ملاحظات أوّلية حول تأثير “كورونا” على الجريمة في لبنان/جنان الخطيب
جنان الخطيب*:
على مدار أسابيع قليلة فقط خلال الأشهر الأولى من العام 2020 غيّرت جائحة “كورونا” بشكل جذري طبيعة التفاعل الإجتماعي والنشاط الإقتصادي في جميع بلدان العالم.
وبحلول الأسبوع الأوّل من نيسان 2020 كان حوالي 3,9 مليار شخص يخضعون لشكل من أشكال الإغلاق، أمّا في الأشهر التي تلت ذلك، فقد فرضت البلدان، لا سيّما لبنان، مجموعة واسعة من القيود وقامت بتعديل استجابتها وفقًا لمسار الوباء. وقد أثّرت هذه التغيّرات المستمرّة على جميع جوانب الحياة، والجريمة ليست استثناء.
تهدف هذه الدراسة إلى تقديم ملاحظات أوّلية حول تأثير جائحة “كورونا” على أربعة أنواع من الجرائم: القتل، السرقة، الابتزاز الجنسي، والعنف الأسري، وذلك استنادًا إلى البيانات الصادرة عن شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي والتقارير الصادرة عن بعض المنظّمات غير الحكومية، وتمّ تحديد ومقارنة اتجاهات النشاط الإجرامي قبل وأثناء إجراءات التعبئة العامة من أجل تقييم ما إذا كان للتدابير تأثير كبير على تلك الجرائم.
النتائج الرئيسية
تشير النظريات في علم الإجرام إلى أنّ تدابير الإغلاق يمكن أن تنشّط الآليات المسبّبة لكلّ من الحدّ أو زيادة الجريمة، لا سيّما جرائم العنف والسطو. تؤكّد البيانات التجريبية المقدّمة في هذه الدراسة التأثير المرتفع المتفاوت للجائحة على نسبة الجرائم على المدى القصير بعد اتخاذ تدابير الإستجابة للوباء.
ينصبّ التركيز في هذه الدراسة الخاصة بـ“محكمة” على أربع فئات من الجرائم:
القتل العمد: تظهر الإحصاءات الصادرة عن شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي اتجاهات مرتفعة في عدد ضحايا القتل المسجّلين بعد تطبيق تدابير الإغلاق بنسبة ٨٣٪ مقارنة بين العامين ٢٠١٩ و٢٠٢٠. ففي حين سُجّلت ١٨٣ جريمة قتل خلال عام ٢٠٢٠ سُجّلت١٠٠ جريمة قتل في العام ٢٠١٩، وبلغ معدّل الجرائم في الأعوام الستّة (٢٠١٣-٢٠١٨) ١٢٣ جريمة قتل عمد.
السرقة والسطو: إرتفعت نسبة عمليات السطو والسرقة المبلّغ عنها بشكل كبير بين العامين ٢٠١٩ و٢٠٢٠، بزيادة تفوق الـ ٢٠٠٪. ففي عام ٢٠٢٠ بلغ عدد حوادث السطو والسرقة المسجّلة من قبل السلطات٧٦١٠ ، في حين تمّ التبليغ عن ٢٥٣٤ حادثة خلال عام ٢٠١٩. ومن المرجّح أيضًا أنّ هذه النسبة لا تعكس الإرتفاع الحقيقي والدقيق لجميع حوادث السرقة والسطو المرتكبة. لذلك يصعب تفسير هذه التغيّرات لأنّها تعكس التغييرات في الجريمة نفسها ، وكذلك في القدرة على الإبلاغ وإمكانية الوصول إلى مؤسّسات العدالة الجنائية التي من المرجّح أن تكون قد تأثّرت بالوباء.
