أبحاث ودراسات
مفهوم اللامركزية الادارية الموسّعة/مروان ضاهر
المحامي مروان ضاهر*:
زميلاتي وزملائي الكرام،
يَسرني أن ألتقي بكم نُخبة من أهل العلم والفكر. آملاً أن أكون عندَ حُسن ظَنِكُم مفيداً في طرحِ بعض الأفكار عن اللامركزية الإدارية ومدى إمكانية تطبيقها وتطويرها وتعزيزها في الإدارة اللبنانية.
في مطلع كل عهد تتكلم الناس عن الإدارة والإصلاح الإداري واللامركزية الإدارية. وتنتهي ولاية العهد وتتعاقب الحكومات ويبقى الحديث عن هذا الموضوع الشغل الشاغل لجميع رجالات السياسة والإدارة وأهل الفكر والعلم. فما هي إذن اللامركزية الإدارية؟
تعتمد الدولة في تخطيط سياستها الإدارية وتنظيم جهازها الإداري وتسيير مرافقها العامة نظام المركزية الإدارية أو نظام اللامركزية الإدارية أو غير ذلك من الأنظمة التي تتلائم مع سياستها العامة. والمركزية واللامركزية وجهان من أوجه التنظيم الاداري الأكثر شيوعا في دول العالم الحديثة وتمارس الدولة سلطتها الإدارية من خلال أحد هذين النظامين أو كليهما.
وإذا كانت المركزية الإدارية تعني انفراد السلطة المركزية بواسطة أجهزتها المركزية المتواجدة في العاصمة، المركز، أو في المحافظات والأقضية، بممارسة جميع المهام ذات الطابع الوطني العام وتلك ذات الطابع المحلي، فاللامركزية، على عكس ذلك تقضي بتوزيع الوظيفة الإدارية بين الحكومة وهيئات عامة أخرى، محلية أو مرفقية، تباشر وظيفتها تحت إشراف ورقابة سلطة المركزية.
وتظهر اللامركزية الإدارية بصور مختلفة وأول صورة عرفت لفكرة اللامركزية الإدارية هي الصورة الإقليمية أو المحلية.
وكانت البلدية النموذج الطبيعي لصورة اللامركزية الإدارية الإقليمية أو المحلية.
واتخذت البلدية مع مرور الزمن تنظيماً قانونياً وكياناً مستقلاً معترفاً به من الدولة واتخذت طابعا مؤسسياً يتمتع بالوجود القانوني وبالشخصية المعنوية وبالإدارة الذاتية. وما لبثت كيانات أخرى امام الحاجة وازدياد أعباء الدولة، أن اتخذت هذا الطابع كبعض المدن والمحافظات والأقاليم. ففي لبنان تشكل البلدية واتحاد البلديات نموذج لللامركزية الإدارية الإقليمية. أما في فرنسا على سبيل المثال، فتنقسم الوحدات اللامركزية الإقليمية الى محافظات ومدن وقرى يطلق عليها تسمية البلديات.
وفي مطلع القرن العشرين وبتغيير المفهوم السابق لدور الدولة وانتقالها من دولة الشرطي الى دولة الإنماء والرفاهية مرورًا بدولة العناية ظهرت صورة أخرى لللامركزية الادارية تقوم ليس على أساس إقليمي بل على أساس توزيع الوظائف الإدارية وفقاً لطبيعة النشاط وللحاجة التي يراد اتباعها، فكانت اللامركزية المرفقية أو الفنية ، وتشكل المؤسسات العامة نموذجا لللامركزية المرفقية.
وتختلف اللامركزية الإدارية الإقليمية عن اللامركزية الإدارية المرفقية في أمور عديدة أهمها :
يمكن أن توجد اللامركزية المرفقية في دولة تطبق النظام المركزي أو اللامركزي، بينما لا يمكن تحقيق اللامركزية الإقليمية في دولة تطبق نظام المركزية الإدارية أو في دولة غير ديمقراطية ذلك أن اللامركزيةالاقليمية نظام إداري ملازم للديمقراطية.
يمكن للهيئات اللامركزية المحلية أن تنشىء مؤسسات عامة محلية وتمنحها الشخصية المعنوية لإدارة بعض المرافق الخاصة بالوحدة الإدارية التي تقوم عليها، كمجلس تنفيذ المشاريع الكبرى لمدينة بيروت ضمن نطاق ووصاية وإشراف محافظة بيروت.
– للهيئات اللامركزية المحلية اختصاص عام يشمل جميع الشؤون والمرافق المحلية، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك، ضمن نطاقها الجغرافي، بينما اختصاص الهيئات اللامركزية المرفقية محدد يقتصر على إدارة مرفق أو مرافق عامة معينة ولا يرتكز بالضرورة على نطاق جغرافي معين.
وتتطلب اللامركزية الإدارية الاقليمية وجود شروط أو عناصر معينة تتحقق بتوافرها وهي ثلاثة:
الاعتراف بوجود مصالح محلية متميزة عن المصالح الوطنية:
أ- فالعلاقات الخارجية والشؤون الدفاعية تعتبر ذات طابع قومي لأنها تتعدى في أهدافها النطاق المحلي. اما تلك التي تقتصر على نطاق جغرافي محدد وتعتبر شأنا محليا خاصا فهي ذات طابع محلي مثل شؤون النظافة وإنشاء الحدائق والساحات العامة . ويحدد القانون هذه وتلك.
