أبحاث ودراسات

مدى حقّ المدين بالدولار أن يسدّد بترخيص من القضاء دينه لدائنه بالعملة الوطنية على سعر صرفها الرسمي؟/ فرانسوا ضاهر

القاضي السابق والمحامي فرانسوا ضاهـر:
   I- القسم الأول: في عدم قانونية تحويل دين المدين المعقود بالعملة الأجنبية وتسديده من دائنه بالعملة الوطنية عنوةً وبإرادته المنفردة.
إن عدم قانونية تحويل دين المدين بالعملة الأجنبية وتسديده من دائنه بالعملة الوطنية عنوةً وبإرادته المنفردة تستند الى التالي:
1- لأن الإقرار بالدين (على سبيل المثال) الذي التزمه المدين لمصلحة دائنه هو محرّر أصلاً وحصراً بالدولار الأميركي.
وإنّه لا يحق بالتالي للمدين أن يعدّل منفرداً في منطوق سند الدين أو أن ينفّذه بغير ما تمّ الإتفاق عليه. بخاصة عندما لا يتضمّن ذلك السند بنداً يجيز للمدين الإيفاء بغير العملة المتّفق عليها.
وإن هذا الأمر يستند الى شرعة المتعاقدين الذين أتوا على تصفية الحقوق العالقة في ما بينهم بالعملة الأجنبية بحيث لا يجوز للمدين منفرداً أن يعدّل في ما أقرّ به من إلزامات، لا كمّاً (مقداراً) ولا نوعاً (عملةً).
كما وإن المتعاقدين الذين تجنبوا مخاطر العملة الوطنية بالتعاقد بالعملة الأجنبية، لا يمكن للقضاء تعديل إرادتهم بإخضاعهم لتلك المخاطر، وأقلّه إخضاع الدائن لها، وجعل المدين يستفيد منفرداً من ذلك الإخضاع.
فعندما كان سعر الصرف ثابتاً وموحّداً، لم يكن تحويل الدين من عملة أجنبية الى وطنية يثير أية إشكالية. ولم يكن يطالب أحدٌ بهذا التحويل.
أما وإن أُعمل ذلك التحويل، لأي سبب كان، من قبل المدين أو بواسطة القضاء. فلم يكن يشكّل ضرراً لا على الدائن ولا على المدين.
أما بعد انخفاض قيمة العملة الوطنية، فلا يجوز لا قانوناً ولا إنصافاً إعمال هذا التحويل، قسراً من قبل المدين منفرداً أو بواسطة القضاء. على نحو يضرّ دوماً بالدائن وبشكلٍ فاحش، ويفيد المدين دوماً وبذات المقدار.
2- كما وإن عرض المدين إيفاء دينه بغير العملة المتفق عليها، إنما هو بمثابة تجديد للموجب أو للإلزام الذي لا يمكن ان يتحقّق إلاّ بموافقة الدائن، وذلك سنداً لحكم المادتين 320 و323 م.ع..
(المادة 320: في تجديد الموجب: التجديد هو استبدال الموجب الأول بموجب جديد. وتجديد الموجب لا يقدّر وجوده بل يجب أن يستفاد من العقد صراحة).
(المادة 323: لا يكون التجديد إلاّ بإدخال عنصر جديد في الموجب. ويتناول التبديل إما شخص أحد المتعاقدين وإما موضوع الموجب وإما السند القانوني الذي يستمد منه الموجب).
وإن إتمام هذا التحويل القسري للدين بالعملة الأجنبية الى عملة وطنية من قبل المدين منفرداً، بدون موافقة الدائن، والترخيص بإتمامه على هذا النحو من قبل القضاء، إنما يشكّل مخالفة لقاعدة قانونية جوهرية ترتبط بالإنتظام العام.
3- كذلك، إن إيفاء المدين للإلزامات التي ارتضاها بالعملة الأجنبية بغير تلك العملة، لا يشكّل إبراءً له من ذلك الدين، إستناداً الى حكم المواد 338 وما يليها م.ع..
(المادة 338: إن الإبراء من الدين أو تنازل الدائن عن حقوقه لمصلحة المديون لا يكون إلاّ بمقتضى إتفاق إذ يفترض في الإبراء إتفاق أصحاب الشأن).
4- كذلك أيضاً، إن الترخيص للمدين بالإيفاء المنفرد لدينه بغير العملة المتفق عليها، هو في المحصّلة ترخيص له بإيفاء ذاتي لذلك الدين تجاه دائنه، على النحو الذي يرتئيه، ولو نتج عنه ضرر فاحش لهذا الأخير.
