مشروعية الإضراب من منظور مبدأ إستمرارية المرفق العام/كلير فخر الدين
الدكتورة كلير فخر الدين:
إذا كان الأصل هو أن المرفق العام يجب أن يسير بانتظام واطراد دون انقطاع أو توقف لإشباع حاجات الأفراد الأساسية، وهو ما استقر عليه القضاء الإداري في لبنان وفرنسا، فإن هناك أموراً من شأنها أن تعمل على عرقلة سير المرفق العام بانتظام واطراد، ومن هذه الأمور الإضراب والاستقالة.
فلو أردنا أن نوضحهما يمكن القول بأنّ الأوّل يتوقف فيه الموظف عن العمل مؤقتاً مع تمسكه بوظيفته، والقصد من هذا التوقف هو تحقيق غاية معينة غالباً ما تكون اقتصادية كزيادة الأجور ورفع مستوى المعيشة وتحديد ساعات العمل، أما الثاني فإنه يتوقف فيه الموظف عن العمل بصورة نهائية، بحيث يترك عمله الوظيفي نهائياً.
ولذلك سيكون موضوع حق الإضراب محل دراستنا باعتباره حقاً مـن الحقوق التي نظمتها الدساتير والقوانين لجميع الموظفين العموميين، ووسيلة فعالة وحقيقية يلجأ إليها الموظفون العموميون للضغط على الإدارة حتى تستجيب لمطالبهم المهنية المشروعة والممكنة.
وبمعنى آخر، إن الموظف العام يلجأ إلى هذه الوسيلة مــن أجـل الضغط على الإدارة لحملها على الإستجابة للمطالب المهنية التي رفضت سابقاً، وممارسته لهذا الحق يأتي بإعتبار أن الوئام والوفاق لا يسودان العلاقة بين الموظفين والعمال وبين الحكومة وأرباب الأعمال على الدوام، وكثيراً ما تنشب المنازعات بين الطرفين، ولاسيما حول الأجور والمرتبات وغيرها، إذ إنّهم يستخدمونها كوسيلة للتعبير عن رأيهم، وسلاح قوي بيد الموظف العام يؤدي إلى التوقف عن العمل بهدف الضغط على الحكومة لكي تستجيب لمطالبه المهنية .
ولما كان الإضراب سلاحاً فعالاً في أيدي الطبقة العاملة للدفاع عن مصالحهم المهنية، فقد انتشر في مصر وفرنسا وغيرها من دول العالم. فبالنسبة لمصر، فقد انتشرت ظاهرة اضراب العاملين في مجال المرافق العامة بعد ثورة 25 كانون الثاني 2011 بحيث لا يمر أسبوع أو شهر في السنة دون أن يحدث توقف عن العمل في هذا المرفق أو ذاك، وشمل هذا التوقف حتى المرافق العامة على المستوى القومي، مثلاً نجد أن سائقي القطارات بهيئة السكك الحديدية والمعلمين والأطباء… الخ. مما يصيب حياة المواطنين بالشلل التام. ويرجع سبب إضراب هؤلاء العاملين إلى المطالبة بإصلاح أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، وذلك بعد تدني الأجور وانخفاض القوة الشرائية للنقود، مما أثر تأثيراً سلبياً على أوضاعهم الإجتماعية والحياتية، فيصبح لزاماً على الحكومة أن تضع للموظف العام الضمانات اللازمة التي تكفل حقوقه، ومنها وضع حد أدنى للأجور، وتحديد ساعات العمل اليومية والأسبوعية، ووضع حد أدنى للسن، وغيرها من الضمانات والحقوق الأخرى.
في فرنسا، إنتشرت ظاهرة إضراب الموظفين في المرافق العامة بعد الاعتراف بمشروعية الإضراب بموجب مقدّمة دستور 27 تشرين الأول 1946 التي تنص على أن: “حـق الإضراب يمارس في نطاق القوانين التي تنظّمه”.
أما في لبنان، فلا يخفى على أحد أنه في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يرزح تحت وطأتها لبنان واللبنانيون لا سيما تقلّبات سعر صرف العملة الوطنية تجاه الدولار وصعوبة الحياة اليومية للمواطن اللبناني، يُعتَبر الموظف في القطاع العام واحدًا من حلقات الضعف التي لحقها أذى كبير، كونه يتقاضى راتبه بالعملة الوطنية ما أفقده قرابة الـ90% من قدرته الشرائية.
إزاء هذا الوضع المتردي المستمر بشكل تصاعدي منذ عام 2019 حتى يومنا هذا، كان من حق الموظف في الادارات والمؤسسات العامة أن يبادر الى المطالبة بأدنى حقوقه التي تسمح له على الأقل بممارسة عمله اليومي الطبيعي.
وهنا بدأت المشكلة بين حق الموظف بالمطالبة بتحسين وضعه المعيشي والاجتماعي من جهة، ودولة عاجزة عن إدارة أبسط الملفات، فما بالك بقطاع عام يضمن أكثر من 350 ألف موظف من جهة اخرى؟ وبين هذا وذاك ضاع المواطن العادي الذي يبحث عن انجاز أبسط المعاملات الادارية وحتى الحصول على المستندات البسيطة التي يحتاجها الطلاب من بيانات القيد وغيرها من الأمور اليومية للبناني.
وفي رأينا أنّ تنظيم الإضراب من قبل المشرع سيقلل من ظاهرة انتشاره طالما تم وضع الضوابط لممارسته وذلك أفضل من ترك الأمر دون تنظيم.
أوّلاً: أهمية موضوع الدراسة
تبرز أهمية وأسباب أختيارنا لهذا الموضوع في ما يلي:
1- حق الإضراب يعتبر أداة فعالة ومؤثرة، وفي نفس الوقت يعد ظاهرة حضارية، وله آثار قوية في حال تم استخدامه بفاعلية ووعي ولا سيما أن الطبقة العاملة تمتاز بالكثرة العددية، والثروة البشرية.
2- حاجة المجتمع الماسة والملحة إليه أفراداً وجماعات، أو على مستوى الشعوب والقيادات، وذلك بدراسة تفصيلية لجميع جوانبه وبيان الأحكام المترتبة عليه وبيان حدوده وضوابطه.
3- مساس هذا الموضوع بحياة الناس المعاصرة، وهو ليس بعيداً عن واقعهم ومشاهدتهم.
4- سهولة استخدامه من حيث التنفيذ والتكليف فهو وجه لفكرة الامتناع بالفعل فقط لإظهار الاحتجاج وعدم الرضا.
