ملحم خلف: بدء انتفاضة المحامين الكُبرى بعدما طفح الكيل من قضاء مسخّر
النقيب الدكتور ملحم خلف*:
طفح الكيل!
طفح الكيل من قضاء يخاف القوّي ويمارس القوّة على الضعيف!
طفح الكيل من قضاء مسخّر مطواع مسيّر!
طفح الكيل من قضاء متشاوف متعال مكابر!
طفح الكيل من قضاء غير فاعل غير منتج وغير حرّ!
طفح الكيل من قضاء يصرف النفوذ ويذهب إلى حدّ مخالفة القوانين!
طفح الكيل من تقويض القضاء بالمحاباة والمصالح!
طفح الكيل من قضاء أسقط استقلاليته مقابل مراكز طائفية ومذهبية!
إيّاكم التطاول على المحاميات والمحامين!
إيّاكم تجاهل مطالب نقابة المحامين في بيروت!
إيّاكم التعرّض لكرامة المحامين والمسّ برسالتهم والحدّ من دخولهم قصور العدل!
إيّاكم تخطّي الأُصول!
حاولتم إسقاط الجناح الذي يسمو بكم إلى أعلى، فسقطتم من علو في حفرة التناحر والتجاذب والإنقسام!
حاولتم تغطية ضعف ابتعادكم عن استقلاليتكم فتماهيتم مع مَن يُحاول إسقاطكم!
أسقطتم السلطان المعطى لكم واحتفظتم بالسلطة البائسة الفاشلة!
عودوا عن تجاوزاتكم وأخطائكم الآن!
أيّها المحاميات والمحامين الأعزاء،
اليوم، لست بصدد إطلاق موقفٍ أو بيانٍ أو كلماتٍ أو شعاراتٍ، نقف عندها، ويذهب بعدها كلّ واحدٍ منّا في طريقه.
اليوم، الكلام الإعتراضيّ الإحتجاجيّ لم يعد مجديًا أمام التدهور الدراماتيكي السريع على كلّ المستويات.
اليوم، أُطلق نداءً موجّهًا لكلّ فردٍ منكم، بحيثياتٍ وأهدافٍ ومطالبَ واضحة المعالم والأبعاد، يستدعي تعاضدًا مهنيًّا تاريخيًا إنقاذيًّا في لحظةٍ “أبوكاليبتية” يشتعل فيها الوطن.
أيّها الزميلات والزملاء الأحباء،
أُناديكم اليوم،
لتعلموا أنّ نقابة المحامين، منذ أشهرٍ، تُحاول ولا تزال إنقاذ الواقع القضائي المُنهار، ليس حمايةً لقُضاةٍ شجعان شرفاءٍ وحسب،
ليس قناعةً أنّ القضاء هو مَن ينشلنا من واقع أزماتنا المتراكمة وحسب،
بل تحصينًا لقضاءٍ-حجر زاوية الوطن- مِمَن يضربه بشكلٍ ممنهج، ليُسقط مرفق العدالة والوطن في آنٍ.
أُناديكم اليوم،
لتعلموا أنّ ما اختبرناه خلال هذه الأشهر، من معاناة وتجاوز للأُصول من بعض القضاء بحقّ المحامين ونقابتهم، ومِن عدم تعاون بين جناحي العدالة، حملتنا إلى البحث عن أسباب هذه التجاوزات من دون التوقّف فقط عند ظواهرها؛
فثَبُتَ لنقابة المحامين أنّ سببها الأساس هو غياب استقلالية القضاء؛
وبغياب هذه الإستقلالية تربّعت منظومة سياسية أمنية قضائية في قصور العدل حمايةً لمنظومةٍ فاسدةٍ أكبر.
أُناديكم اليوم،
لتعلموا أنّنا من خلال هذا الإضراب منذ أكثر من عشرة أيّامٍ، مددنا اليد إفساحًا في المجال، لهذا القضاء للعودة عن الأخطاء والتجاوزات؛ عبثًا فعلنا، ولم نلقَ إلّا آذانًا صمّاءَ!