وهذا أمرٌ باطلٌ سنداً لحكم المادة 84 م.ع. التي تقول: ” يكون الموجب باطلاً إذا جعل وجوده موقوفاً على إرادة الموجب عليه وحدها (وهو الشرط الإرادي المحض). (…)”.
كما هو باطلٌ أيضاً لمخالفته قواعد القانون المرتبطة بالإنتظام العام، كذلك قواعد الإنصاف، مما يشكِّل خطأً في علم القانون وتطبيقه.
5- أما المواد 249 و299 و301 من قانون الموجبات والعقود، فهي لا تولي المدين الحق بتحويل دينه المعقود بالعملة الأجنبية وبتسديده من دائنه بالعملة الوطنية. بدليل أنه:
” يجب على قدر المستطاع أن توفى الموجبات عيناً إذ إن للدائن حقّاً مكتسباً في استيفاء موضوع الموجب بالذات. ” (249 م.ع.)
كما وأنّه: ” يجب إيفاء الشيء المستحق نفسه. ولا يجبر الدائن على قبول غيره وإن كان أعلى قيمة منه. وإذا كان الشيء لم يعيّن إلاّ بنوعه فلا يجب على المديون تقديمه من النوع الأعلى ولكن لا يجوز له تقديمه من النوع الأدنى. ” (299 م.ع.)
وإنه: ” عندما يكون الدين مبلغاً من النقود، يجب إيفاؤه من عملة البلاد … وفي الزمن العادي، حين لا يكون التعامل إجبارياً بعملة الورق، يظلّ المتعاقدون أحراراً في اشتراط الإيفاء نقوداً معدنية أو عملة أجنبية. ” (301 م.ع.)
5/أ- وهنا تجدر الملاحظة الى أن نص المادة 301 م.ع. هو في وضعية تقــــادم (texte vétuste ou caduc)  في مجمله.
– لناحية التطوّر الذي لحق بالتعاملات المالية، محلياً ودولياً، من معدنية الى ورقية ومؤخراً الى رقمية وغير ذلك، منذ إقرار قانون الموجبات والعقود في 1932/3/9
– ولناحية أن قانون النقد والتسليف الذي صدر في 1963/8/1 قد ألغى التعاملات بالعملات القديمة وأنشأ النقد الوطني اللبناني.
– ولناحية أن القانون اللبناني لم ينصّ على حظر التعامل بالعملة الأجنبية، كما لم ينص على حصرية التعامل بالعملة الوطنية أكانت ورقيّة أو نقوداً معدنية. بدليل أن الفقرات 1 و4 و5 و6 من نص المادة 229 ق.ن.ت. قد لحظت إمكانية إستيفاء الدولة للضرائب والرسوم بالعملات الأجنبية، كذلك إمكانية سدادها للنفقات المترتّبة عليها بتلك العملات، وقد نظّمت كيفية احتسابها في الحالتين في موازناتها.
(المادة 229: (…)
1- يعتمد لليرة اللبنانية، بالنسبة للدولار الأميركي المحدّد بـ 0,888671 غرام ذهب خالص سعر قطع حقيقي أقرب ما يكون من سعر السوق الحرّة يكون هو « السعر الإنتقالي القانوني » لليرة اللبنانية.
(…)
4-  تحسب على اساس « السعر الإنتقالي القانوني » الضرائب والرسوم التي تستوفى عن المبالغ المحرّرة بالعملات الأجنبية والتي تحسب حالياً على اساس السعر المحدّد بالمادة الأولى من قانون 24 أيار سنة 1949.
(…)
5- إن العملات الأجنبية التي تستوفيها الدولة تدخل في المحاسبة بالعسر الإنتقالي القانوني.
6- تعدّل بالنسبة الى السعر الإنتقالي القانوني نفقات الدولة الخارجية المحدّدة بالليرات اللبنانية وتحوّل من الآن فصاعداً بسعر السوق الحرّة.)
5/ب- وفي ما يخرج عما تقدّم، يمكن، ومن ناحية أولى، قول التالي:
لقد طرحت النبذة الأولى من المادة 301 م.ع. قاعدة تقول:” عندما يكون الدين مبلغاً من النقود، يجب إيفاؤه من عملة البلاد.”
أما النبذة الثانية من تلك المادة فقد طرحت استثناء أو تلييناً لتلك القاعدة يقول:” وفي الزمن العادي، حين لا يكون التعامل إجبارياً بعملة الورق (الوطني)، يظلّ المتعاقدون أحراراً في اشتراط الإيفاء نقوداً معدنية معيّنة أو عملة أجنبية”، بحيث تستند تلك الفقرة الأخيرة الى شرعة المتعاقدين، أي الى إمكانية التعاقد بالعملة الأجنبية، في حالة محدّدة. أي حينما لا يكون التعامل بعملة الورق (الوطني) إجبارياً. وهو أمر واقع في لبنان، حيث إن التعامل في عملة الورق الوطنية ليس إجبارياً قانوناً.