5- ما تشهده في الآونة الأخيرة، مختلف دول العالم من اضرابات حتى صار حق الاضراب ظاهرة يتكرر اللجوء إليها في أكثر من دولة لاسيما فرنسا ولبنان. فعلى الرغم من أن معظم التشريعات في مختلف دول العالم تنظم العلاقة بين الموظف العام وجهة الإدارة، وتعطى الكثير من الحقوق والضمانات للموظف باعتباره الطرف الضعيف في هذه العلاقة، مثل وضع حد للأجور والمرتبات وإعادة النظر فيه كل فترة بالنظر إلى مستوى الأسعار، أيضاً تحديد ساعات العمل اليومية أو الأسبوعية للموظف وغيرها من الضمانات والحقوق الأخرى. إلا أن التطور الاقتصادي والاجتماعي قد أدى إلى وقوع كثير من الظلم والمعاناة على أفراد الموظفين في الأجهزة الإدارية خصوصاً في ظل الأزمات الاقتصادية كتلك الأزمة التي يشهدها العالم في الفترة الحالية.
ثانياً: أهداف الدراسة
تسليط الضوء على مفهوم الإضراب بالقطاع العام ونطاق شرعيته وممارسته في لبنان وفرنسا في ظل وجود مطالبات تنادي بتعديل هذه التشريعات بشكل يسمح بالإضراب للموظفين وإبراز سوء فهم الموظفين لحقوقهم وواجباتهم في ممارسة الإضراب.
ثالثاً: إشكالية الدراسة
بين احترام حقوق الموظف وتعطيل المرفق العام، كيف عالج كل من المشرّعين اللبناني والفرنسي مشروعية الإضراب في القوانين الداخلية؟ وما مدى قانونية الإضراب المفتوح؟
رابعاً: خطة الدراسة
أولاً: حق الإضراب في القانون الفرنسي
1- بين الماضي والحاضر.
2- الإضراب بحده الأدنى والحد الأقصى.
ثانياً: حق الإضراب في القانون اللبناني.
1- الإضراب في القانون اللبناني.
2- آثار الإضراب.
أولاً: حق الإضراب في القانون الفرنسي
لم يرد بالتشريع الجنائي الفرنسي أي نص بشأن الإضراب، الأمر الذي يوحي بأن الإضراب يعتبر عملًا مشروعًا وحقًّا للموظفين – باعتباره مظهرًا هامًا من مظاهر حرية التعبير عن الرأي– طالما لم يصدر نص بتحريمه. وعندما صدر دستور 27 أكتوبر 1946 ونص في ديباجته على أن حق الإضراب يباشر في نطاق القوانين التي تنظمه، حدث خلاف بين الفقه والقضاء في المعنى المقصود من هذا النص، وحق الموظفين في الإضراب إستناداً إلى النص الوارد في ذلك التصدير وحق السلطة العامة في تنظيمه.
ويمكن أن نتناول حالة الإضراب في التشريع الفرنسي في مرحلتين: الأولى وهي المرحلة السابقة على دستور 1946، حيث اتسم هذا الحق في تلك الحقبة بعدم المشروعية. أما المرحلة الثانية فهي ما بعد وضع دستور سنة 1946 والتي تقرر فيها الاعتراف بالإضراب للموظف العام مع تنظيمه بضوابط وقيود معينة “التنظيم المقيد”.
1- بين الماضي والحاضر
لقد عرفت فرنسا أول الإضرابات بفعل دخولها في الثورة الصناعية وذلك قبل ثورة 1789 بالرغم من منع التكتلات والتجمعات المهنية. ومنذ ذلك التاريخ تم القيام بالعديد من الإضرابات في جميع القطاعات والنشاطات وذلك بالرغم من القمع الذي كان يسلط على العمال المضربين، وكثيراً ما كانت تلك الإضرابات تقام للاحتجاج إما عن عدد ساعات العمل، أو ضد استخدام عمال غير منتمين للمهنة. وبعد الثورة الفرنسية تفاقمت الأوضاع الاجتماعية بفعل دخول فرنسا في العهد الليبرالي المتوحش والاستغلال المفرط مع تدني ظروف العمل.
وبناء على ذلك، كان المنع الكلي والحقيقي للإضراب الذي لم يكن إلا عندما منع تكوين تجمعات من أجل الدفاع عن المصالح المهنية، وذلك ما تم تأكيده في قانون شابلي(CHAPELIER) الصادر في 10 يونيو 1791 والذي منع كل تجمع مهني وكل عمل نقابي بفرنسا، وخلال ذلك العهد وبالضبط في نوفمبر1831، قام عمال الأقمشة بإضراب بسبب رفض بعض أصحاب العمل تطبيق تسعيرة اتفاقية، غير أن ذلك الإضراب ووجه بقمع عنيف تأكيداً لمنع الاتفاق الجماعي تطبيقاً لقانون منع التجمعات والتكتلات المهنية.
غير أن تلك الاحتجاجات والتمرد العمالي لم يتوقف رغم القمع الذي تعرضت له طبقة الشغيلة بمناسبة جميع الحركات الاحتجاجية التي عرفتها فرنسا خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. ولقد دام ذلك المنع إلى سنة 1848 بصدور قانون 1849/02/27 من نفس السنة، حيث اعترف للعمال بحق التجمع في ما بينهم لاستغلال نتائج عملهم ولكن ذلك القانون لم يدم طويلاً، وبصدور قانون 1849/02/27 تم إلغاء ما جاء به القانون المذكور، فقد نص على منع التجمع سواء المتعلق بالمستخدمين أو العمال، وكان قصد واضعي القانون من ذلك، المساواة بين المستخدمين وبين العمال أمام القانون. وبتعديل قانون العقوبات بموجب قانون 1864/05/25 تمّ بمقتضاه إلغاء قانون منع التحالف والائتلاف بين العمال؛ ونص من جهة ثانية على جنحة المساس بحرية العمل، وقد وضع ذلك القانون على أساس مبدأ أن يباح للجماعة ما يباح للفرد، بمعنى إذا كان للعامل كفرد أن يتوقف عن العمل انطلاقاً من مبدأ الحرية في العمل الذي أقرته الثورة الفرنسية، فإنه يجوز للعمال أن يتفقوا على توقيف العمل، وأن يتمتعوا بنفس الحقوق كجماعة ما داموا يتمتعون بها كأفراد.