مع العلم أنّ نقابة المحامين مُستمرّة في التشدّد في تطبيق قوانينها وأنظمتها على كلّ المحامين من دون أيّ تمييز، ليكونَ المحامون قُدوةً؛
ولن تُغطيّ نقابة المحامين أيّ محامٍ مُرتكب بل تُحاسِب كلّ مَن خالف قَسَمه!
أُناديكم اليوم،
لتعلموا أنّه إذا كان الإضراب وسيلةً للإعتراض والتعبير، دأبت عليه نقابة المحامين عشرات المرّات منذ تأسيسها حتّى اليوم، فإنّ هذه المنظومة تحاول استغلاله للإيحاء أنّ مرفق العدالة متوقّف بسبب نقابة المحامين والمحامين، وليس بسبب غياب كليّ لحدٍّ أدنى من بيئة قضائية سليمة، ولن أسترسل في سرد معاناتنا المأساوية، نحن المحامين والقُضاة والمساعدين القضائيين.
ألم يغِب عن قصور العدل كلّ شيءٍ، مِن إستقلالية قضائية وإستقلالية بعض القُضاة، وصولًا حتّى إلى الطوابع وأوراق المحاضر والكهرباء والصيانة، ناهيكم بالنفايات التي تغزو صروحها؟!
ما هذا الذّل الذي نعيشه!؟
هل نبقى صامتين؟!
أُناديكم اليوم، لتعلموا أنّ، العدالة في خطرٍ على بقائها؛
حين تُنحر العدالة،
حين تُغتال الحقيقة،
حين تُشوَّه مفاهيم القانون،
حين تُدمَّر مسارات الحقّ،
حين يُعطَّل عمل القضاء،
حين يُستكَنف عن إحقاق الحقوق،
حين تُحوَّل أروقة قصور العدل والمحاكم العسكرية إلى مذبحة لاستقلالية القضاء،
حين تُكرَّس أساليب الدولة البوليسية الأمنية،
حين تعود لغة الإنتقام واستيفاء الحقّ بالذات وشريعة الغاب وعدالة القبائل،
حينها لا يعود مِن مكانٍ لتسوياتٍ قاتلة،
حينها تضحى مسؤوليتنا الأخلاقية أنْ نكرّس انتفاضة كُبرى لا هوادة فيها على مَن يصمّم على تدمير الهيكل على رؤوسنا، رؤوسنا جميعًا!
أُناديكم اليوم،
لتعلموا أنّ أيّ إصلاحٍ لواقعنا المرير يبدأ، باستقلالية القضاء، إستقلالية القضاء، ولا شيء غير استقلالية القضاء!
أليس أنتم مِن الناس؟! وأنتم العالمون جيّدًا: أنّه في غياب استقلالية القضاء، تجاوز بعض القضاء كلّ الأُصول مع نقابة المحامين،
أنّه في غياب استقلالية القضاء، مُنع المحامون من مزاولة المهنة بمخالفة صارخة للقوانين،
أنّه في غياب استقلالية القضاء، إعتُديَ على المحامين وعلى الناس وانتُهكت كرامتهم وتمّ سجنهم زورًا، والمُعتدون يُكافَؤون على أفعالهم،
أنّه في غياب استقلالية القضاء، إضطُهد المحامون والناس المُكافحون للفساد،
أنّه في غياب استقلالية القضاء إستشرى الفساد في كلّ وزارات وإدارات الدولة،
أنّه في غياب استقلالية القضاء، ضاعت ودائع المحامين والناس في المصارف،
أنّه في غياب استقلالية القضاء، حُفظت ملفّات الفساد وأُطلق سراح الفاسدين وتبخّرت الأموال المنهوبة،
أنّه في غياب استقلالية القضاء، عاش القضاء الإنتقائي الإنتقاميّ،
أنّه في غياب استقلالية القضاء، إنعدم مبدأ فصل السلطات،
أنّه في غياب استقلالية القضاء، سقط التدقيق المالي الجنائي في مصرف لبنان وفي كلّ مؤسّسات الدولة،
أنّه في غياب استقلالية القضاء، إمّحى العيش الكريم للمحامين والناس،
أنّه في غياب استقلالية القضاء، يُذّل المحامون والناس في طوابيرٍ طويلة تأمينًا للغذاء والدواء والإستشفاء والوقود والكهرباء،
أنّه في غياب استقلالية القضاء، تتعثّر العدالة للمحامين والناس في قضيّة تفجير المرفأ والعاصمة بيروت،
أنّه في غياب استقلالية القضاء، ينهار القضاء بأشكالٍ شتّى، وتنهار معه الدولة!