ب- قيام أجهزة محلية تؤمن المصالح المحلية:
يجب أن تشرف على المصالح المحلية وتتولاها هيئات محلية مختارة من البيئة المحلية وتشعر بالانتماء الى المجتمع المحلي فالاختيار يجب أن يتم ليس فقط من البيئة المحلية ولكن بواسطة أبناء البيئة المحلية.
ج- إحتفاظ السلطة المركزية بحق الرقابة على الهيئات المحلية:
إذا كانت اللامركزية نوع من الإدارة الذاتية إلا أنها لا تعني الاستقلال التام عن الدولة . فالاستقلال هنا هو استقلال الأجهزة والاستقلال في ادارة الشخص المعنوي اللامركزي ضمن الحدود التي يعينها القانون مع البقاء في إطار الدولة الواحدة. ” فاللامركزية الإدارية بمفهومها الصحيح ليست تبعية وليست استقلالا. فهي ليست تبعية من حيث أن علاقتها بالسلطة المركزية ليست علاقة رئاسية ولا علاقة خضوع بعنى أنه ليس للإدارة المركزية سلطة تسلسلية على الإدارة اللامركزية . وهي ليست استقلالاً بمعنى أن الوحدات الإدارية الاقليمية لا تكون كيانات مستقلة قائمة بذاتها وتتمتع بسلطات الدولة الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية.
فاللامركزية إذن هي وسط بين الاثنين وتقع بين نقيضين : المركزية و الفدرالية.
يتحقق ارتباط السلطة اللامركزية بالسلطة المركزية عن طريق ما يسمى بالوصاية الإدارية أو الرقابة الإدارية التي تمارسها السلطة المركزية على السلطات اللامركزية من أجل حماية المصلحة العامة واحترام القانون.
وتكون الوصاية أو الرقابة الإدارية من السلطة المركزية على أشخاص الهيئات اللامركزية ومقرراتهم لجهة تصديقها وحق توقيفها وإلغائها وحق الحلول محلها.
وهكذا فاللامركزية الإدارية نظام إداري متطور يؤمن حداً ادنى من الحريات وينمي الشعور بالمسؤولية وبالأهمية، ولهذا تأثيره الكبير، من الناحية النفسية على الأقل ، لأنه يؤدي الى إذكاء روح المشاركة في الحياة العامة وإذكاء روح التضامن والى التفاعل بين طبقة الحكام والمحكومين ضمن إطار الدولة الموحدة.
ولهذا النظام حسنات وسيئات ، فمن حسناته من الناحية الإدارية:
١- تخفف اللامركزية الإدارية الإقليمية ( البلديات) من أعباء السلطة المركزية باعتبار أن الوظيفة الإدارية في هذا النظام تتوزع بين السلطة المركزية والهيئات المحلية.
٢ – يؤدي اعتماد نظام اللامركزية الإدارية الإقليمية الى نمو وازدهارالأقاليم وأطراف الدولة أسوة بالعاصمة لأن ممارسة السلطة الإدارية من قبل السلطات المحلية يؤدي الى التحسس بمشاكل البيئة المحلية وعدم إهمال حاجاتها، الأمر الذي يقرب درجة النمو والحضارة بين أبناء الدولة الواحدة والمجتمع الواحد من سكان العاصمة وسكان الاقاليم.
٣ – يؤدي اعتماد نظام اللامركزية الإدارية الاقليمية وبالتالي وجود هيئات محلية منتخبة من السكان المحليين وعلى مقربة منهم، الى اختصار الوقت في البت بمعاملاتهم وقضاياهم والى تبيسط الإجراءات وأساليب العمل والى اقتصاد في النفقات التي يتحملها المواطنون، ومن سيئات اللامركزية الإدارية من الناحية الإدارية أيضاً:
1- قد تجر اللامركزية الإدارية الاقليمية الى تغليب المصالح الاقليمية المحلية على المصالح الوطنية العامة، وقد تلعب الحزبية المحلية في هذا الجال دورا سلبيا يؤدي الى تعطيل دور الهيئات المحلية وبالتالي إنتفاء الغاية التي من أجلها أنشئت هذه الهيئات المحلية.
2- قد لا تستطيع اللامركزية الإدارية الاقليمية مواكبة متطلبات الحياة العصرية ، اقتصاديا واجتماعيا عند افتفارها للامكانات البشرية والمالية والفنية والتي غالبا ما تحول دون وضع خطط إنمائية شاملة.
3- يؤخذ على اللامركزية الادارية الاقليمية أنها تؤدي الى المساس بوحدة الدولة الإدارية نظرا لتوزيع الوظيفة الإدارية بين السلطة المركزية من ناحية والهيئات اللامركزية من ناحية أخرى . لكن يرد على هذا المأخذ بأن الرقابة الإدارية التي تمارسها السلطة المركزية على الهيئات المحلية كفيلة بضبط تجاوزاتها وإبطال أعمالها المخالفة للقانون والتي لا تنسجم والصالح العام هذا من الناحية الإدارية .
