مدى قانونية الضرائب المقترحة على تسديد القروض/باسكال ضاهر
المحامي الدكتور باسكال فؤاد ضاهر:
ينحصر إطار المعادلة القانونية المتصلة بهذا الاقتراح بالنقاط التالي بيانها:
النقطة القانونية الاولى: تتمحور حول ان هذا الطرح يشكل تدخلاً من قبل السلطة العامة لفرض ضريبة على علاقة قانونية قائمة بين شخصية معنوية تنتمي إلى القانون الخاص أعني المصرف، بأخرى خاصة أي المقترض، وسواء أكان هذا الأخير شخصاً طبيعياً او شركة خاصة.
ومن المعروف قانوناً ان المفاعيل الناتجة عن إطار علاقة تعاقدية معينة تبقى محصورة بين فريقي العقد ولا تتعدى ذلك إلاّ ضمن نطاق ضيق، لا سيما هنا وان المقترح من هذه الضريبة يرمي إلى تغذية صندوق لتمويل ما يسمى إعادة اموال المودعين، مما يعني ان هذه الضريبة تسعى بشكل او بآخر إلى نقل الذمم المالية المحددة ضمن نطاق العقد الخاص القائم بين المصرف والمودع وجعلها بالمحصلة بين المودع والصندوق، الأمر الذي لا يستقيم قانوناً لأن إطار تلك العلاقة منتظمة ومحددة بموجب عقد خاص، ومن المفيد التذكير هنا بأن القانون يُعلي من شأن القاعدة الكلية المنصوص عليها في المادة 221 من قانون الموجبات والعقود التي أقرت المبدأ القانوني العام ألا وهو “العقد هو شريعة المتعاقدين” ما يعرف باللاتينية PACTA SUNT SERVANDA، ومعنى ذلك ان العقد الخاص الموقع يعتبر القانون الأسمى الواجب التقيّد بمنطوقه طالما انه غير مخالف لأحكام النظام العام ويفرض بالمقابل على فريقيه إلتزام عدم الحيد عن مندرجاته إلا بموافقتهما الناتجة سواء عن القبول او الرضوخ، لأن القوة والمكانة التي منحه إيّاها القانون جعتله يعلو على نصّ آخر سنداً للمبدأ القانوني ” النصّ الخاص يقدّم في التطبيق على النصّ العام”.
وعلى ذلك أكدت محكمة التمييز اللبنانية في قراراتها، كل ذلك يفيد بأنه بات من غير الجائز تعديل إلإطار القانوني و/أو المفاعيل الناتجة عن العقد الخاص الا بالموافقة الصريحة لطرفيه، الأمر غير الحاصل مما يُفقد الإستقامة عن هذا الطرح الضريبي من الناحية القانونية.
النقطة القانونية الثانية: تتمحور بأن المصارف قد قَبِلت بالإيفاء الحاصل ولم تعترض على ذلك كما وانها لم تسلك سبل الطعن المحددة والمعروفة في القانون؛ مما يفيد قبولها بالتسديد، الأمر الذي يرتب المسؤولية عليها ولذا تبقى المخاطر هنا على عاتق المصارف ومساهميها دون سواهم طالما ان العلاقة ناتجة عن إرتباط خاص محدد بموجب عقد كما أسلفنا أعلاه؛ إلاّ في حال الإحتكام لقاعدة “الكسب غير المشروع” المنصوص عليها في قانون الموجبات والعقود وتحديدا في المادة “١٤٠” وما يليها والتي نصت على الآتي: “من يجتني بلا سبب مشروع كسباً يضر بالغير يلزمه الرد.” إذ من الممكن إعتبار ان المقترض الذي سدد بأقل من القيمة قد اكتسب بصورة غير مشروعة على حساب الفريق الآخر المتعاقد معه، إلاّ انه هنا يقتضي تحديد ما هو سعر الصرف الحقيقي[1]، وبالتالي فإن القاعدة القانونية واضحة وجلية كما وان أحكامها متحققة في حالة القروض موضوع البحث، ومن الممكن تفعيلها قانوناً بدلاً من إقتراح ضرائب ورسوم غير قانونية.
