مسيرة قاض منفرد إسمه محمّد مازح/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
لم يعرف لبنان في تاريخه القضائي طوال قرن كامل وتحديداً منذ العام 1919، قاضياً منفرداً بلغ صيتُه، آذان الكون كلّه، لا بل هناك قضاة كبار ورؤساء مجالس قضاء في عهود سياسية وقضائية مختلفة ومنهم من كان محالاً على المجلس التأديبي قبل أن تمنحه السياسة حماية خاصة وسدّة أعلى منصب في القضاء العدلي، لم يسمع بهم اللبنانيون مثلما سمعوا بالقاضي المنفرد محمّد مازح.
وعندما تقول محالاً على المجلس التأديبي، فهذا يعني أنّه فاسد أو أحيط عملُه بشبهة فساد، بينما مازح لم يكن من هذا الطراز على الإطلاق، حتّى ولو كان قراره في قضيّة الظهور الإعلامي للسفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا مشبعاً ومفعماً بالمخالفات القانونية التي لا يمكن أن تتوافق والمنطق الحقوقي السليم، وثمّة فارق كبير بين تنفيذ القانون بحذافيره ومحاولة مقاربته وتحسّسه، والإرتياب المشروع.
ولأوّل مرّة يحفظ اللبنانيون عن ظهر قلب اسم قاض صغير في المركز، حمله اندفاعه وجرأته إلى الخروج عن المألوف في العمل القضائي والتلويح لدولة عظمى بوجوب الخضوع للقانون، وهو ما لم تفعله معها أيّة محكمة دولية، في موقف سياسي صريح لا يحتمل تأويلات.
خطأ
ونادراً ما تصدّى القضاء اللبناني للكبار في الداخل، فكيف بالخارج؟ وعندما فعل في عزّ أزمة المصارف والمودعين التي نشأت في خريف العام 2019، خيّبت محكمة التمييز المدنية برئاسة القاضي ميشال طرزي آمال الناس، ولذلك فإنّ تتويجها قراراتها بعبارة”باسم الشعب اللبناني” لم تكن ملائمة ولا واقعة في محلّها الإنساني السليم، لأنّ القضاء خضع لسلطة القطاع المصرفي، واقترفت محكمة التمييز أخطاء قانونية فادحة في معالجتها لما عرض عليها وخرجت بنتيجة تؤكّد أنّ حزب المصرف هو الأقوى في لبنان لوجود دعم سياسي كبير له.
ولم يأت أحد على مساءلة محكمة التمييز، حتّى أنّ وزير العدل السابق القاضي ألبرت سرحان لم يتحرّك، وكذا فعلت خليفته وزيرة العدل الدكتورة ماري كلود نجم التي ارتأت تحريك هيئة التفتيش القضائي في وجه مازح، مع أنّها تعرف أنّها ليست وصية على المحاكم والأحكام والقرارات الصادرة عنها، ومع أنّها تدرك مليّاً أنّه لا يوجد ارتياب مشروع في فعل مازح، بينما يجري التغاضي عن قضاة آخرين في مراكز ومواقع مختلفة تحوم شبهات فساد حول تصرّفاتهم، ولا يريد أحد من المسؤولين في القضاء التحرّك لمحاسبتهم.
بين الكرامة والهندسة القانونية
لم يحلم محمّد مازح يوماً بأن يصبح حديث الإعلام والرأي العام اللبناني بالشكل الذي حدث معه في ليلة عامرة بالكرامة الوطنية، وإنْ كان قراره خاطئاً في التعليل وفي الهندسة القانونية، ومخالفاً لمصلحة الدولة العليا على الرغم من اختلاف اللبنانيين في تحديد مفهوم هذه المصلحة التي تتبدّل من عهد إلى عهد، ومن رؤية سياسية إلى أخرى، ومن فريق إلى فريق، ومن حزب إلى آخر في ظلّ “نعمة” الطوائف والتعدّدية.
فعلها إبنُ بلدة باريش الجنوبية مع ممثّلة الدبلوماسية الأميركية في بلد اعتاد على تدخّلات السفراء والقناصل في كلّ شؤونه وشجونه وحتّى أنفاسه ونوعية الأوكسجين المتغلغل في خريطته السياسية.