إذ لو كان إجبارياً، لما أمكن التعامل بغير عملة الورق الوطني، ولما أمكن التعامل بالتالي بالعملة الأجنبية.
وحتى لا يمكن التعامل بالعملة الأجنبية لا بدّ من أن يكون هناك نص تشريعي خاص يحظّر التعامل بالعملة الأجنبية في لبنان. وهو أمرٌ غير محقّق. لذا، وما دام أن التعامل بعملة الورق (الوطني) هو غير إجباري في لبنان، يظلّ المتعاقدون أحراراً في اشتراط إيفاء الدين في ما بينهم نقوداً معدنية معيّنة أو عملة أجنبية.
ولا يمكن بالتالي لا للمدين ولا للقاضي أن يستند الى نص المادة 301 م.ع. لتحويل دين الدائن بالعملة الأجنبية، عنوةً وقسراً وبصورة منفردة وبدون موافقته، الى عملة وطنية على أي سعر صرف كان لها.
كما وإنه لا بدّ من فهم وتفسير وتطبيق المادة 301 م.ع. على نحو يجعل من القاعدة التي نصّت عليها النبذة الأولى من المادة المذكورة، هي ” القاعدة الأساس “، وتكون بالتالي القاعدة الوضعية التي نصّت عليها النبذة الثانية من المادة ذاتها، هي التليين (atténuation) أو الإستثناء (exception) على الأولى.
وهذا ما يجعل القاعدة المنصوص عنها بالنبذة الأولى غير مرتبطة بالإنتظام العام، على اعتبار أنه أجيز للمتعاقدين مخالفتها بالنبذة الثانية من المادة القانونية عينها.
ويمكن بالتالي الإستنتاج بأن مجمل نص المادة 301 م.ع. لا يتعلّق بالإنتظام العام، لأنه يمكن للمتعاقدين أن يتعاقدوا على ما يخالف النبذة الأولى. بحيث إنّه في حال تعاقدوا بالعملة الأجنبية يتمّ الإيفاء بالعملة ذاتها، ولا يحق بالتالي للمدين تحويل دينه بالعملة الأجنبية وسداده من دائنه بالعملة الوطنية.
5/ج- ومن ناحية ثانية، إنّه يجب فهم وتفسير وتطبيق مفهوم المادة 301 م.ع.، بالتنسيق مع النصوص الأخرى لقانون الموجبات والعقود، على نحو لا يؤدّي الى تعطيل هذه الأخيرة أو العكس. وذلك تبعاً لما يلي:
– إن القاعدة المنصوص عنها بالنبذة الأولى من المادة 301 م.ع. إنّما تتعلّق بالإلزامات المالية المنشأة بالعملة الوطنية. لأنّ المشرّع اللبناني يختص بالتشريع لتثبيت سيادة عملته الوطنية.
– كما وإن فهم وتفسير وتحديد ميدان تطبيق المادة 301 م.ع. لا بدّ أن يتكامل مع نصّ المادتين 249 و299 م.ع.، لا أن تفسَّر المادة 301 م.ع. على نحو يُلغي أو يُسقط مضمون المادتين (249 و299) المذكورتين من القانون نفسه سيما، وان المادة 249 م.ع. تتناول الموجبات النقدية لزوماً، تحت التسمية المبدئية (désignation générique) ” عيناً ” (en nature)، التي تشتمل، وفق حكم المادة 250 من القانون نفسه، على كافة فئات الموجبات: موجبات الأداء وموجبات الفعل وموجبات الإمتناع.
كما وأنّ المادة 299 م.ع. التي تقع ضمن نفس الفصل الذي تناول المادة 301 م.ع. إنما تتناول أيضاً وحكماً الموجبات المالية، كما غيرها من فئات الموجبات.
كما وأن لا قيداً أو حظراً تشريعياً وطنياً على التعاملات المالية بين أفراد الحق العام والخاص بالعملة الأجنبية. ولا سيما، عملاً بالقاعدة التي نصّت عليها المادة 221 م.ع.. إذ تبقى مفاعيل الإلزامات المنشأة بين الأفراد سارية، سنداً لحكم المادة المذكورة.
على اعتبار أن تلك الإلزامات تمثِّل التوازنات في ما بين حقوقهم وموجباتهم المتبادلة. بحيث لا يصحّ لأي فرد أن يعدّلها منفرداً وقسراً وعنوةً على حساب الفريق الآخر بمعرض تنفيذها.