النقطة القانونية الثالثة والأشمل : تفرض بداهةً على من اقترح هذه الضريبة ان:
١- يعوّض بالمقابل وبعملة الحساب على جميع المودعين الذين ما زالوا يسحبون دولاراتهم على أسعار صرف وهمية ترمي إلى تعزيز الترابح غير المحقّ،
٢- يردّ جميع الأرباح التي حُقّقت من قبل المصارف من جراء الفوائد الباهظة والسخية والمستمرة لغاية الآن لا سيما منها تلك المحددة بالتعميم حامل الرقم 648 (والمعدّل بالقرار الوسيط رقم 13495) الذي يسمح باستمرار تدفّق الفوائد للمصارف بمقابل وقفها للمودعين مما يشكل ضرباً لقاعدة المساواة المحصّنة بالدستور اللبناني؛ كما ويرد أيضاً اموال المرابحة التي حصلتها المصارف وذلك سواء من الهندسات المالية، أو من تلك التي كونتها اثناء الازمة ووزعتها أرباحاً على المساهمين، أو من جراء تعدّد أسعار الصرف المقصودة.
٣- يعيد تفعيل ردهة بورصة بيروت( كما أوضحنا في الهامش الرقم 1)، السوق الحقيقي الوحيد للتداول الحر للعملات الأمر الذي من شأنه ان يُعيد الانتظام المالي المفقود في الجمهورية اللبنانية.
٤- يفرض على المصارف وقف تدريك الحسابات المصرفية عمولات ومصاريف ادارة ترمي الى تصفير الودائع وتقليل قيمتها بأسلوب غير قانوني لا سيما وانها ممتنعة ذاتياً عن تلبية اوامر العملاء، كما وان يلزمها برد ما اقتنصته من جراء ذلك وبدون اي وجه حق.
نختم بالتذكير بأن رأس المال “لا يرتاح الا لدولة القانون” وهذه قاعدة أساسية تحكم تدفق المال سواء على الصعيد العالمي او الداخلي لأن “المال – الودائع او الإستثمار” يرتكن بطبيعته إلى الدولة التي تحمي الحقوق وتقدسها وتعيدها لأصحابها، وبالتالي فانه لا بد وامام الترهل القانوني الحاصل يقتضي بنا القول بأن بالتاريخ القانوني لمدينة بيروت التي احتضنت منذ العام ٢٩٣م كلية الحقوق اثناء حكم أغسطس في القرن الأول مما جعلها تستقطبت طلاب علم القانون الذين كان لهم في ما بعد مساهمات كبيرة في مخطوطة “جستنيان”، الأمر الذي انعكس بدروه على توصيف بيروت بأنها “أم القانون” مما جعل صيتها بين الأمم، ولذا استمرت بمواصلة تدريس الفقه القانوني حين أغلق الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول كليات الحقوق في المحافظات الأخرى ؛
وأمام هذه العراقة المتأصلة بالتاريخ القانوني، يقتضي ان ترتفع مستوى الطروحات القانونية لأن العكس من ذلك سينعكس سلباً على وجود دولة القانون؛ مما يدفعنا الى القول بانه لا حل الاّ باتباع السبل القانونية المحددة في كتلة المشروعية، وفي الوقت عينه التوقف عن اقتراح قوانين ترمي إلى تمويه الإرتكابات الحاصلة.
الحل سهل انما يحتاج الى رجالات قانون وإرادة.
[1] – للإحاطة بإشكالية سعر الصرف وتعدده، توصلاً لحل الأزمة القائمة ووضع حدّ للتفلت القانوني الحاصل وغير المسبوق، نفيد أنّه وإبان إتفاقية بريتن وودوز “التي كانت تربط قيمة العملات بالذهب”، إعتبر قانون النقد والتسليف في المادة الثانية منه بأن قيمة الليرة يحددها القانون من خلال ربطها بالذهب الخالص. كما اعتمدت المادة /229/ القانون عينه بأنّ الإجراءات الإنتقالية يتّخذها وزير المال لحين تحديد السعر القانوني من قبل المشرّع حيث نصّت على “سعر انتقالي قانوني لليرة اللبنانية” يعتمد بالنسبة لـ”أقرب ما يكون من سعر السوق الحرة”، وقد أصدر وزير المالية في حينه القرار رقم 1/4800 سنة /1964/ الذي حدّد سعراً انتقالياً لليرة اللبنانية نسبة للدولار الأميركي، إلّا أنه ومع إلغاء مبدأ السعر الثابت للدولار الأميركي بالنسبة للذهب سنة /1973/ ووضع حد لاتفاقيات بريتون وودز، صدر المرسوم رقم 1973/6105 الذي نصّت مادته الأولى على أنّه “ريثما يصبح بالإمكان تطبيق أحكام المادة الثانية من قانون النقد والتسليف، تعطى الحكومة لمدة ستة أشهر من تاريخ نشر هذا القانون، صلاحية تحديد سعر انتقالي قانوني جديد لليرة اللبنانية بعد استشارة مصرف لبنان وصندوق النقد الدولي.