صحيح أنّ محمّد إبراهيم مازح استخدم الوسائل الإعلامية مطيّة لتحقيق مبتغاه بمحاولة ردع شيا، لكن لا يمكن لأيّ إنسان أن ينكر أنّه سجّل موقفاً تاريخياً يستحيل أن يتكرّر من ومع قاض لبناني آخر، حتّى ولو اختار دولة عظمى أو كبرى أخرى ويختلف معها في السياسة!
شيا والتكرار
لقد جاء قرار مازح بحقّ وسائل الإعلام على طريقة المثل القائل:”الحكي إلك يا جارة.. سمعي يا كنّة”! فقد حالت إتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية دون مازح والإقتصاص من السفيرة شيا، فانبرى للنَيْل من وسائل الإعلام دفعة واحدة ودون تمييز ودون منحها حقّ الدفاع عن نفسها والمنازعة في أمر يصبّ في صلب وظيفتها، وأعطى في المقابل، المستدعية المتضرّرة معنوياً فاتن قصير، أكثر ممّا طلبت، على الرغم من أنّ كلام شيا ليس جديداً على الإطلاق، لا بل تحفل به الساحة السياسية اللبنانية منذ سنوات، ونسمع ترداداته وأصداءه من جمهور من السياسيين المتلوّنين الذين يعشقون التنقّل من ضفّة دولة أجنبية إلى ضفّة دولة أخرى دون أن يكون هناك قانون يحاكمهم على أنّهم يفضّلون مصالح الدول على حساب بلدهم، وأنّهم يسيئون إلى وطنهم الأمّ.
التصدّي لحزب المصرف
المهمّ أن محمّد مازح المعترض دوماً على تردّي الوضع القضائي نجح في أن يكون نجم الشاشات وألسنة الناس منذ ظهر يوم السبت الواقع فيه 27 حزيران 2020.
قراره السابق بمنع رئيس مجلس إدارة بنك”لبنان والمهجر” والأعضاء من السفر والذي شكّل سابقة قد لا تتكرّر، صدر يوم الإثنين الواقع فيه 27 نيسان 2020، ولكن سرعان ما سقط في 30 نيسان 2020، بالضربة القانونية القاضية وذلك بسبب هفوة قانونية ارتكبها مازح بعدم توقيعه هذا القرار كما يفترض أن يفعل مع كلّ قرار يصدره.
وقد حالت جائحة “كورونا” دون وصوله إلى محكمته في مدينة صور، ولم ينتبه إلى تسليمه باليد لرئيس قلم محكمته موقّعاً بعد أن تكون الجهة المستدعية قد دفعت أتعاب نزول هذا الأخير إلى منزل مازح في بيروت لاستلام نسخة رسمية عنه وتبلّغه وفق الأصول، فاضطرّت محكمة الاستئناف المدنية في الجنوب إلى اعتبار قرار مازح منعدم الوجود. وأصدر هذا المصرف بياناً تطاول فيه على مازح ولم يتحرّك مجلس القضاء الأعلى للدفاع عنه على غرار ما فعل مع آخرين وكأنّه رضي بالسكوت عن الكلام المباح فهل لأنّ المتطاول مصرف!
خمس استقالات
على أنّ الصحيح أكثر أنّ محمّد مازح وجدها فرصة مجنونة ومناسبة للخروج من الجسم القضائي وبأكثر ممّا توقّع ورغب، وأضاف استقالة جديدة ونهائية إلى سجّل استقالاته الأربع السابقة منذ دخوله إلى القضاء ضمن دورة المحامين في 23 كانون الأوّل 1996.
غبن أهل العدل
كان مازح يبدي استياءه من تهميشه المقصود، ويمتعض من الغبن اللاحق به عن سابق إصرار وترصّد، فأبناء دورته من كلّ الطوائف والمذاهب والأطياف السياسية غادروا مربّع القاضي المنفرد إلى رؤساء محاكم ونيابات عامة، فيما هو لازمه فترات طويلة وسنوات عديدة قد تكون أكثر من نصف مسيرته القضائية، فأين هي العدالة بين أبناء أهل العدل؟!
