أبحاث ودراسات

مدى شمول “مهلة الحضور” بقانون تعليق المهل/علاء بشير

القاضي علاء بشير:
بتاريخ ٢٠٢٤/١٢/٤، وتحت عنوان ” تعليق المهل القانونية والقضائية والعقدية”، صدر القانون رقم ٣٢٨ الذي نصّ في مادته الأولى على تعليق المهل المذكورة بين تاريخَي ٢٠٢٣/١٠/٨ و ٢٠٢٥/٣/٣١.
وما إن صدر القانون المذكور، حتى ثار خلاف بين المعنيين بتطبيقه، لا سيما من القضاة والمحامين، حول مدى شمول هذه المهلة أو تلك به. وذلك على الرغم من تحديد المادة الأولى منه الشروط الواجب توافرها في المهلة لتكون مشمولة بالتعليق، كما وتحديد المادة الثانية صراحةً المهل المستثناة من أحكامه.
ولعلّ أكثر مهلة أثارت جدالاً، ولا تزال، حول ما إذا كانت مشمولة بالتعليق أم لا، هي تلك التي اصطُلح على تسميتها عرفاً بـ ” مهلة الحضور” المنصوص عليها في المادة ٤٨٣ أ.م.م. والتي توجِب أن ” يُبلّغ موعد الجلسة إلى الخصوم، قبل حلوله بثلاثة أيّام على الأقل”.
وحتى تاريخ كتابة هذه السطور، لا تزال هذه الإشكالية موضع خلاف ولم تُحسم بعد. ولا يزال هناك اختلاف بين محكمة وأخرى حول ميدان تطبيق قانون التعليق والمهل المشمولة به؛ ففي حين تعتبر الغالبية العظمى من المحاكم أن المهلة المنصوص عليها في المادة ٤٨٣ أ.م.م. مشمولة بقانون التعليق المذكور، وبالتالي فهي تمتنع عن محاكمة الفريق الغائب، غالباً هو المدّعى عليه، حتى ولو كان مبلّغاً أصولاً وقبل ثلاثة أيام موعد جلسة المحاكمة، ترى قلّة قليلة منها أن المهلة المذكورة غير مشمولة بالتعليق، فتعمد إلى محاكمة الخصم الغائب وفقاً للأصول متى تبيّن لها أنّه قد أُبلِغ موعد الجلسة.
وعليهِ، سنحاول في ما سيأتي الإجابة عن هذه الإشكالية بالإستناد إلى مواد قانون تعليق المهل وأسبابه الموجبة، وطبيعة “مهلة الحضور” موضوع البحث، وذلك على هدي الأحكام العامة للمهل المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات المدنية.
تنص المادّة الأولى من قانون تعليق المهل رقم ١٦٠ المُشار إليه أعلاه، في فقرتها الأولى، على ما حرفيته:
” يُعلّق حكماً بين تاريخ ٨ تشرين الأوّل ٢٠٢٣ و ٣١ آذار ٢٠٢٥ ضمنًا سريان جميع المهل القانونية والقضائية والعقدية الممنوحة لأشخاص ألحقيْن العام والخاص بهدف ممارسة الحقوق على أنواعها سواء أكانت هذه المهل شكلية أو إجرائية أو إمتد أثرها إلى أساس الحق”.
يُسنتنج من صراحة الفقرة المذكورة، أنّه يُشترط لكي تكون المهلة مشمولة بالتعليق، أن تتوافر فيها الشروط التالية:
١- أن تكون المهلة قانونية أو قضائية أو إتفاقية. ولكن طالما أن المهلة موضوع البحث هي مهلة قانونية، باعتبار أنّه يوجد نص قانوني يحددها، هو نص المادّة ٤٨٣ أ.م.م. فسنكتفي بمعالجة المسألة من هذا المنظار.
٢- أن تكون هذه المهلة ممنوحة لممارسة حق معيّن.
٣- أن يكون سقوط الحق هو الجزاء المترتب على عدم ممارسته ضمن المهلة القانونية المذكورة.