وبتاريخ 31 آذار/مارس 1868، سمح بتنظيم بعض الشروط المحددة للتجمعات العمالية، إلا أن الاعتراف الحقيقي لحقّ التجمّع لم يكن إلا بتاريخ 21 آذار/ مارس 1884، أيّ بعد 16 سنة، وتم بذلك إلغاء العقوبات المقررة على العمال القائمين بالإضراب، وتحريم أي ضغط على العمال في الدخول في إضراب عن طريق العنف والقوة، أو التهديد أو ما يشابه ذلك من التصرفات التي من شأنها التأثير على العمال ومنعهم من أداء عملهم بحرية وتلقائية، غير أن الاعتراف الضمني بحق الإضراب، لم يفسر بذلك الشكل في ظل الجمهورية الثالثة حيث كانت الإضرابات التي قامت سنة 1932 إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية سنة 1939، سبباً في إنهاء علاقات العمل بالنسبة للمضربين.
ونتيجة لتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، اشتدت حركة الإضراب في تلك الفترة غير أن الجبهة الاشتراكية في الحكم لم تقمع تلك الإضرابات ولم تتابعها جزائياً، كما كان يسمح لها القانون بذلك، بل النقابات هي التي طالبت بإحداث اللجوء إلى التحكيم الإجباري قبل اللجوء إلى الإضراب. وأثناء الحرب العالمية الثانية حلت النقابات غير أن ذلك لم يمنع حدوث الكثير من الإضرابات التي كانت ممزوجة بطابع سياسي.
لذلك ظل إضراب الموظفين العموميين عملاً غير مشروع قبل دستور 1946، واعتبر بمثابة عمل غير مشروع يوجب توقيع الجزاء التأديبي باعتباره مخالفة تأديبية، كما اعتبر في بعض الحالات بمثابة جريمة جنائية ومخالفة تأديبية في آن واحد، ولا يتمتع الموظف العام في حالة ممارسة الإضراب بأية ضمانات تأديبية، وهذا ما أكده الفقه والقضاء.
ومن الناحية القانونية، فإن القانون الجنائي الفرنسي في فصوله من 123 إلى 126 كان يسمح بمتابعة تحالف الموظفين ضد الإدارة، وكانت عدم مشروعية الإضراب في تلك الفترة تجد أساسها في الإخلال بقاعدة استمرارية المرفق العام بنظام واطراد، وبقاعدة الخضوع للطاعة الرئاسية.
وسيراً على ذلك النهج، جاء القانون بمثابة النظام العام للموظفين الصادر في 14 أيلول/سبتمبر 1941، لا ليحرم الإضراب فحسب وإنما ليجعله أمرا غير مشروع، حيث نصت المادة 17 منه على أن “أي عمل من جانب أي موظف يكون من شأنه الإضرار بالاستمرار اللازم للسير الطبيعي للمرفق العام يشكل إخلالاً جسيماً بواجباته الأساسية، وعندما ينشأ أي عمل من هذه الطبيعة عن عمل جماعي أو متفق عليه، فإن الموظف يحرم نتيجة لذلك من الضمانات المنصوص عليها في هذا النظام في ما يتعلق بالمجال التأديبي”.
أما بخصوص موقف فقهاء القانون العام في فرنسا في تلك المرحلة، فقد اعتبر السواد الأعظم منهم (الأستاذ “Gaston Jése”، الأستاذ “Maurice Hauriou”، الأستاذ ”Louis Rolland، الأستاذ “V. Deguit”…) أن إضراب الموظفين يعدّ عملاً غير مشروع، ويمثّل خطأ جسيماً وذلك لتعارضه مع مفهوم المرفق العام الذي يقوم في أساسه على رعاية الصالح العام، وأن إجازة الإضراب في هاته الحالة يجعله يخضع لمصالح الموظفين الخاصة، ولا يمكن أن تكون المصلحة الخاصة مفضلة على المصلحة العامة، حيث يرتكز نظام المرفق العام على هيمنة وتفوق المصلحة العامة، وبالتالي يكون الإضراب من جهة الموظفين العموميين عملاً غير مشروع ويشكل خطأ تأديبياً.
كما يرى ذلك الاتجاه الفقهي أن الإضراب يتعارض مع مبدأ أساسي من المبادئ التي تحكم سير المرافق العامة ألا وهو سير المرافق العامة بنظام واطراد، وأن المركز اللائحي الذي يشغله الموظف يجعل شروط وأوضاع العمل بالنسبة له تتحدد بأداة تنظيمية تصدرها السلطة العامة بإرادتها المنفردة، وبالتالي ليس هناك مجال للتفاوض لمناقشة تلك الشروط كما هو الحال في علاقات الشغل الخاصة.
فالوظيفة العامة في رأي الفقه الفرنسي تقوم على أساس مبدأ السلطة الرئاسية وفكرة النظام العام، وأن كل ما يهدف إلى هدم هذا المبدأ يكون محظوراً، وبالتبعية لذلك يحظر على الموظف العموميين اللجوء إلى الإضراب، لأنه يعتبر عملاً من أعمال التحدي في مواجهة الدولة.
والفقيه الفرنسي ديجي “Deguit” يوضح رفضه القاطع للإضراب، حيث يقرر عدم وجود حق الإضراب بصورة عامة، ومن باب أولى فإنّه لا يوجد بالنسبة لأية طائفة من الموظفين العموميين، بل ويذهب إلى أبعد من ذلك حيث يطالب بضرورة اعتبار إضراب الموظفين جريمة جنائية.
2- التنظيم المقيد للإضراب
ظل القانون رقم 46-2294 الصادر في تشرين الأول/ أكتوبر 1946 المتعلق بالنظام العام للموظفين صامتاً في ما يتعلق بموضوع إضراب الموظفين وإن كان قد اعترف لهم صراحة بالحرية النقابية.
كما أن دستور الجمهورية الرابعة الفرنسي الصادر بتاريخ 27تشرين الأول/ أكتوبر سنة 1946 لم ينص على الحقوق والحريات العامة إلا في ديباجته، بخلاف مشروع الدستور الفرنسي الذي رفضه الشعب الفرنسي وهو المسمى “دستور أبريل 1946” فقد وضع النصوص الخاصة بالحقوق والحريات العامة في صلب الدستور ذاته.
