوّة، الاحتفاظ بها؟
أوّلاً: بالنسبة لانطباق أحكام الضرورة:
تقوم الأهلية الجزائية على افتراض القانون لعنصري الوعي والإرادة في جانب فاعل الجريمة بحيث إنّه إذا اختلّ أحدهما أو كلاهما، بأن طرأ عليهما ما ينقص منهما أو يعدم وجودهما بالكامل، ترتّب على ذلك انتفاء المسؤولية الجزائية عنه تبعاً لانتفاء شروطها.
وأسباب انتفاء المسؤولية أو موانع المسؤولية الجزائية عديدة وإحداها حالة الضرورة التي نصّ عليها المشرّع اللبناني في الفقرة الأولى من المادة ٢٢٩ من قانون العقوبات بقوله:”لا يعاقب الفاعل على فعل ألجأته الضرورة إلى أن يدفع به عن نفسه أو عن غيره أو عن ملك غيره خطرًا جسيمًا محدقًا لم يتسبّب هو فيه قصدًا شرط أن يكون الفعل متناسبًا والخطر”.
وقد عبّر الكثيرون عن رأيهم القائل بانطباق أحكام حالة الضرورة على بعض حالات اقتحام المصارف استيفاءً للحقّ في الحصول على الودائع بالذات، إذ يكون الفاعل “مضطرًّا” على الفعل بسبب حالة مرضية لديه، أو لدى أحد ذويه، أو بسبب حاجته الملحّة إلى المال تلبيةً للوضع المعيشي الصعب والضائقة المادية الشديدة… ما يحتّم انتفاء مسؤوليته الجزائية، وبالتالي عدم معاقبته جزائيًا عن الجرم المذكور.
من جهتنا، نرى أنّ القول أعلاه مردود لعدم دقّته ولسوء تقديره لأحكام الضرورة لأنّه يخلط ما بين حالة الضرورة كمانع للمسؤولية الجزائية من ناحية، وبين الدافع على ارتكاب الجرم من ناحية أخرى.
فالدافع، بحسب المادة ١٩٢ من قانون العقوبات، هو العلّة التي تحمل الفاعل على الفعل أو الغاية النهائية التي يتوخاها، ومقتحم المصرف بالقوّة إنّما يكون “مدفوعاً” بسبب معيّن كالعوز أو الجوع، أو بهدف نهائي يريد تحقّقه من وراء النتيجة الجرمية المتمثّلة بنزع حيازة وديعته بالقوّة، كتأمين الطبابة أو دفع فاتورة الاستشفاء… ولا يكون في حالة ضرورة دفعته إلى ارتكاب الجريمة دفعًا لخطر جسيم وشيك على نفسه، أو ماله، أو مال غيره، أو نفس غيره، لكون الأخيرة تفترض اختيار ارتكاب الجريمة إثر تقدير الفاعل لكون الضرر المترتّب عليها أقلّ جسامة من الضرر المحدق به أو بغيره، أو أنّ المصلحة التي اختار صونها بالجريمة أهمّ من المصلحة التي اعتدى عليها بارتكابها لها.
والقاعدة أنّ القانون لا يعتد بالدوافع بحيث إنها لا تعترض الصفة الجرمية للفعل ولا تمسّ بالمسؤولية الجزائية عنه، فيبقى الفاعل مسؤولاً عن الجرم مسؤولية كاملة، وكلّ ما هنالك أنّ المشرّع قد أخذ بعين الاعتبار حالة توافر الدافع الشريف إذا كان متسمًا بالمروءة والشهامة ومجرّدًا من الأنانية والاعتبارات الشخصية والمنفعة المادية، طبقًا للفقرة الأخيرة من المادة ١٩٣ من قانون العقوبات، والذي قد يكون متوفّرًا في بعض حالات استيفاء الحقّ بالذات (كحالة لزوم إجراء عملية جراحية عاجلة لإنقاذ حياة إنسان مثلاً). واعتبر أنّه يؤثر على العقوبة تخفيفًا، ولكنّه لا يطال المسؤولية الجزائية بأيّ حال من الأحوال.
ثانياً: بالنسبة لمصير الوديعة المتحصّلة من جريمة استيفاء الحقّ بالذات: إنّ استيفاء الحقّ بالذات ينطوي بطبيعة الحال على الاستحصال على “حقّ” يترتّب للـ”جاني” في ذمّة “المجنى عليه” في الجريمة، وهو عبارة عن الوديعة التي يمتنع المصرف عن دفعها للمودع، والتساؤل عن مصير هذه الوديعة بعد الاستحصال عليها بالقوّة، يُطرح على أساس أنّ نزع حيازة المال كان حصيلة فعل يجرّمه القانون، والأخير يقول بعدم أحقّية مرتكب الجرم بالاحتفاظ بنتاج فعله على اعتبار أنّ مصدر المال غير مشروع، ما يلزم القاضي بردّه أو بالحكم بمصادرته.
ولكنّنا من جهتنا، نقول بعدم جواز تطبيق أحكام الردّ والمصادرة في حالة استيفاء الحقّ بالذات على وجه التحديد لخصوصية الجريمة:
فمن جهة أولى، إنّ الردّ يقضي بإعادة الحال إلى ما كانت عليه قبل وقوع الجريمة بحسب المادة ١٣٠ من قانون العقوبات، ما يعني إعادة الوديعة إلى المصرف الذي كان يحتجزها، وهذا ما يخالف المنطق القانوني السليم لأنّ “الحال السابق” هنا هو وضع غير مشروع كما هو معلوم، ومن غير الجائز إعادته إلى ما كان عليه بموجب حكم قضائي فالأحكام القضائية لا تكرّس واقعًا غير قانوني!
ومن جهة ثانية، إنّ المصادرة كعقوبة جزائية إضافية، وإنْ كانت ترد على الأشياء الناتجة عن الجريمة، بحسب أحكام المادة ٦٩ من قانون العقوبات، إلّا أنّ حيازة الوديعة المتحصّلة عن استيفاء الحقّ بالذات هي حيازة مشروعة في الأصل ولا يمكن نزع ملكيتها جبرًا عن مالكها وإضافته إلى ملك الدولة بغير وجه حقّ! وكلّ ما هنالك أنّ المدان بالجرم يكون ملزمًا بدفع بدل العطل والضرر الذي قد يحكم به القضاء لصالح المصرف المتضرّر من الجريمة.
بالمحصّلة، لا يمكن من وجهة نظر قانونية ترفض شيوع شريعة الغاب، تشجيع حالات استيفاء الحقّ بالذات عبر الترويج لآراء قانونية توحي بعدم ارتكاب الفاعلين لأيّ جرم جزائي، أو لعدم قيام مسؤوليتهم الجزائية عنها، وفي الوقت عينه، لا يمكن من الوجهة ذاتها، الدعوة إلى التشدّد بوجه المودعين بالقول بعدم استفادتهم من مفاعيل الدافع الشريف أحيانًا أو بعدم حقّهم بالاحتفاظ بوديعتهم خلافاً لأي منطق قانوني، سيّما إزاء حالة الظلم التي يتعرّضون لها والتي تناقض مبادئ العدل والإنصاف التي تقوم عليها العدالة الجزائية عامةً.
“محكمة” – السبت في 2022/9/17