إلاّ أنّه على المدى المتوسّط / الطويل قد نشهد ارتفاعًا متزايدّا في هذه الإتجاهات كنتيجة للإنهيار الإقتصادي الذي يكون له تأثير أكبر على الفئات الضعيفة، وبالتالي تشكيل ضغوط إضافية على الأشخاص، الأمر الذي يحدّ من فرصهم في الإستقرار المالي الذي يؤدّي بدوره إلى ارتفاع إضافي في جرائم سرقة الممتلكات في المراحل اللاحقة من “كورونا” أو حتّى بعد زوالها.
الإبتزاز الجنسي: وفقًا لبيانات الأمن الداخلي، تمّ تلقّي ٦٤٥ شكوى تتعلّق بجرائم الإبتزاز الجنسي في العام ٢٠١٩، في حين بلغت عدد الشكاوى ٧٦٩ في العام ٢٠٢٠. تظهر الأرقام ارتفاعًا بنسبة ١٩،٢٠٪ في جرائم الإبتزاز الجنسي مقارنة بين العامين ٢٠١٩ و ٢٠٢٠.
وقد بلغ عدد الشكاوى ٤٣ شكوى في الشهرين الأوّلين من العام ٢٠٢٠، في حين بلغ عدد الشكاوى في الشهرين المتتالين خلال فترة التعبئة العامة ١٢٢ شكوى، أيّ بنسبة ارتفاع ١٨٤٪. لاسيّما خلال شهر آب ٢٠٢٠ حيث أظهرت الإحصاءات ارتفاعًا كبيرًا وخطيرًا في عدد شكاوى الإبتزاز الواردة حصرًا عبر وسائل التواصل الإجتماعي العائدة للمديرية العامة للأمن الداخلي حيث بلغت زيادة ارتفاع ١٠٤،٢٪ بين شهري آب (٩٦ شكوى) وتموز (٤٧ شكوى).
فكما هو معروف، فإنّ الإبتزاز الجنسي هو ابتزاز الأموال أو الخدمات الجنسية من شخص ما عن طريق التهديد بالكشف عن دليل على نشاطه الجنسي من خلال وسائل معيّنة مثل الصور المشوهة. ففي حالات الإغلاق، يدخل الأشخاص في علاقات عبر الانترنت ويتواصلون بالتكنولوجيا لكنّهم ينسون عنصر الأمان . والجدير بالذكر هنا أنّ هذا الإرتفاع أيضًا لا يشكّل الإرتفاع الصحيح لجرائم الإبتزاز المرتكبة لا سيّما وأنّ هناك عددًا من الأشخاص (تحديدًا النساء) لا يرغب في تقديم شكاوى رسمية في هذه الحالات، لأنّه يقلق من الوصمة الإجتماعية المرتبطة بها!
العنف الأسري: أظهرت الأرقام الصادرة عن شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي ارتفاعًا كبيرًا في عدد شكاوى العنف الأسري عبر الخطّ الساخن، كما أفادت أيضًا العديد من التقارير الصادرة عن المنظّمات غير الحكومية التي تُعنى بحماية حقوق المرأة ومكافحة العنف الأسري.
إنّ نسبة ارتفاع شكاوى العنف الأسري عبر الخطّ الساخن بين عامي ٢٠١٩ و ٢٠٢٠ هي ١٤٨٪. ففي حين تمّ التبليغ عن ٧٢٠ شكوى عنف أسري خلال العام ٢٠١٩ إلاّ أنّه بلغ عدد الشكاوى ١٤٨٧ شكوى عام ٢٠٢٠.
وإنّ نسبة الإرتفاع في الاتصالات الواردة من سيّدات معنّفات إلى مراكز الدعم في المنظّمات غير الحكومية كانت ضخمة جدًّا. ففي حين بلغ عدد اتصالات المساعدة ٤٥٠ اتصالًا خلال العام ٢٠١٩، إرتفع هذا الرقم إلى ٩١٠٠ إتصال من سيّدات معنّفات خلال العام ٢٠٢٠.