وقد نصت مقدمة الدستور الصادر في 27تشرين الأول/ أكتوبر 1946 على أن “حق الإضراب يمارس في إطار القوانين التي تنظمه”؛
كما أثير التساؤل هل يمكن الاستناد لهذا النص الوارد في مقدمة الدستور كأساس لتبرير شرعية الإضراب في المرافق العامة؟
لقد أجاب رجال السياسة والنقابيون ورجال القانون على هذا التساؤل بإجابات مختلفة، وذلك على النحو التالي:
ذهب اتجاه إلى أنه لا يمكن الاستناد إلى ما ورد في مقدمة الدستور بصفة مباشرة لإجازة الحق في الإضراب بالنسبة للموظف العمومي، وذلك لأن ما ورد بمقدمة الدستور ما هو إلا توجيه وإرشاد للمشرع، وبالتالي فإن القيمة المنهجية فقط للمقدمة تحول دون الاعتراف للموظفين بحق الإضراب في غياب قانون يعترف لهم بهذا الحق، وعليه فإن الأحكام التي جاءت بها هذه المقدمة لا تعتبر قواعد قانونية ملزمة للمشرع، وإنما تعتبر هذه الأحكام بمثابة مبادئ عامة ذات قيمة سياسية أو فلسفية محضة أكثر منها قواعد قانونية ملزمة، ويترتب على الأخذ بهذا الرأي أن المشرع يستطيع أن يضع تشريعات أو يسن قوانين عادية تخالف المبادئ الواردة في المقدمة، دون أن يحتج على هذه التشريعات بعدم دستوريتها ومخالفتها لأحكام المقدمة.
وقد ذهب اتجاه آخر من الفقه، على عكس الاتجاه السابق، إلى تبني رأي آخر مفاده أن ما ورد بمقدّمة دستور سنة 1946، يعطي للموظفين الحق في الإضراب على اعتبار أنّ الاعتراف بالحق النقابي يستتبع بالضرورة الاعتراف بحق الإضراب، ذلك السلاح الرئيسي والملاذ الأخير للنقابات في الدفاع عن حقوق ومصالح أعضائها.
ومقدمة الدستور في رأي ذلك الاتجاه لها قيمة قانونية، وأن تلك القيمة تعتبر أعلى مرتبة من النصوص الدستورية ذاتها، لأنها بمثابة تعبير عن الإرادة العليا للأمة، فهي تحتوي على القواعد الأساسية الكامنة في الضمير الإنساني، تلك القواعد التي يتعين احترامها والنزول على حكمها دون حاجة لأن ينص عليها في مقدمة دستورية أو إعلان للحقوق.
وبذلك تكون المقدمة وفقاً لذلك الرأي ملزمة للهيئة التأسيسية التي تضع الدستور والمشرع العادي من باب أولى.
على أن هناك فريقاً من الفقهاء يجعل تلك المقدمة مساوية على الأقل للنصوص الدستورية، استناداً إلى أن المقدمة ما هي إلا تعبير عن إرادة الهيئة التأسيسية، مثلها في ذلك مثل النصوص الدستورية ذاتها، فهي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من الدستور، وتعادل القوة والقيمة التي تتمتع بها النصوص الدستورية، وبالتالي تتمتع نصوصها بما تتمتع به نصوص الدساتير من حصانة في مواجهة المجالس النيابية.
غير أن ذلك الرأي وجد أن المقدمة لا تتمتع بضمانات الرقابة على دستورية القوانين المنصوص عليها في المواد 91 إلى 93، من الدستور المذكور، لذلك إذا أصدر المشرع العادي قانوناً مخالفاً لتلك المبادئ الوارد ذكرها في المقدمة، فإن مثل ذلك التشريع يظلّ نافذاً وساري المفعول، حيث لا توجد وسيلة للطعن في دستوريته.
وقد تم الاعتراف بحق الإضراب للموظفين العموميين بصورة صريحة في قرار المجلس الدستوري الصادر في 25 حزيران/ يونيو سنة 1979 عندما أكد المجلس الدستوري في ذلك القرار على أنه طبقاً لما جاء بمقدمة دستور سنة 1946، ودستور الجمهورية الخامسة الفرنسي في 4 تشرين الأوّل/أكتوبر سنة 1958 “والمسمى دستور ديجول” من أن “حق الإضراب يمارس في إطار القوانين التي تنظمه” وأن أعضاء الجمعية التأسيسية قد أرادوا بهذا النص أن يكون له قيمة دستورية.
كما أكد القانون رقم 83-634 الصادر في 13 تموز/ يوليو 1983، المتعلق بحقوق والتزامات الموظفين في المادة 10 على هذا المبدأ إذ جاء فيه: “يمارس الموظفون حق الإضراب في إطار القوانين التي تنظمه”، كما أن مجلس الدولة الفرنسي قام بسد الفراغ التشريعي الذي ساد في الفترة ما بين صدور دستور 1946 وقيام المشرع بإصدار قانون 1963، الذي نظم فيه حق الإضراب، ولولا فعله هذا لعمت الفوضى ولأصبح الدستور فارغ المضمون. وهنا ظهر الدور الإنشائي للقاضي الإداري في وضع القواعد الضابطة حتى يتسنى للمشرع القيام بتنظيمها. وفعلاً تنبّه المشرّع ولو بعد فترة وقام بإصدار تشريع 31 تموز/ يوليو 1963، الذي يهم موظفي الدولة والجماعات المحلية وعمال المقاولات والهيئات والمؤسسات العمومية أو الخصوصية المعهود إليها بإدارة مرفق عام حيث قنن فيه المشرع ما استقر عليه المجلس من قواعد؛
وبذلك أصبح حق الإضراب مقرراً للموظفين في فرنسا دستورياً وتشريعياً ومعترفاً به على صعيد القضاء.
لقد ألزم قانون 31 تموز/ يوليو 1963 المعنيين بالأمر بتوجيه إنذار بالإضراب إلى السلطات المختصة قبل القيام بالإضراب بخمسة أيام، كما يجب أن يتضمن هذا الإنذار أسباب قيامه والتاريخ المقرر للقيام به وفي حالة عدم احترام الشروط فإن الموظفين المضربين يحالون على السلطة التأديبية المختصة.
كما نص القانون رقم 82.889 الصادر بتاريخ 19 تشرين الأول/ أكتوبر 1982 على ضرورة التفاوض بين الجهات المختصة خلال مدة الإنذار، قبل قيام الإضراب.
ثانياً: حق الإضراب في القانون اللبناني
على صعيد القانون اللبناني، لم ينص الدستور اللبناني على حق الاضراب، على الرغم من تطرقه الى العدالة الاجتماعية. أما قانون العقوبات اللبناني الصادر سنة 1943 فقد حرّم الاضراب في المواد 340 الى 344 تحت عنوان جرائم الاغتصاب والتعدي على حرية العمل، معتبراً أن التوقف عن الشغل من قبل المستخدمين أو العمال بقصد الضغط على السلطات العامة أو احتجاجاً على قرار أو تدبير صادرين عنها، جريمة يعاقب عليها بالحبس او بالإقامة الجبرية والغرامة.