أمّا بالنسبة للشرط الأول ، فإن المقصود بالمهلة القانونية، هي تلك التي يوجد نص قانوني خاص يحددها، فلا يجوز للقاضي تعديلها، من حيثُ المبدأ، زيادةً أو نقصاناً، إلا اذا خوّله المشرّع ذلك صراحةً، كما فعل في المادّة ٤٥٥ أ.م.م. التي أعطت القاضي حق تقصير مهل تبادل اللوائح في القضايا التي تستلزم العجلة، أو حق إطالتها إذا وجد ذلك مبرراً بناءً على طلب أحد الخصوم.
ومن الأمثلة على المهلة القانونية: مهلة تقديم الطعن بالأحكام (مهلة الإستئناف، مهلة التمييز،..)، المهلة المخصصة لتقديم بعض أنواع الدعاوى ( مهلة إقامة دعوى الشفعة، مهلة إقامة دعوى إثبات صحة العرض الفعلي والإيداع أو إبطاله،..)، المهل الممنوحة للفرقاء لتبادل اللوائح على أثر تقديم الإستحضار، والمنصوص عليها في المواد ٤٤٩ و٤٥٢ و٤٥٣ أ.م.م.، الخ..
وطالما أن قانون أصول المحاكمات المدنية قد نصّ صراحةً في المادّة ٤٨٣ أ.م.م. على مهلة الثلاثة أيام التي يجب أن يُبلّغ قبلها الخصوم موعد الجلسة، فتكون المهلة المذكورة مهلة قانونية بمفهوم قانون تعليق المهل موضوع البحث.
وأمّا بالنسبة للشرط الثاني، أي أن تكون هذه المهلة ممنوحة لممارسة حق معيّن، فلا بد قبل ولوج تفاصيله من الإشارة إلى أن الفقه يعتمد، في إطار ممارسة الحقوق ضمن مهل معيّنة، تصنيفاً للمهل القانونية بحيثُ يُفرّق بين فئتيْن منها:
• مهل الحث الّتي تهدف إلى حث المتقاضين على القيام بالإجراء أم بممارسة الحق ضمن المهلة كما هي منصوص عليها قانوناً، دون أن يؤدي تجاوز هذه المهلة إلى سقوط حقّهم بالقيام بالإجراء أو بممارسة الحق، إذ يبقى بإمكان المحكمة إذا شاءت منحهم مهلة إضافية لذلك. ومن الأمثلة على هذه المهل: المهل المخصصة للخصوم لممارسة حقهم بالدفاع وتقديم لوائحهم أو للقيام بأي إجراء آخر خلال سير المحاكمة.
• مهل الإسقاط الّتي يترتّب على انقضائها سقوط حق المتقاضين للقيام بالإجراء او لممارسة الحق دون أن يكون للمحكمة، وبخلاف مهلة الحث، أي سلطة لتمديد المهلة أو منح المتقاضين مهلةً إضافية. ومن الأمثلة على هذه المهل: مهل تقديم الطعن بالحكم الإبتدائي إستئنافاً بحيث يسقط حق المتقاضين بالطعن المذكور بعد انقضاء المهلة المنصوص عليها في المادّة ٦٤٣ أ.م.م. وهذا ما نصّت عليه صراحةً المادة ٦١٨ أ.م.م.:” يترتّب على عدم مراعاة مهل الطعن في الأحكام سقوط الحق في الطعن”، وكذلك مهلة تقديم دعوى الشفعة المنصوص عليها في المادتيْن ٢٤٧ و ٢٤٨ من قانون الملكية العقارية، أو مهلة تقديم دعوى إثبات صحة عرض فعلي وإيداع أو إبطاله المنصوص عليها في المادة ٨٢٤ أ.م.م. بحيثُ يسقط الحق بإقامة الدعوييْن المذكورتيْن بعد انقضاء المهل المحدّدة في المواد المُشار إليها.
وبالعودة إلى نص المادّة ٤٨٣ أ.م.م. يتضح أن مهلة الثلاثة أيام الواردة فيها هي مهلة قانونية ترمي إلى تنبيه المتقاضي إلى موعد جلسة يجب حضوره فيها تحت طائلة محاكمته أصولاً، ولذلك يقتضي أن يتبلّغ الموعد المذكور قبل حلوله بثلاثة أيام لكي يتمكن خلال هذه المهلة من أن يكون جاهزاً للحضور، إذ لا يمكن مباغتته عبر الطلب اليه أن يحضر جلسة محاكمته قبل يوم واحد مثلاً من موعدها، بحيث قد يتعذر عليه الحضور في مثل هذه الحالة.