ففي حين أنّ الحجر الصحّي هو إجراء فعّال لمكافحة العدوى إلاّ أنّه يمكن أن يؤدّي إلى عواقب صحّية، واقتصادية، واجتماعية، ونفسية إضافية على المرأة، لذا فإنّ فيروس “كورونا” والعنف ضدّ المرأة من الأوبئة المترابطة، ويجب أن يهتم نظام الرعاية الصحيّة بهذا السيناريو المأساوي من أجل إيجاد الحلول السريعة لتوفير الرعاية النفسية وخدمات الطبّ الشرعي لضحايا العنف.
كيف يتوقّع أن تتطوّر الجريمة أثناء الجائحة؟
عند دراسة التأثير المحتمل لوباء كورونا على الجريمة، فإنّه من المفيد التمييز بين منظور قصير المدى وآخر طويل المدى. فعلى المدى القصير، يمكن أن تتأثّر الجريمة بقيود الإغلاق بالإضافة إلى العوامل الموجودة مسبقًا مثل وجود الجريمة المنظّمة، العصابات، والوضع الإقتصادي. فلم ترفع الإجراءات التقييدية من فرص ارتكاب جرائم الشوارع فحسب، بل زادت أيضًا من إمكانية اقتحام المجرمين للمنازل الخاصة.
أمّا تدابير التباعد الإجتماعي كإغلاق النوادي والحانات، فلها أيضًا تأثير كبير على العنف بين الأشخاص تبعًا للظروف التي ترتكب فيها هذه الجرائم: كمثل الإعتداء الجسدي خارج النطاق المنزلي. فمن غير المحتمل أن يحدث، إلاّ أنّ هذه التدابير زادت فعليًا من جرائم العنف الأسري. أمّا على المدى الطويل، فقد يؤثّر إغلاق الشركات والبطالة اللاحقة وفقدان الدخل على الجريمة، لا سيّما جرائم الإبتزاز وتلك الهادفة إلى الربح حيث شبكات الأمن الإجتماعي و الإقتصادي ليست كافية لضمان سبل عيش المواطن. علاوة على ذلك، فإنّ النهب وأعمال الشغب يشكّلان خطرًا في المناطق التي يتأثّر بها إقتصاديًا، السكّان غير الراضين عن استجابة الحكومة.
في الخلاصة
إنّ سلسلة عمليات الإغلاق التي فرضتها الحكومة خلال العام ٢٠٢٠ أدّت في جوهرها إلى تغيير معظم الهياكل الإجتماعية، بما في ذلك النشاط الإجرامي.
وقد خلصت هذه الدراسة إلى أنّ قرارات التعبئة العامة أدّت إلى ارتفاع ملحوظ في نسبة الجرائم، إلاّ أنّ هذا الإرتفاع لم يكن متجانسًا. ففي العام ٢٠٢٠، إزدادت جرائم السرقة والعنف الأسري بنسب تفوق الـ١٥٠٪، في حين أنّ جرائم القتل والإبتزاز الجنسي ارتفعت بنسب أقلّ. كما أشارت هذه الدراسة إلى أنّ هذه الأرقام قد لا تعكس الأرقام الواقعية لجميع الجرائم المرتكبة وذلك نظرًا لعوامل عدّة، فقد لا يبلّغ المتضرّرون من بعض حوادث السرقة – كسرقة هاتف أو سلب بعض الأموال- أو بسبب الوصمة الإجتماعية في حال التبليغ عن جرائم الإبتزاز الجنسي أو العنف الأسري!
حتّى وقت قريب، كان البحث حول التأثير المباشر للجائحة على النشاط الإجرامي في لبنان غير موجود، لذلك فإنّ الجهود الجديدة في مجال العدالة الجنائية عليها ملء فجوة المعرفة. من هنا الحاجة إلى توسيع نطاق الدراسات الجنائية في لبنان من خلال دراسة آثار الجائحة على الجريمة في لبنان ودراسة العوامل الجنائية، والإجتماعية، والإقتصادية، والنفسية المتعلّقة بها.
*خبيرة في الأدلّة الجنائية.
“محكمة” – الخميس في 2021/2/4