ولم يتعرض قانون العمل الصادر سنة 1946 لموضوع الاضراب. لكن قانون عقود العمل الجماعية والوساطة والتحكيم الموضوع موضع التنفيذ بالمرسوم رقم 17386(بتاريخ 2 أيلول 1964) ألمح الى الاضراب من دون أن يصرّح به في الفقرة “ج” من المادة 47 التي أوجبت اللجوء الى التحكيم بعد انقضاء خمسة عشر يوماً على الأقل من تاريخ التوقف الجماعي عن العمل بسبب النزاع. وتعرّضت المادة 36 من القانون ذاته للتوقف غير الشرعي عن العمل من قبل الأجراء أو أرباب العمل بسبب نزاع عمل جماعي قبل مرحلة الوساطة وفي اثنائها، كما في أثناء مرحلة التحكيم وبعد صدور قرار التحكيم لمعاكسته أو الاحتجاج عليه، فيكون حق الاضراب قد أعطي ليس للأجراء وحسب، بل كذلك لأرباب العمل.
إلا أنه ووفقاً للمفهوم الاجتماعي، نكون أمام اضراب في حال توقف جماعة في مركز التبعية تجاه سلطة معينة عن العمل، للحصول على المزايا التي تطالب بها من السلطة ذات العلاقة.
1- الإضراب في القانون اللبناني
يمكن استنتاج الشروط التي يجب أن تتوافر في الاضراب من خلال اعتبار التوقف عن العمل اضراباً بالمفهوم القانوني له، وهذه الشروط هي الآتية:
أ-التوقف عن العمل: يفترض الاضراب توقف العمال عن العمل من دون رضاء صاحب العمل، ومن دون تنفيذ التزاماتهم الناشئة عن عقد العمل. وبذلك يعتبر التوقف عن العمل الشرط المادي للاضراب. ويقتضي ألّا يكون هذا التوقف لمدة طويلة، بل مؤقتاً من جهة، ومقصوداً ومدبراً من جهة ثانية.
فالتوقف عن العمل يجب أن يكون مؤقتاً، لأن الغاية التي يتوخاها العمال من الاضراب هي تنبيه رب العمل الى مطالبهم، ما لا يستلزم الامتناع عن العمل لمدة طويلة. فقد يقع الاضراب لفترة قصيرة (ساعات فقط)، إلا ان هذه المسألة هي مسألة نسبية، فثمّة اضرابات تدوم أياماً وأسابيع، في حين لا تدوم أخرى سوى ساعات فقط.
ولكن ما هي المدة القصوى التي يعتبر فيها الاضراب مشروعاً؟
سنداً للفقرة الأولى من المادة 63 من قانون عقود العمل الجماعية والوساطة والتحكيم فإن المدة المسموح الاضراب فيها قانوناً هي الفترة الواقعة ما بين انتهاء مرحلة الوساطة وابتداء مرحلة التحكيم، وهذه الفترة هي 15 يوماً على الأقلّ وفقاً للفقرة «ج» من المادة 47 من قانون عقود العمل الجماعية والوساطة والتحكيم.
ومن جهة ثانية يجب أن يكون التوقف عن العمل مقصوداً ومدبراً، فإقدام الاجراء على الاضراب يجب أن يكون له طابع القصد في التوقف عن العمل بشكل صريح وواضح ورضائي. وهذا الرضى بالتوقف عن العمل ليس مفترضاً أو ضمنياً، بل هو رضاء صريح، مظهره الإيجابي التضامن القائم بين العمال، والهادف الى تعليق العمل بغية التوصل الى شروط معينة.
ب- الطابع الجماعي: التوقف عن العمل الذي يمكن اعتباره اضراباً، هو التوقف الجماعي. إنما لا يستلزم ذلك أن ينقطع العمال جميعاً ولا أغلبهم عن العمل، ولا أن يصدر به قرار من نقابتهم، بل يكفي أن ينقطع نفر منهم عن العمل ولو كانوا أقلية.
أما حول الحد الأدنى من عدد العمال المتوقفين عن العمل الذي يصح اعطاؤه وصف الاضراب، فقد اعتبرت محكمة التمييز الفرنسية سنة 1951 ان توقّف أجيرين عن العمل يشكل اضراباً. واعتبر الفقه اللبناني ان مفهوم الجماعة يتـجــاوز أجيرين اثنين، وحددت المادة 29 من قانون عقود العمل الجماعية والوساطة والتحكيم أحد شروط النزاع الجماعي بأن يكون أحد طرفيه جماعة من الاجراء. وسواء كانت الجماعة المضربة كبيرة أم صغيرة، فإن المهم على هذا الصعيد هو أن تجمع أكثر من أجيرين ليصح النظر إلى توقّف هؤلاء عن العمل كإضراب بمعناه القانوني.
ج- الهدف المهني: يعتبر الاضراب محدداً بغايته، لأنه وسيلة جماعية في يد العمال للضغط على أصحاب العمل بقصد تحقيق مطالب اجتماعية تتعلق مثلاً بزيادة الأجور أو بإنقاص ساعات العمل. فالاضراب هو أداة كفاح للحصول على مزيد من الحقوق، التي يعتبر تحقيقها رهناً بوجود المطالب، ما يقتضي أن يبقى الاضراب مهنياً، أي أن يرمي الى تحسين شروط العمل. وهذا الهدف المهني هو ما حدّده المشترع عندما حصر غاية النقابة في الأمور التي من شأنها حماية المهنة وتشجيعها ورفع مستواها أو الدفاع عن مصالحها والعمل على تقدّمها من جميع الوجوه الاقتصادية والصناعية والتجارية، بينما يحظّر على النقابات الاشتغال بالسياسة والاشتراك في اجتماعات وتظاهرات لها صبغة سياسية (المادة 84 من قانون 22 أيلول 1946).
وبالتالي، يكون الاضراب مهنياً عندما يهدف الى تحسين واقع حال عقود الاستخدام للاجراء وبقاء المضربين كأعضاء في مجتمع مهني يسعى الى تحسين أوضاعه لا خروجهم عنه. وتقتضي الإشارة الى ان توقف الأطباء والتجار وامتناع المكلفين عن دفع الضريبة لا ينطبق عليه في هذه الحالة وصف الاضراب، وإن تعلّق بأوضاع مهنية، لأن هؤلاء هم من أصحاب المهن الحرة وليسوا اجراء. كما لا يجوز للموظفين العموميين الاضراب بالاستناد للمادة 51 من المرسوم الاشتراعي رقم 1959/112، تحت طائلة ملاحقتهم تأديبياً وقضائياً وصرفهم من الوظيفة.