5/د- ولا يردّ على ما تقدّم بأنّ بعض الإجتهاد القديم كان قد قضى بإمكانية سداد الإلزامات المعقودة أو المحرّرة أو المحكوم بها بالعملة الأجنبية، بالعملة الوطنية على سعر الصرف الرسمي لها. فذلك قد كان يتمّ أو قد كان يمكن التساهل به في ضوء ثبات وتوحيد سعر صرف العملة الوطنية، من جهة. وفي ضوء إمكانية إعادة تحويل العملة الوطنية المقبوضة أو المسدّدة بها تلك الإلزامات الى عملة أجنبية من جديد، من جهة ثانية، من دون أن يكون قد لحق بالدائن بها أية خسارة ملحوظة أو ضرر بيِّن. بحيث إنه في حال انتفاء توفّر هذين الشرطين: – ثبات توحيد سعر الصرف الرسمي للعملة الوطنية على العملة الأجنبية – وإمكانية تحويل العملة الوطنية المقبوضة من الدائن الى عملة أجنبية بدون خسارة أو ضرر عليه، كما هي الحال في وضعية البلد الراهنة، يكون من الإجحاف والإخلال بقواعد الإنصاف إعمال الإجتهاد القديم، نظراً للأضرار والخسائر الجسيمة التي ستلحق بالدائن من جراء الأخذ به.
ضمن هذا الإطار، يُفهم أن الإجتهاد القديم كان يستند حصراً الى النبذة الأولى من المادة 301 م.ع.، ولو بمفهوم مطلق وليس موضوعي، للترخيص للمدين بتحويل دينه بالعملة الأجنبية الى عملة وطنية، غير أنّه، في الظروف المالية والإقتصادية والمصرفية الراهنة في لبنان، بات يتعيّن على القضاء الإرتكاز على النبذة الثانية من المادة القانونية ذاتها، للحؤول دون الترخيص للمدين بإتمام هذا التحويل قسراً وعنوةً وبصورة منفردة على حساب دائنه، لما في ذلك من مخالفة لشرعة المتعاقدين، وما سينتج عنها من أضرار وخسائر جسيمة ستلحق بهذا الأخير. علماً أنه لا يجوز، في أي حال، ومن حيث المبدأ، للمدين تحويل دينه بالعملة الأجنبية، منفرداً وقسراً وعنوةً، الى العملة الوطنية وإيفاء دينه بها. إستناداً الى أحكام قانون الموجبات والعقود كما تمّ تفنيدها أعلاه.
وإن الترخيص القضائي للمدين بسداد دينه المحكوم به عليه بغير العملة المحكوم بها، ولا سيما بالعملة الوطنية، إنما يشكّل: – خروجاً من القاضي على منطوق الإقرار المطلوب تنفيذه لديه (على سبيل المثال)، – وخروجاً على شرعة المتعاقدين، – وإباحةَ نفعٍ غير مشروع للمدين على حساب الدائن، – وذهولاً عن حسن فهم وتفسير وتطبيق أحكام قانون الموجبات والعقود.
6- كما وان أحكام قانون النقد والتسليف، ولا سيما المواد 7 و8 و192 منه، لم تعطِ المدين حق إيفاء دينه بالعملة الأجنبية بالعملة الوطنية (الليرة اللبنانية) تبعاً لقوّتها الإبرائية على الأراضي اللبنانية ولطابعها السيادي على تلك الأراضي.
ذلك، ان تلك المواد قد أضفت على الليرة اللبنانية بحدّ ذاتها ” القوّة الإبرائية “و” الصفة السياديّة ” في ما يتعلّق بالإلزامات أو الموجبات المنشأة بتلك العملة حصراً.
فالمادة 7: تعطي الأوراق النقدية الوطنية وفق تفقيتها، قوة إبرائية.
كما المادة 8: تعطي النقود الوطنية وفق تفقيتها، قوة إبرائية.
أما المادة 192 فقد نصّت على: إن الإمتناع عن قبول العملة الوطنية بشروط المادتين 7 و8، يعاقب بعقوبة المادة 319 ق.ع..
تلك المادة 319 ق.ع. التي جرّمت الأفعال التي ترمي الى إحداث تدنّي في العملة الوطنية أو زعزعة الثقة في متانة نقد الدولة وسنداتها وجميع الأسناد ذات العلاقة بالثقة المالية العامة.
فزعزعة الثقة في متانة النقد الوطني هو فعل جرمي معاقب عليه في قانون العقوبات، بالمادة 319 ق.ع..