أما من الناحية الاجتماعية :
تخلق اللامركزية الإدارية الاقليمية من الناحية الاجتماعية نوعا من التضامن بين أبناء الوحدة المحلية، كما تخلق نوعا من الحياة المشتركة فيما بينهم بحيث تتشابك المصالح وتتوحد الاتجاهات والأهداف.
أما من الناحية السياسية:
سيكرس نظام اللامركزية الإدارية الاقليمية، حرية واستقلال السلطات المحلية بإدارة نفسها بنفسها . ويرتبط هذا النظام بفكرة الديمقراطية السياسية التي تتجسد على صعيد الوطن بمشاركة الشعب في الحياة السياسية الوطنية عن طريق اختيار ممثليه ، وعلى الصعيد المحلي بمشاركة المواطنين في إدارة شؤونهم المحلية عن طريق انتخاب هيئاتهم المحلية. لكن يؤخذ على هذا النظام أنه يساعد على نشوء الحزبيات المحلية الضيقة ونمو النزاعات السياسية والخلافات العائلية التي تؤثر تأثيرا كبيرا في فعالية النظام اللامركزي. كما يقوم هذا النظام على خلق مجموعة من الوحدات الإدارية المستقلة داخل الدولة، الأمر الذي يهدد وحدة الدولة السياسية والقانونية خاصة إذا ما أهملت هذه الأخيرة رقابتها على الهيئات المحلية وأحكمت وصايتها عليها، لا سيما إذا كانت الدولة تمر في ظروف تكون فيها وحدتها مهددة.
تجدر الاشارة أخيراً الى أن اللامركزية الإدارية لا تقتصر فقط على البلديات والمؤسسات العامة وانما تتعدى ذلك الى اتحاد البلديات والمختارين والهيئات الاختيارية وأخيراً الى مجلس القضاء الذي نص عليه اتفاق الطائف ولم توضع النصوص التي تضعه موضع التنفيذ.
فقد تضمنت وثيقة الوفاق الوطني حلولاً ترمي الى تسهيل المعاملات الإدارية، وإشراك المواطنين في إدارة شؤونهم دون الاضرار بوحدة الوطن وهي، إذ شددت على دولة مركزية تقوم على وحدة الوطن والشعب والمؤسسات في إطار هوية عربية ووطن نهائي مستقل.
نصت، في الفقرة الرابعة من البند الأول، وتحت عنوان ” اللامركزية الإدارية” على ما يلي:
اعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى “القضاء وما دون عن طريق انتخاب مجلس لكل قضاء يرأسه القائمقام تامينًا للمشاركة المحلية”.
لعل الهاجس الذي أوحى النص المذكورهو هاجس تنمية، هاجس إصلاح للدولة وإدارتها، هاجس تحديث لمؤسسات الحكم بما يكفل إشراك الشعب، بصورة فعلية ومنظمة، في إدارة شؤونه المباشرة.
وريثما يصدر قانون إنشاء مجلس القضاء يحدد صلاحياته ونطاق عمله وطريقة انتخاب أعضائه وكيفية تمويله وسائر شؤونه الإدارية والمالية والتنظيمية، فإننا نرى أن يلحظ قانون إنشائه النقاط الاساسية التالية:
1- تطعيمه بعناصر معينة من أهل الاختصاص ومن رجالات النقابات الحرة بالاضافة الى الأعضاء المنتخبين .
٢ – أن يكون انتخاب أعضاء مجلس القضاء بالتصويت العام المباشر .بمعزل عن أي انتماء ديني أو مذهبي.
٣ – أن يكون الناخبون من المقيمين فعليا في القضاء لا من تقيدت أسماؤهم في لوائح الشطب الخاصة بكل قضاء
٤ – أن يتمتع مجلس القضاء بالشخصية المعنوية وبالاستقلالين المالي والإداري .
5- أن يمارس مجلس القضاء الرقابة على أعمال الوحدات الاقليمية القائمة في القضاء وأن يشرف على تنفيذ الأشغال والمشاريع المقررة للقضاء وأن تشمل صلاحياته كل ما يختص بالعمران والانماء والأشغال والصحة والاسكان والتربية وسواها .
وكلمة أخيرة نقولها، إن اللامركزية أمر لا مفر منه في أية دولة من دول العالم. إنها الوجه الحقيقي للديمقراطية الصحيحة.
فكما يقول أحد العلماء الإداريين:”الحكم الصحيح هو الذي يمارس عن بُعْد، وأما الإدارة الصحيحة فهي التي تمارس عن قرب”.
* ألقى مفوّض قصر العدل في نقابة المحامين في طرابلس المحامي مروان ضاهر هذه المحاضرة يوم الجمعة الواقع في 15 أيلول 2023، أمام حشد من المحامين في دار النقابة. وتتفرّد “محكمة” بنشرها حرفيًا.
“محكمة” – الأحد في 2023/9/17