كما أنّ ثمّة صوراً مختلفة للاضرابات هي:
-الاضرابات المتقطعة: يضرب الاجراء على مراحل متتابعة ومتلاحقة.
– الاضرابات الدوّارة: وهي التي لا تشمل وحدات المؤسسة جميعها بل تنتقل بالتناوب من وحدة الى وحدة أخرى، بقصد المحافظة على استمرارية الاضراب من جهة، وعدم حرمان العمال من كل أجورهم من جهة ثانية.
– الاضرابات الانسدادية: وتقتصر على توقف عمل الفئة الرئيسة من العمال، وهي كفيلة بوقف دورة الانتاج في المؤسسة نظراً لأهمية هذه الفئة في تسيير العمل وتنظيمه وإدارته.
-الاضراب المقنع: حيث يعمد الاجراء الى التظاهر بالقيام بالعمل، وهذا النوع لا يتمتع بالصفات القانونية للاضراب، ولا بشروطه، بل يعتبر اخلالاً من الأجير بموجباته.
-الاضراب السياسي: يعتبر الاضراب سياسياً إذا أعلن احتجاجاً على سياسة الحكومة الخارجية أو الداخلية من دون أن يكون لهذه السياسة أثر مباشر على حقوق العمال. ومع أنه يمكن اللجوء الى وسائل سياسية لتحقيق أهداف مهنية، فإنه لا يجوز اللجوء الى وسائل مهنية لتحقيق أهداف سياسية.
-الاضراب التضامني أو التعاطفي: هو امتناع العمال عن العمل لتأييد مطالب عمال آخرين، وهو يعتبر مؤشراً على تعاطف الأجراء في ما بينهم لتشكيل قوة ضاغطة في مواجهة رب العمل. فإذا كان الاضراب التضامني في خدمة فئة من الاجراء ضمن المؤسسة عينها، يعتبر مشروعاً. أما إذا كان التضامن مع اجراء في مؤسسة أخرى أو في قطاع آخر فإن ثمة قرينة على أن هذا الاضراب غير مشروع، إلا إذا تبين أن ثمة جوامع مشتركة بين المضربين أصلاً والمضربين تضامناً.
كما يعتبر الاضراب مشـــروعاً وقانـونيـــاً إذا كانت غاياته الحصول على مطالب مشروعة أو الدفاع عن مصالح المهنة بمعزل عن أي اعتبار آخر. ولكي يعتبر الاضراب مشروعاً يجب أن يتحقق فيه شرطان أساسيان: الأول شكلي، والثاني موضوعي.
-الشرط الشكلي: أن يكون الاضراب واقعاً بين الوساطة والتحكيم، وهذه الفترة هي 15 يوماً على الأقل، تبدأ من تاريخ اعـــلان فشل الوساطة وتنتهي عند بدء مرحلة التحكيم.
-الشرط الموضوعي: ان تــكون غــايــة الاضراب مهنية، أي الحصول على مطالب مشروعة أو الدفاع عن مصالح المهنة، وكذلك يجب أن يكون الاضراب ناشئاً عن نزاع عمل جماعي.
فماذا حول قانونية هذا الاضراب المفتوح؟
كلنا يعلم بأن الموظفين العامين لن يذهبوا الى الاضراب إلا قسرًا وليس كهدف بحد ذاته، بل كوسيلة للمطالبة بحاجات معيشية واجتماعية ما جعلنا نقرأ بيانات كثيرة صادرة عن هيئات ولجان وروابط الى أن وصل الأمر إلى تجمعات في دوائر ضمن مصالح ضمن ادارات، وهذا أمر مستغرب ومخالف للقانون بأبسط قواعده. ولكن، بالرغم من أن الدستور اللبناني في مقدمته وفي المواد 7 إلى 15 منه قد كفل الحرّيات العامة على أنواعها ومنها (حرية إبداء الرأي قولًا وكتابة وحرية الطباعة كما وحرية تأليف الجمعيات)، فإن الدستور نفسه كما القوانين الأخرى التي سنأتي على ذكرها لاحقًا لم تتضمن كلها النصوص التي تتيح للموظف العام اعلان الاضراب العام وشل حركة الادارات والمؤسسات العامة، وبالتالي شل البلد بشكل عام، ما انعكس سلبًا بتعطيل كافة الأعمال وخسارة المواطنين لأعمالهم وخزينة الدولة لايراداتها. ويعلم أغلبية الموظفين العامين بالمبدأ القانوني العام الذي يقول (بضرورة وأهمية تسيير أمور المرفق العام بالرغم من أي ظروف تسييرًا للمنفعة والمصلحة العامة).
لم يقف المشرع عند هذا الحدّ، بل عبّر عن ذلك وبشكل صريح حيث ذكر المرسوم الاشتراعي 59/112 الخاص بنظام الموظفين في المادة 15 منه في فقرتها الثالثة التالي: يمنع على الموظف العام (وهو الذي يسيّر شؤون المرفق العام) “ان يضرب عن العمل أو يحرّض غيره على الإضراب”.
إذاً، هناك مراسيم تنظيمية وقبلها دستور سمح بالتعبير عن الرأي، ولكن منع تعطيل المرافق.
ورد في المرسوم المذكور أعلاه الخاص بنظام الموظفين ما يسمح للادارة اعتبار الموظف المتخلّف عن عمله تحت أي مسمى مستقيلًا، وذلك بحسب المادة 65 البند “د”، على الشكل التالي: “اعتبار الموظف الذي يُضرب عن العمل مستقيلاً”.
وما يؤكد أهمية هذا النص أنّه لا يكون جائزًا الرجوع أو تعديل قرار اعتبار الموظف مستقيلًا بعد صدوره بمرسوم، وفق ما جاء في الفقرة 3 من المادة 65 المعطوفة على الفقرة 3 من المادة 64 من نظام الموظّفين.
فالموظف “المُعتبر مستقيلاً” يصبح في وضع شبيه بالموظف “المستقيل”، وهو بالتالي لا يستفيد من حقوق معاش التقاعد أو تعويض الصرف، بل تدفع له الحسومات التعاقدية المقتطعة عن رواتبه. والأخطر في كل ذلك أنّه لا يجوز إعادته إلى الخدمة إلا إذا توافرت فيه جميع شروط التعيين باستثناء شرط السن، حيث كانت هناك سوابق عديدة في الإدارة العامة اتخذت قرارات من هذا القبيل، وهي قرارات صادرة عن مجلس شورى الدولة.
لم يقف القانون عند هذا الحد بل ذهب باتجاه قانون العقوبات لا سيما في مادته 340 حيث نص على أنه: “يستحق التجريد المدني الموظفون الذين يربطهم بالدولة عقد عام إذا أقدموا متفقين على وقف أعمالهم أو اتفقوا على وقفها أو على تقديم استقالتهم في أحوال يتعرقل معها سير إحدى المصالح العامة”.