اما الإمتناع عن قبول العملة الوطنية، بحجة أو لعلّة عدم تمتّعها بالقوّة الإبرائية، هو فعل جرمي آخر معاقب عليه بقانون النقد والتسليف بالمادة 192 منه.بحيث أضحى الإمتناع عن قبول العملة الوطنية، لناحية أنه ليست لها قوة إبرائية، هو جرم. في حين أنه ليس بجرم فعل الإمتناع عن التداول بها، بحدّ ذاته ذلك ان المشترع الذي لم يمنع التداول بالعملة الأجنبية، يكون قد أجازه ضمناً، ويكون بالتالي الإمتناع عن التداول بالعملة الوطنية مشروعاً ولا يشكّل جرماً.
فضلاً عن أنه لا يوجد قانون يمنع التعاقد بالعملة الأجنبية، كما في فرنسا إعتباراً من 2016/10/1، لذا، لا يمكن فهم وتفسير وتطبيق المواد 7 و9 و192 ق.ن.ت. على نحو مانعٍ للتعاقد بالعملة الأجنبية ومجيزٍ بالتالي للمدين بدين بتلك العملة بسداده من دائنه بالعملة الوطنية.
كما وان القوة الإبرائية لليرة اللبنانية من زاوية سيادة العملة الوطنية على أراضيها، لا يعني على الإطلاق منع التداول بالعملة الأجنبية.
كما ويستفاد من نص المادتين 7 و8 قانون نقد وتسليف أنهما لم ترسيا قاعدة تقول:” يعود للمدين أن يبرىء ذمته تجاه دائنه من دينه تجاهه بالعملة الأجنبية بتسديده إياه بالعملة الوطنية على سعر الصرف الرسمي المحدّد لها من مصرف لبنان. “
لذا، وإستناداً الى مجمل ما تقدّم، يكون تحويل المدين لدينه بالعملة الأجنبية بصورة منفردة وعنوةً الى العملة الوطنية وإيفاء دائنه بها، على أساس سعر صرفها الرسمي (الأساسي)، غيرَ قانونيٍ وباطلاً لكل الإعتبارات والنصوص الوضعية المتقدّم تفنيدها.
****
   II- القسم الثاني: في ما لو سلّمنا جدلاً بحق المدين منفرداً بتسديد دينه بالعملة الأجنبية الى دائنه بالعملة الوطنية، بترخيص من القضاء، فعلى أي سعر صرف لليرة اللبنانية، يمكن إتمام هذا التحويل، حتى لا يكون مجحفاً بحق الدائن ومفيداً للمدين بمقدار هذا الإجحاف؟
إن الجواب على هذه المسألة يحمل على إبداء التالي:
1- إن سعر الصرف الرسمي (الأساسي) للدولار الأميركي على العملة الوطنية الذي حدّده مصرف لبنان إستناداً الى حكم المادتين 70 و75 من قانون النقد والتسليف، لم يعد ثابتاً وموحّداً.
(المادة 70: مهمة المصرف العامة هي … المحافظة على سلامة النقد اللبناني).
(المادة 75: يستعمل المصرف الوسائل التي يرى أن من شأنها تأمين ثبات القطع).
2- وإن المصرف المذكور قد أصدر مؤخّراً عدّة تعاميم حدّد فيها سعر الصرف الرسمي للدولار الأميركي على العملة الوطنية، بالنسبة لكلّ نوع من التعاملات المصرفية أو المالية على حدة:
2/أ- فسعر صرف الدولار على /1507,5/ لل. بات مخصّصاً لحالات حدّدها مصرف لبنان (في حينه). ولا سيما :
o لدعم استيراد المواد الإستهلاكية الأساسية والأدوية والمحروقات والأدوات الطبيّة وغيرها. بمعنى أن مصرف لبنان يبيع مستوردي تلك السلع الدولار الأميركي على سعر الصرف الرسمي (1507,5)، وذلك كي يقوموا باستيرادها. الأمر الذي يؤمّن توافرها في الأسواق اللبنانية الداخلية للمستهلكين بسعرٍ متدنٍ.
o ولتسديد وتصفية ودائع المودعين في المصارف فوق سقوف محدّدة، عندما يرتضي المودع استيفاء وديعته بالعملة الأجنبية، كلّياً أو جزئياً، على سعر الصرف الرسمي لها. وذلك ضمن خطة ترمي الى تصفيرها بأقل كلفة مالية بالعملة اللبنانية على المصارف ومصرف لبنان.
o أو عندما يرتضي الدائن تبرئة ذمة مدينه من دينه تجاهه على سعر الصرف المذكور.