وعليهِ، فإن المهلة المذكورة لا تعدو كونها مهلة ممهِّدة لآخر إجراء من إجراءات المحاكمة قبل اختتامها، وذلك بهدف تمكين طرفيها من ممارسة حقهم بحضور الجلسة وتكرار أقوالهم وطلباتهم، التي سبق وأثاروها في لوائحهم، وصولاً لاختتام المحاكمة. ما يعني أنها تخرج عن فئتي المهل المُشار اليهما أعلاه، وهذه أمرٌ طبيعي طالما أنها تخرج أصلاً عن مفهوم المهل القانونية الممنوحة لممارسة حق معيّن. وإنّ القول بخلاف ذلك يدفعنا إلى طرح التساؤل التالي: ما هو الحق الذي يُمارسه المتقاضي خلال مهلة الثلاثة أيّام؟!
ولا يُردّ على ما تقدّم، بأن هذه المهلة مخصصة لممارسة الحق بالمرافعة التي هي جزء من حق الدفاع، وذلك لأن وجوب تبليغ الخصم موعد جلسة المرافعة قبل ثلاثة أيام لا يعني على الاطلاق أنّه يُمارس الحق بالمرافعة ضمن المهلة المذكورة، في حين أن هذا ما يشترطه صراحةً قانون تعليق المهل لكي تكون المهلة مشمولة بالتعليق. وليس أدل على ذلك سوى الأسباب الموجبة للقانون المذكور عن الاحداث الاستثنائَّية التي اتصفت في ظروفها وحيثياتها بالخطيرة، مما حال بفعل القوة القاهرة المتأتية عنها دون ممارسة الدولة والمواطنين لحقوقهم في خلال المهل القانونية والقضائية والعقدية”.
أمّا في الحالة التي تكون فيها الجلسة مخصصة لأحد الخصوم للحضور وتقديم لائحة جوابية في الدعوى وبالتالي لممارسة حقّه بالدفاع، كما هو معمولٌ به أحياناً في الواقع العملي، فإن المشكلة تصبح غير مطروحة باعتبار أنّ تخصيص الجلسة لتقديم لائحة جوابية، وبمعزل عن مدى قانونيته، يخرج عن إطار تطبيق المادة ٤٨٣ أ.م.م. التي تفترض حكماً أن التبادل قد اكتمل وأن الجلسة المحكي عنها فيها هي جلسة واحدة، أولى وأخيرة، ومخصصة حصراً للمرافعة ولاختتام المحاكمة.
وسنداً لِما تقدّم، فإنّ المهلة المنصوص عليها في المادة ٤٨٣ أ.م.م. هي مهلة قانونية، وإن كانت إجرائية، إلاّ أنّها تخرج عن مفهوم المهل المشمولة بقانون تعليق المهل طالما أنّها، وفي مطلق الأحوال، غير مخصصة لممارسة حق معيّن يجب أن يُمارس خلالها تحت طائلة سقوطه، كما سيصار بحثه أدناه.
وفي ما خصّ الشرط الثالث، أي أن يكون سقوط الحق هو الجزاء المترتب على عدم ممارسته ضمن المهلة القانونية، فإنّه، وإن لم ينص عليه قانون تعليق المهل صراحةً، إلاّ أنّهُ يُستفاد ضمناً من الشرطيين الأوليْن، باعتبار أنّه اذا كان من الممكن ممارسة الحق بالرغم من انقضاء المهلة المخصصة لذلك، وهذا ما يتطلب في جميع الحالات إجازةً من المحكمة لممارسته أو الموافقة على تمديد المهلة، فنكون قد أصبحنا أمام “مهلة قضائية يُترك للقاضي أمر تقديرها”، وهي المهلة المُستثناة صراحةً من أحكام قانون تعليق المهل بصراحة البند ١ من المادة الثانية منه، ولا فرق في الإطار بين ما اذا كان يوجد نص قانوني يحدد هذ المهلة ويكون للقاضي حق تمديدها أو تقصيرها ، أم أنه متروك منذ الأصل للقاضي أمر تقديرها، طالما أنه في الحالتيْن يعود للقاضي حرية التصرف بها، وهذا ما يخرج في مطلق الأحوال عن نطاق تطبيق قانون تعليق المهل.