فيما ذهبت المادة 343 من القانون نفسه لتوضح دور من يدعو الى هذه الاضرابات، أو بمعنى آخر يحرض على ذلك فنصّت على أن: “من تذرّع بإحدى الوسائل المذكورة فحمل الآخرين أو حاول حملهم على أن يوقفوا عملهم بالاتفاق في ما بينهم أو ثبتهم أو حاول أن يثبتهم في وقف هذا العمل، يعاقب بالحبس سنة على الأكثر وبالغرامة”.
2- آثار الإضراب
1- آثار الاضراب على عقود الاستخدام: كان القضاء اللبناني قبل العام 1946 يفسخ عقد العمل بسبب الاضراب وذلك بالاستناد الى المادة 654 من قانون الموجبات والعقود. لكنه بعد صدور قانون العمل سنة 1946، سار الاجتهاد على فسخ عقود الإستخدام نتيجة الإضراب بالإستناد الى المادة 74 من قانون العمل، عند غياب الأجير بدون عذر مشروع أكثر من 15 يوماً في السنة الواحدة أو أكثر من سبعة أيام متوالية.
إلا أنه بعد صدور قانون عقود العمل الجماعية والوساطة والتحكيم سنة 1964، توقف الفقهاء اللبنانيون عند نص الفقرة الثالثة من المادة 63 التي اعتبرت أن التوقف غير الشرعي عن العمل يفقد الاجراء كل حق في قبض أجورهم عن مدة التوقف عن العمل، فاعتبروا عن طريق حجة العكس أن الاضراب غير القانوني لا يفسخ عقود الاستخدام للأجراء المضربين، ومن باب أولى لا يفسخ الاضراب القانوني عقود استخدام هؤلاء، بل يتوقف العمل بها طيلة فترة الاضراب.
وعلى ذلك، فإن اقدام رب العمل على فسخ عقد الاستخدام للاجراء المضربين أو صرفهم من العمل خلال فترة اضرابهم المشروع، يجعله مسؤولاً عن هذا الفسخ عملاً بأحكام المادة 05 من قانون 1964/9/2 المعدّلة بموجب القانون 1975/2/6، ما لم يرتكب الأجير خطأ جسيماً.
2- آثار الاضراب على الأجر: المبدأ الأساسي الذي يحكم الأجر هو مبدأ «لا أجر بدون عمل». وسنداً للمادة 63 المذكورة يؤدي الاضراب غير القانوني الى حرمان الاجراء المضربين من قبض أجورهم. أما غير المضربين، فإن صاحب العمل ملزم طوال فترة الاضراب دفع الأجر لمن بقي منهم تحت تصرفه ما لم يكن هناك مانع له صفة القوة القاهرة.
بالنسبة الى الاجراء المضربين اضراباً مشروعاً، لا يحرمهم الاضراب حقهم من الأجر(3). إلا ان بعض الفقهاء يعتبر أن الاضراب يؤدي الى تعليق عقد العمل، وبالتالي يتوقف العمل، وكذلك يتوقف موجب دفع الأجر إعمالاً لبقاء عقد الاستخدام معلقاً طوال فترة الاضراب.
أما بالنسبة الى الأجير المريض، فيجب التمييز بين ذلك الذي يقع في حالة المرض قبل الاضراب فيتوجب له الأجر، وبين الأجير المضرب الذي يقع في حالة المرض في أثناء تنفيذ الاضراب، فلا يتوجب له أجر إذا كان اضرابه غير قانوني.
3- آثار الاضراب على الانذار: إن رب العمل ملزم توجيه الانذار الى الأجير حتى ولو كان في حالة الاضراب، إلا إذا ارتكب الأجير خطأ جسيماً يجيز لرب العمل انهاء عقد الاستخدام من دون أي انذار (المادة 74 من قانون العمل اللبناني).
4- آثار الاضراب على تعويض نهاية الخدمة وعلى تعويض الصرف من الخدمة: لا يؤدي الاضراب الى حرمان الأجير من حقه في تعويض الصرف من الخدمة الذي يخضع له الاجراء الذين كانوا في الخدمة بتاريخ الأول من أيار 1965، إلا إذا انطبقت عليه إحدى الحالات المحدّدة في المادة 74 من قانون العمل. أما بالنسبة الى تعويض نهاية الخدمة فإنه لا يتأثر اطلاقاً بالاضراب، إذ يتقاضى الاجراء هذا التعويض من فرع نهاية الخدمة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
5- تأثير الاضراب على السلطة التأديبية لرب العمل: تصبح السلطة التأديبية التي يتمتع بها رب العمل والمستمدّة من عقد الاستخدام معلّقة نظراً لتعليق عقد الاستخدام للأجير المضرب، فلا يعود هذا العقد منتجاً لمفاعيله القانونية، على الرغم من بقاء الرابطة العقدية قائمة بين كل من رب العمل واجرائه المضربين. إلا أن السلطة التأديبية الموقوفة خلال فترة الاضراب تجد مجالاً لإعمالها عند ارتكاب الأجير المضرب خطأ فادحاً، كرفضه تنفيذ تدابير السلامة والوقاية.
6- تأثير الاضراب على الغير: المبدأ انه على الرغم من الاضراب، يبقى رب العمل ملتزماً موجباته التعاقدية تجاه الدائنين: موردين وعملاء، فيظل ملتزماً العقود التي أبرمها معهم طالما استمروا بتنفيذ موجباتهم التعاقدية تجاهه. ولا يعتبر الاضراب قوة قاهرة على صعيد علاقات العمل الجماعية، إذ إنّ اللجوء اليه خصوصاً في الدول الديموقراطية حدث متوقع الحصول، كما يمكن دفعه. وبالتالي، فإن التحقق من وجود أو عدم وجود القوة القاهرة، يقتضي النظر الى الاضراب بحد ذاته، فتتحقق المحكمة من الظروف التي سبقت ورافقت إعلانه، وموقف رب العمل منه، للقول ما إذا كان الاضراب يشكل قوة قاهرة بمفهومها القانوني.
كما أنه في أثناء الاضراب، لا يعتبر رب العمل مسؤولاً بالمال عن الأضرار التي يحدثها المضربون، لكونه لا يتمتع بسلطة الاشراف والتوجيه واعطاء الأوامر. بينما في مواجهة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، يظل الأجير خلال الاضراب محتفظاً بصفته مضموناً فيستفيد مثلاً من تعويض المرض والتعويض العائلي.