2/ب- كما يوجد عدّة أسعار صرف رسمية أخرى، كلٌّ منها، له وجهة تخصيص معيّنة (في حينه):
o /3900/ لل./ د.أ. المحدّد بالتعميم 151، والمخصّص لتسديد الودائع بالدولار الأميركي بالعملة الوطنية لغاية سقوف سحوبات شهرية محدّدة.
o /8000/ لل. /د.أ. لدعم استيراد المحروقات.
o /12000/ لل./ د.أ. المحدّد بمنصة “صيرفة” التي تمّ استحداثها لغاية توفير العملة الصعبة للإستيراد من الخارج عموماً.
o /23000/ لل./ د.أ. سعر السوق الحرّة المرتبط بالعرض والطلب.
3- أما الإجتهاد (في حينه أيضاً):
– فمنه من حوّل الدين التجاري المحرّر بالعملة الأجنبية الى عملة وطنية على سعر صرف /1507,5/ لل. للدولار الواحد.
– ومنه من حوّل دين أتعاب المحاماة على سعر الصرف المنشأ بالتعميم 151، أي /3900/ لل. للدولار الواحد.
– ومنه من حوّل قيمة النفقة والغرامة وكفالة إخلاء السبيل على سعر السوق الحرّة أي /23000/ لل. للدولار الواحد.
– ومنه من لم يرتضِ تحويل الدين الى عملة وطنية، عندما يتناول وديعة مصرفية بالعملة الأجنبية.
– ومنه من حوّل الدين الى عملة وطنية، وأحال الى محكمة الأساس كي تحدّد سعر الصرف الواجب اعتماده لإتمام هذا التحويل.
4- أما القضاء الذي قضى بالترخيص للمدين بتصفية دين دائنه بالعملة الصعبة، بالعملة الوطنية على سعر الصرف الأساسي المعتمد من مصرف لبنان (1507,5 لل./ د.أ.) وليس على سعر صرف السوق الحرّة للدولار، إنما يؤدّي الى :
4/أ- تمكين المصارف من تحويل ودائع مودعيهم بالعملة الأجنبية، عنوةً وقسراً وبصورة منفردة، الى العملة الوطنية على سعر الصرف الرسمي الأساسي لها. مع ما يشكّل هذا المنحى من مخالفة لأحكام المادة 123 من قانون النقد والتسليف معطوفة على المادة 307 قانون تجارة برية.
(المادة 123: تخضع الودائع لأحكام المادة 307 من قانون التجارة).
(المادة 307: إن المصرف الذي يتلقّى على سبيل الوديعة مبلغاً من النقود يصبح ملكاً له ويجب عليه ان يردّه بقيمة تعادله دفعة واحدة أو عدة دفعات عند أول طلب من المودع أو بحسب شروط المهل أو الإعلان المسبق المعيّنة في العقد…).
4/ب- تمكين المدين بدين لمصرف بالعملة الأجنبية من إيفائه بالعملة الوطنية.
4ج- الترخيص لجميع المدينين بالعملة الأجنبية (من أفراد وأشخاص طبيعيين ومعنويين ومصارف وغيرهم)، في كلّ القطاعات المالية والإقتصادية والمصرفية والتجارية والتأمينية والإستشفائية والعقارية والتأجيرية وغيرها… أن يبرّئوا ذمتهم تلقائياً وعنوةً وقسراً وبصورة منفردة تجاه دائنيهم (من أفراد وأشخاص طبيعيين ومعنويين ومصارف وغيرهم) بالليرة اللبنانية على سعر الصرف الأساسي المعمول به والمتعارف عليه والمحدّد لها من مصرف لبنان (/1507,5/ لل/د.أ.).
4/د- تمكين الدولة اللبنانية من إيفاء دينها العام بالعملة الصعبة، بالعملة اللبنانية.
4/هـ- وهكذا دواليك، حتى آخر سبحة العلاقات المالية المبرمة أو المعقودة او المقوّمة بالدولار الأميركي أو بالعملة الصعبة.
الأمر الذي سيؤدّي الى تدمير حق الدائنية في لبنان، والى ضرب الإقتصاد الوطني عامةً، والى زعزعة الإستقرار المالي في البلد كذلك الأمن الإجتماعي فيه، بشكلٍ مريع ومدمّر، على الصعيدين الداخلي والدولي. كما والى إيقاع الدائنين الذين وظّفوا أموالهم بالعملة الصعبة في العسر والتعثّر وحتى الإفلاس، والى إحجام المموّلين عن توظيف رؤوس أموالهم في البلد.