وفي سنة /1973/ بعدما قررت الحكومة الأميركية تخفيض قيمة الدولار الأميركي نسبة إلى الذهب اتخذ مجلس الوزراء في /21/ آذار /1973/ قراراً قضى بتكليف وزير المالية تحديد سعر انتقالي جديد. وبالفعل أصدر وزير المالية القرار الرقم /883/ في /28/ آذار /1973/ بحيث نص على “أن الضرائب والرسوم التي تستوفيها الدولة وسائر مصالح القطاع العام عن المبالغ المحررة بالعملات الأجنبية تُحسب على أساس متوسط أسعار القطع الفعلية في سوق بيروت التي تكون قد تحققت خلال الفترة المتراوحة ما بين الخامس والعشرين من كل شهر والخامس والعشرين من الشهر الذي يليه”. تم تصديق هذه الإجراءات بموجب القانون الموضوع موضع التنفيذ بموجب المرسوم الرقم /6104/ تاريخ 1973/10/5، كما وقد منح البرلمان الحكومة بموجب القانون الموضوع موضع التنفيذ بالمرسوم رقم /6105/ تاريخ /5/ تشرين الثاني /1973/ صلاحية تحديد سعر انتقالي جديد للذهب، إذ نصت المادة الأولى على التالي:”ريثما يصبح بالإمكان تطبيق أحكام المادة الثانية من قانون النقد والتسليف تُعطى الحكومة لمدة ستة أشهر من تاريخ نشر هذا القانون، صلاحية تحديد سعر انتقالي قانوني جديد لليرة اللبنانية بعد استشارة مصرف لبنان وصندوق النقد الدولي.
وسنداً لذلك، إعتمد المشرع اللبناني سوقاً حرة لتداول العملات تستند إلى طبيعة الدستور اللبناني الليبرالي كما والتطور العالمي. وكان آخر قانون نظم هذا السوق المرسوم الإشتراعي الرقم ١٢٠ لعام ١٩٨٣ الذي حصر بشكل بات وتام وناجز مهمة التداول بالنقد في ردهة البورصة المكان الطبيعي لتداول العملات. وقد نصت مادتاه التاسعة والعاشرة منه على الآتي:
المادة 9: يحصر حق القيام بالعمليات داخل البورصة في سوق المعادن غير الحديدية بما فيه المعادن الثمينة والمواد الاولية والعملات:
1- في المصارف العاملة في لبنان.
2- في العملاء المعطى لهم حق التوسط في عمليات بيع وشراء الصكوك المالية في البورصة.
3- في المؤسسات المالية والصيارفة الذين تقبلهم لجنة البورصة.
المادة 10: لا تعتبر حاصلة في البورصة اية عملية بيع او شراء تتعلق بالمعادن غير الحديدية بما فيه المعادن الثمينة والمواد الاولية، والعملات إلا اذا جرت في المكان المخصص لهذه الغاية داخل البورصة ويدعى الردهة من دون اي مكان سواه.
وهنا لا بد من التشديد على ان الاحتياط النقدي الخاص للمصرف المركزي يتكون من جراء تدخله بائعاً او شارياً للعملات في هذه السوق وذلك سنداً للمادة ٧٥ المتصلة بالمادة ٦٩ من قانون النقد والتسليف، وهذا الاحتياط النقدي الذي نفتقر له تكون ملكيته للمصرف المركزي، وهو بعكس ما يسمى الاحتياط الالزامي والتوظيفات الالزامية العائدة ملكيتها للمودعين.
خلاصة الهامش: وفقاً لأحكام القانون “المرسوم الإشتراعي الرقم 120 لعام 83” ينبغي ان يتم تحديد سعر الصرف الرسمي من خلال عمليات واضحة وشفافة تجري في ردهة البورصة، وهذا ما يتوافق مع طبيعة النظام الليبرالي الحُر المعتمد في الجمهورية اللبنانية، إلاّ ان هذا النص القانوني قد جرى الإعتداء عليه. ومع الإشارة هنا إلى أنه لا يجوز للمصارف المركزية ان تمتلك صلاحية ادارة او الإشراف على عمل الأسواق الحرة للعملات، ولذلك نرى ان المشرع اللبناني قد فصلها وكلف بها ادارة البورصة التي من الممكن جعلها منصة إلكترونية مما سيؤدي إلى الانتظام المالي في البلد وتوحيد سعر الصرف بشكل قانوني ووقف المرابحة الحاصلة.
“محكمة” – الاثنين في 2023/11/27