الخاتمة
تناول البحث دراسة موضوع التنظيم القانوني لحقِّ الإضراب في المرافق العامة، من حيث بيان مفهوم الإضراب وعناصره، وتنظيمه في المواثيق الدولية، وبيان أنواعه، كما تناول الأساس القانوني لحقِّ الإضراب في التشريع المقارن.
ومن خلال هذه الدراسة توصّلنا إلى مجموعة من النتائج والتوصيات، وهي على النحو الآتي:
أولاً: النتائج
– يعدّ الإضراب من قبيل الحقوق المقيدة، والتي تحتاج لتنظيم من المشرع العادي؛ لكون استخدام هذا الحق قد يضر بحقوق أشخاص آخرين، ولكي يتحقق الإضراب يجب توافر عنصرين مهمين: أحدهما معنوي ويكون بوجود نية الإضراب، والآخر: مادي يتحقق بالتوقف عن العمل ووجود مجموعة من الأهداف المبتغاة من تنفيذ الإضراب.
-إن الاتفاقيات الدولية والتي صادقت عليها الدولة اللبنانية، مثل: العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية نصت على حق الإضراب، ولكنها تركت للمشرع مهمة تنظيمه بقانون، وهذا يُلقي على عاتق الدولة التزاماً بموجب الاتفاقيات الدولية بإصدار تشريع ينظم حق الإضراب.
-اتجهت إرادة المشرع اللبناني – سواء من خلال نصوص قانون العقوبات إلى تجريم الإضراب في المرافق العامة، وقد يكون ذلك لنيَّة المشرع إضفاء قدر كبير من الحماية للمرافق العامة وضمان سيرها بانتظام واطراد، تاركًا بذلك فراغاً تشريعياً في هذا الجانب، على الرغم من وجود التزام يقع على عاتق الدولة بموجب اتفاقيات دولية وعربية صادقت عليها، يجعل السلطة التشريعية ملزمة بإصدار قانون ينظم حق الإضراب في المرافق العامة.
-إن القضاء المقارن وخصوصاً في فرنسا، أعطى موظفي المرافق العامة حق الإضراب، واشترط لذلك قيوداً أهمها تغليب المصلحة العامة، وضمان استمرار المرافق العامة بانتظام واطراد، آخذاً بعين الاعتبار أن ضوابط تنظيم حق الإضراب من القواعد العامة التي يفرضها المنطق السليم، ويمكن تطبيقها دون وجود تشريع ينظم ذلك، والتي منها إخطار جهة الإدارة، وأن تكون المطالب مشروعة ولها صلة بالعمل والوظيفة، وعدم استخدام العنف أو تعطيل عمل المرفق، فمتى تحقق الالتزام بها ولم تخرج عن الإطار المرسوم لها، فإن ممارسة حق الإضراب يكون في إطار من الشرعية الدستورية.
التوصيات
توصى هذه الدراسة بالآتية:
– يجب أن تتضمن النصوص القانونية بيان نطاق حق الإضراب، مع إعمال مبدأ التناسب بين المصلحة العامة وضمان سـير المرافق العامة بانتظام واطراد، وبين حقوق الموظف ومطالبه المشروعة.
– يجب تحديد الإجراءات المتبعة قبل البدء في تنفيذ الإضراب، والمدة الزمنية لكل إجراء، ووضع الجزاء المناسب لمن يخالف هذه الإجراءات، خصوصاً إذا نشأ عنها تعطل أحد المرافق العامة المنوط بها تقديم الخدمات للمواطنين، أو إضرار بالممتلكات العامة والخاصة.
-نوصي المشرع اللبناني بأن يسير على خطى المشرع الفرنسي بتقييد الإضراب بحده الأدنى دون توقف المرفق العام عن العمل بشكل كلي.
– تثبيت رواتب الموظفين في الدول ذات الاقتصاد المدولر، للتماشى مع سعر الصرف المتغير.
وفي نهاية بحثنا، نطرح تساؤلاً عله يفتح أفاقاً جديدة نحو دراسة جديدة تنطلق لبحث اشكالية محورها قدرة المشرع اللّبناني على فرض معايير للإضراب مشابهة لتلك المفروضة في فرنسا لناحية تقييد الإضراب للحفاظ على حقوق الموظفين والمواطنين في آنٍ واحد.
المراجع:
الكتب:
1. إبراهيم المنجي، إلغاء الجزاء التأديبي، منشأة المعارف، الطبعة الأولى، الإسكندرية 2005.
2. إبراهيم عبد العزيز شيحا، الوسيط في مبادئ وأحكام القانون الإداري، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية، مصر، 1999.
3. احمد الموافي، نظام مجالس التأديب طبيعته ضماناته، دار النهضة العربية، القاهرة، 2000.
4. احمد سليمان عبد الراضي، المسؤولية التاديبية لاعضاء المجالس المحلية، دار النهضة العربية،القاهرة، 2016.
5. احمد علي اللقاني، الاختصاص التشريعي لمجلس الدولة المصري من الناحيتين النظرية والعملية، دار النهضة العربية، القاهرة، 2016
6. احمد فتحي سرور، الشرعية والإجراءات الجنائية ، دار النهضة العربية، 1977
7. أحمد محمد صالح، نظام المحاكمات التأديبية في ضوء أحكام قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016، المركز القومي للإصدارات القانونية، 2018 .
8. أحمد محمد صالح، قواعد تأديب الموظفين (دراسة تحليلية)، المركز القومي للإصدارات القانونية، 2019.
9. تغريد محمد قدري النعيمي، مبدأ المشروعية وأثره في النظام التأديبي للوظيفة العام، منشورات الحلبي الحقوقي، بيروت،2016.
القرارات:
-C, Dec n° 79-105, DC du 25 juillet 1979, Rec., Cons. Constit… p : 42
42-144 DC du 22 oct. 1982, Rec., Cons. Constit, p : 61-
-قرار مجلس شورى الدولة – بيروت رقم 334 تاريخ 07/03/2005، مجلة القضاء الاداري، عدد رقم 2009/21، ص 522-524.
– قرار مجلس شورى الدولة – بيروت رقم 168 تاريخ 2004/12/09، مجلة القضاء الإداري عدد رقم 2009/19، ص 239-241.
-قرار مجلس شورى الدولة – بيروت رقم 279 تاريخ 2004/01/14، مجلة القضاء الإداري، عدد رقم 2009/20، ص 497-499.
– قرار مجلس شورى الدولة في لبنان رقم 523 تاريخ 1998/5/14.
“محكمة” – الإثنين في 2023/4/24