5- كما وإن هذا المنحى الإجتهادي مؤدّاه أيضاً، بشكلٍ موارب، الى الإلتفاف على الحق المباح والمشروع بالتعاقد والإلتزام بالعملة الأجنبية، لتلافي المخاطر المحدقة بالعملة الوطنية. إذ يرخّص للمدين، بإرادته المنفردة، تسديد دينه الى دائنه عند استحقاقه بالعملة الوطنية عنوةً وقسراً، وأن يعود ويحمِّله مخاطر تدنّي قيمتها.
مع ما يشكّل هذا الواقع من ترخيص للمدين منفرداً بخرق شرعة تعاقده الأصلي مع دائنه، ومن ترخيص له أيضاً بالإثراء غير المشروع وبشكلٍ مفرط على حساب دائنه، في حال تدنّي قيمة تلك العملة الوطنية.
– سيما وأنّ العملة الوطنية تشهد تدنّياً (dépréciation) حاداً وسريعاً ومفتوحاً.
– وإن المصارف تحجم عن تحويل العملة الوطنية الى عملة أجنبية.
6- فضلاً عما تقدّم، إن هذا الإجتهاد الذي تسير عليه المحاكم اليوم، من شأنه أيضاً أن يدمّر وديعة المودع بالعملة الأجنبية (كما سبق وأسلفنا). إذ يفتح الباب على مصراعيه للمصارف لأن تصفّي ودائع عملائها على سعر الصرف الأساسي، في ظلّ عملة وطنية متقهقرة إزاء العملة الأجنبية.
7- هذا، ولا يمكن القضاء الحالي أن يتذرّع بالإجتهاد السابق الذي قضى بهذا الترخيص، لأنه ارتكز في حينه على الحالة التي كان فيها سعر الصرف للعملة الأجنبية ثابتاً وموحّداً. أما اليوم فلا يمكن الركون اليه، بعدما أصبح سعر صرف العملة الأجنبية متحرّكاً وغير موحّد وغير ثابت وأضحت العملة الوطنية خاضعة لحالة تدنّي مضطردة ومتواصلة.
8- ولا يرد على ما تقدّم، بأن القضاء يتعامل مع حق الدائنية، وفق الوضعية القانونية الخاصة بكلّ حالة على حدة. بمعنى أنه يعطي لكلّ وضعية دائنية بالعملة الأجنبية حلاًّ يتناسب معها.ذلك أن هذا المنحى الإجتهادي هو مخالف للإنتظام العام. لأن قانون الموجبات والعقود، كما القوانين العامة، وضعت نظاماً قانونياً موحّداً لحق الدائنية (لجهة استحقاقه وإيفائه وتقادمه وغير ذلك)، دونما أية تفرقة، إستناداً الى مصدره أو سببه.
على اعتبار أن البحث في مصدره أو في سببه أو في علّة نشأته يرتبط بمدى صحة توجّبه من عدمه، ولا يتعلّق إطلاقاً بالعملة التي يتمّ فيها إيفاؤه. أي في ما إذا كان معقوداً بالعملة الأجنبية وكيف يتمّ إيفاؤه بالعملة الوطنية ووفق أي سعر صرف لها.
كما وان اعتماد الإجتهاد نظام إيفاء خاص بكلّ دين بالعملة الأجنبية، إستناداً الى مصدره أو سببه، يكون قد ابتدع تمييزاً لم يجزه له المشترع وخالف النظام الموحّد الذي وضعه ذلك المشترع لإيفاء حق الدائنية، واقحم أصحاب الحقوق في استنسابية الأداء القضائي. الأمر الذي يشكّل مخالفة لقواعد الإنتظام العام وخطأً جسيماً في عمل هؤلاء القضاة.
9- كما وأن يعتمد القضاء سعر الصرف الأساسي (1507,5 لل/ د.أ) دون سواه الذي هو سعر الصرف الثابت والموحّد في الظروف العادية. وأن يُهمل أسعار الصرف الرسمية المتعدّدة التي نشأت عن الظروف الإقتصادية والمالية والمصرفية الراهنة، وأن يشكّل اعتماده له ضرراً بليغاً وغبناً فاحشاً للدائن لمصلحة المدين دوماً، بهذا القدر من الإثراء غير المشروع لهذا الأخير. إنما يظهّر القضاء على أنه متحيّز عمداً لمصلحة المدين، ويستبيح هدر حق الدائن قصداً، مخالفاً بذلك القواعد القانونية الوضعية، كذلك شرعة المتعاقدين، كما قاعدة الإنصاف.
في حين، أنه كان يتعيّن عليه أن يُحسن تطبيق القانون ويَعدُل، فيعتمد سعر صرف متداول ومعمول به، فيُنصف به الدائن ويُلزم المدين بإيفاء ما التزم به من دين، على نحو لا يضرّ بشكلٍ فاحشٍ بدائنه، ويشكّل إثراءً ونفعاً فاحشاً له.