ويُستنتج هذا الشرط كذلك ممّا ورد في الفقرة الأولى من الأسباب الموجبة للقانون موضوع البحث، والتي علّقت المهل القانونية بسبب وجود ظروف إتّصفت بالخطيرة وحالت بفعل القوة القاهرة المتأتية عنها دون ممارسة الدولة والمواطنين لحقوقهم في خلال المهل القانونية، إذ إنّه لو كان بالإمكان ممارسة هذه الحقوق بعد انقضاء المهل الممنوحة لها، لما كان هناك من داعٍ لتعليق هذه المهل طالما أن ممارستها تبقى جائزة بعد زوال الظروف الخطيرة التي حالت دون ذلك.
هذا فضلاً عن أنّ المادة ٤٢٢ أ.م.م. نصّت صراحةً على أنّ جميع المهل المعينة لاستعمال حقٍ ما، يؤدي تجاوزها لسقوط هذا الحق.
خلاصة القول، إن المهلة القانونية المشمولة بقانون تعليق المهل رقم ٣٢٨ تاريخ ٢٠٢٤/١٢/٤ هي تلك المخصصة لممارسة حق خلالها تحت طائلة سقوط هذا الحق، أي أنها تندرج حصراً ضمن المهل المعروفة بـ “مهل الإسقاط”. وليس أدل على ذلك سوى ما ورد في البند ٣ من المادة الثانية من القانون المذكور والذي استثنى قصداً وصراحةً مهل الإسقاط في المواد الجزائية من أحكام تعليق المهل، وذلك في إشارة صريحة إلى أن مهل الإسقاط في المواد المدنية هي وحدها الخاضعة للأحكام المذكورة.
وبالنتيجة، تكون المهلة الواردة في المادة ٤٨٣ أ.م.م. غير مطابقة لأي من مواصفات وشروط المهلة المشمولة بالتعليق، والتي “قُتِلت” بحثاً أعلاه، ما خلا كونها مهلة قانونية، فلا تخضع بالتالي لأحكام القانون رقم ٣٢٨ تاريخ ٢٠٢٤/١٢/٤
وبعيداً عن البحث القانوني النظري البحت، فإنّ القول بأن المهلة الواردة في المادة ٤٨٣ أ.م.م. مشمولة بقانون تعليق المهل من شأنه أن يُثير الكثير من المشاكل في الواقع العَمَلي، ليس أقلّها جعل مصير ومسار الدعوى رهناً بإرادة المدّعى عليه الّذي يكون باستطاعته التغيُّب عن جلسة المحاكمة، فيمنع المحكمة، بسلوكه هذا، من إختتام المحاكمة وبالتالي من البت بالنزاع واصدار الحكم، إذ تكون مضطرة لتكرار دعوته مجدداً إلى جلسة أخرى ستؤجل حكماً أيضاً إذا صودف وقوعها في فترة سريان قانون تعليق المهل، اللهم إلّا إذا أذِن المدّعى عليه للمحاكمة أن تُتابع وحضر الجلسة المذكورة. وإلاّ، فإنّ التأجيل سيبقى سيد الموقف إلى حين أن يُصادف موعد الجلسة بتاريخ لاحق لانتهاء مفعول قانون تعليق المهل!! ما يعني عملياً تعطيل مرفق العدالة طيلة سريان مفعول القانون المذكور. وطبعاً لم تكن هذه هي نيّة المشترع، ولا غايته، عند إصداره له.
وإذا كان تعمّد المماطلة وإطالة أمد المحاكمة يُشكّل أبهى صور التعسف باستعمال حق التقاضي والذي تترتب عليه غرامة تصل إلى حد مليونَي ليرة لبنانية قبل التعديل الأخير (المادّتان ١٠ و ١١ أ.م.م.)، فضلاً عن تعويض، يُفرضان على الفريق المتعسّف لصالح الفريق الآخر، فإذا بالتعسف يُباح للمدّعى عليه هذه المرّة، وللأسف، بمقتضى نص قانوني، في ما لو تمّ تفسيره خلافاً للنحو المُتقدّم.
“محكمة” – الثلاثاء في 2024/12/17

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!