على أنّ المركز الثاني الذي مرّ فيه مازح هو مستشار استئنافي، وليس أفضل حالاً من قاضي منفرد، فعلى الأقلّ القاضي المنفرد سيّد محكمته وأحكامه.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ القاضي الذي يصل إلى الدرجة الثانية في التراتبية المعمول بها في القضاء يحقّ له أن يكون قاضياً منفرداً، بينما يستوجب أن يكون في الدرجة الرابعة ليتسنّى له أن يكون مستشاراً إستئنافياً، تماماً مثل رئيس محكمة البداية وقاضي التحقيق والمحامي العام الإستئنافي، بينما مازح بلغ الدرجة السابعة عشرة التي تتيح لمن يُحصّلها أن يكون رئيساً لمحكمة التمييز، ورئيساً لمجلس القضاء ونائباً عاماً تمييزياً ورئيساً لهيئة التفتيش، ولكنّ مازح لم يتزحزح من موقع القاضي المنفرد ولا موقع المستشار في الإستئناف، فرأى أنّ من حقّه أن يغضب وأن يثور وأن “يفشّ خلقه” بوسائل الإعلام وبالسفيرة الأميركية!
ولد مازح في 10 أيلول 1957 وكان يفترض لو أكمل عمله في القضاء أن يحال على التقاعد في العام 2025، لكنّه آثر أن يضع حدّاً لكلّ هذا العتب والتعب، وأن ينصرف إلى ممارسة وظيفة أُخرى أو تأدية رسالة أُخرى وفق قانون خاص به ويستريح إليه أكثر، وهذا حقّ كلّ إنسان يرضى بما قُسّم له من نصيب في هذه الدنيا الفانية، ومحمّد مازح من الراضين والمُسَلِّمين والمؤمنين بنصيبهم.
مواقع
وفي نظرة أرشيفية إلى مسيرة مازح في القضاء نجد أنّه تنقّل في مواقع تدور في فلك القاضي المنفرد والمستشار الإستئنافي، وذلك على الشكل التالي:
• قاض منفرد بالوكالة في صيدا بموجب المرسوم رقم 9672 تاريخ 31 كانون الأوّل 1996.
• قاض منفرد بالوكالة في صيدا، وقاض منفرد بالوكالة والإنتداب في شحيم وفق المرسوم رقم 10168 الصادر في 26 نيسان 1997.
• قاض منفرد بالوكالة في عاليه، وقاض منفرد بالوكالة والانتداب في شحيم بموجب المرسوم رقم 11170 تاريخ 6 تشرين الأوّل 1997.
• قاض منفرد في عاليه بموجب المرسوم رقم 1122 تاريخ 19 آب 1999.
• مستشار بالوكالة في الغرفة الثانية لمحكمة استئناف النبطية المؤلّفة من القاضي فريد كلاس رئيساً والقاضي حسين شاهين مستشاراً بموجب المرسوم رقم 8636 الصادر في 12 أيلول 2002. وبقي مستشاراً في هذه المحكمة ومع هذه الهيئة من دون عبارة”بالوكالة” في المرسوم رقم 11237 تاريخ 24 تشرين الأوّل 2003.
• مستشار في الغرفة العاشرة لمحكمة استئناف جبل لبنان(مركزها جديدة المتن) المؤلّفة من القاضي رلى جدايل رئيساً والقاضي شربل أبو سمرا مستشاراً، وذلك بموجب المرسوم 13653 تاريخ 26 تشرين الثاني 2004.
• قاض منفرد في النبطية ومستشار بالإنتداب في الغرفة الثانية لمحكمة استئناف النبطية المؤلّفة من القاضي محمّد مظلوم رئيساً والقاضي شادي زرزور مستشاراً ثانياً، وذلك بموجب المرسوم رقم 1465 تاريخ 6 آذار 2009.
• قاض منفرد في النبطية بموجب المرسوم رقم 5079 تاريخ 1 تشرين الأوّل 2010.
• مستشار في الغرفة الأولى لمحكمة استئناف النبطية المؤلّفة من القاضي برنار الشويري رئيساً والقاضي كريم حرب مستشاراً، وذلك بموجب المرسوم رقم 11896 تاريخ 23 أيّار 2014.
• مستشار في الغرفة الأولى لمحكمة استئناف النبطية المؤلّفة من القاضي أسعد جدعون رئيساً والقاضي شادي زرزور مستشاراً ثانياً، وذلك بموجب المرسوم رقم 1570 تاريخ 10 تشرين الأوّل 2017.
• قاض منفرد بالإنتداب في صور بموجب القرار رقم 2728 تاريخ 29 تشرين الثاني 2017.
هذا هو محمّد مازح الذي “هزّ” جبروت الولايات المتحدة الأميركية من دون أن يلمس شعرة واحدة من رأس سفيرتها في بيروت دوروثي شيا!
“محكمة” – الجمعة في 2020/7/3
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.