10- من هنا، يكون القضاء مدعواً الى إتمام تصحيح جذري في فهمه وتطبيقه للمواد القانونية التي ارتكز عليها للسير بمنحاه الإجتهادي الحالي، سيما وان حسن فهمه وتفسيره وتطبيقه لها يوصل الى نتيجة سليمة ومنصفة مفادها:
– أن تسدّد الإلزامات نقداً بذات العملة المعقودة بها.
– وإلاّ تلييناً، بالعملة الوطنية نقداً على سعر الصرف الحرّ للعملة الأجنبية، تفادياً لكلّ الآثار السلبية الناجمة عن اعتماد سعر الصرف الأساسي لها وتجاهل سعر صرفها الحقيقي.
– كما يمكن المدين ان يسدّد دينه لدائنه بالعملة الأجنبية بموجب شك مصرفي، ما يثبت توفّر مؤونة له. الأمر الذي يبرىء ذمته تجاهه. حتى ولو كان ذلك الشك غير قابل للتحصيل نقداً من المصرف المسحوب عليه.
لأن تعذُّر قبضه نقداً بتلك العملة يعود الى وضعية السيولة التي يعاني منها المصرف المسحوب عليه. ولا علاقة للمدين بها لأن الشك الذي سحبه على مصرفه لمصلحة دائنه المسحوب لأمره، تتوفّر له كامل المؤونة في حسابه لدى ذلك المصرف. على النحو الذي أوجبته المادة 411 ق.ت..
(المادة 411 ق.ت.: لا يمكن سحب الشك إلاّ على صيرفي يكون لديه وقت إنشاء السند أموال موضوعة تحت تصرّف الساحب بناءً على إتفاق صريح أو ضمني يحق بموجبه للساحب أن يتصرّف بهذه الأموال بطريقة إصدار الشك).
كما وانه، بالنظر الى الشحّ في سيولة المصارف بالعملة الأجنبية، على مستوى القطاع المصرفي في لبنان في هذه المرحلة، يمكن المصرف المسحوب عليه الإستناد الى حكم المادة 432 قانون تجارة لتسديد قيمة الشك المحرّر بالعملة الأجنبية من حامله بالليرات اللبنانية على سعر صرفها الدارج أو الرائج (le cours)  في السوق الحرّة في يوم العرض لذلك الشك أو في يوم إيفائه.
(المادة 432 ق.ت.: إذا إشترط إيفاء الشك بعملة غير دارجة في لبنان فيجوز دفع المبلغ في مهلة عرض الشك بليرات لبنانية معادلة لقيمته في يوم الإيفاء. وإذا لم يتم الإيفاء عند العرض فلحامل السند الخيار بأن يطلب دفع قيمة الشك بالعملة اللبنانية بحسب السعر الدارج (Le cours) في يوم العرض أو في يوم الإيفاء).
ولو إن واقع التعاملات الجارية يقوم على إمكانية استيفاء كامل قيمة الشك المصرفي بالدولار الأميركي لدى المصرف المسحوب عليه بالليرة اللبنانية على مبلغ محتسب على سعر صرفها الرسمي المحدّد من مصرف لبنان. كما وعلى إمكانية إستيفاء نسب متفاوتة ومتقلّبة من قيمته الإسمية في السوق الحرّة، نقداً. أو على استيفاء كامل قيمته الإسمية عن طريق إستخدامه في إطفاء القروض المصرفية. الأمر الذي يشكّل سبلاً مختلفة لإيفائه جزئياً أو حتى كلّياً، مما يؤكّد على احتفاظه بكونه وسيلة إيفاء وإبراء لذمة ساحبه، خلافاً لما قضى به غالب الإجتهاد مؤخراً.
11- علماً إن القاعدة الأساس تقوم على أن الإلزامات المالية المقرّ بها بالعملة الأجنبية هي غير قابلة للتصفية بأية عملة أخرى غير العملة المتعاقد حولها أصلاً. كما وهي غير قابلة لتحويلها قسراً وعنوةً وبإرادة المدين المنفردة تجاه دائنه الى عملة وطنية. حتى إن ترخيص القضاء بإتمام هذا التحويل إنما يصطدم بنصوص وضعية لا تبيحه قانوناً.
“محكمة” – السبت في 2023/10/28
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية ودور النشر والمكتبات منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتصوير أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” وتبادله عبر مواقع التواصل الإجتماعي وتحديدًا منها “الفايسبوك” و”الواتساب”، ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!