أُناديكم اليوم،
لتشعروا أنّ القُضاة الشرفاء والشجعان هم إخوتنا في السرّاء والضرّاء، في المعاناة والنضال،
وأنّه في غياب استقلالية القضاء، حُرم هؤلاء القُضاة مِن تشكيلاتٍ قضائية،
وأنّه في غياب استقلالية القضاء، إنتهت، بخطورةٍ جسمية، ولاية أكثرية أعضاء مجلس القضاء الأعلى،
وأنّه مِن واجبنا الأخلاقي أنْ نُناصر قُضاتنا العادلين منهم، في كلّ حين،
وأنّ نقابة المحامين شاركت بكلّ اندفاعٍ في صياغة اقتراح قانون إستقلالية القضاء، المتواجد حاليًا في أدراج مجلس النوّاب؛ ونقابة المحامين أرادته مطابقًا لمعايير الديموقراطية التي ترعاها “لجنة البندقيّة COMMISSION DE VENISE”، بعيدًا عن التعصّب المهنيّ وعن التقوقع المذهبيّ الطائفي الزبائنيّ، وتكريسًا لاستقلالية القاضي والقضاء.
أُناديكم اليوم،
لأُنبّهكم أنّنا نحن والناس أمام أيّامٍ مصيرية!
لبنان الكبير في خطرٍ على الكيان!
الوطن في خطرٍ على الهويّة!
نحن في خطر الموت المُحتَّم!
لن ننكسر!
سنناضل وننتصر!
الفجور النافر في ممارسات تحالفات المنظومة ممنهج!
إنهيار حقوق الشعب ممنهج!
ضرب المؤسّسات الدستورية ممنهج!
ضرب مقوّمات الإقتصاد ممنهج!
ضرب الحماية الإجتماعية ممنهج!
ضرب هويّة العيش الواحد النموذجية ممنهج!
ضرب صلة لبنان بالعالم والمجتمع الدولي ممنهج!
ضرب الدستور ممنهج!
ضرب القوانين ممنهج!
ضرب القضاء ممنهج!
الإنقضاض على الحرّيات العامة وحقوق الإنسان ممنهج!
كلّ ما يحصل، هو قتلٌ متعمّدٌ عن سابق تصوّر وتصميم، وجريمة منظّمة ترقى إلى مستوى الجريمة ضدّ الإنسانيّة، وكلّنا ضحاياها!
أُناديكم اليوم،
لنطلب منكم، أعضاء مجلس نقابة المحامين وأنا،
أنْ نستمرّ في إضرابنا لحين تصحيح العلاقة مع نقابة المحامين والرجوع عن الأخطاء بحقّ النقابة والمحامين، والرجوع عن الخطأ فضيلة،
وأنْ نتجاوز حدّ الإعتراض والصرّخة والرفض،
وأنْ نُعلن بدء انتفاضة المحامين الكُبرى،
حمايةً للمحامين ونقابة المحامين،
وتحصينًا للقُضاة الأنقياء وللقضاء النزيه الكفوء،
وإرجاعًا لقصور عدلٍ لائقة ولعدالة كاملة،
وإحقاقًا لحقوق الناس،
واستردادًا للدولة!
أُناديكم اليوم،
لنُترجم هذه الإنتفاضة بخطواتٍ عمليةٍ نافعةٍ،
إزاء استهداف حقوقنا وحقوق المواطن وحقوق الوطن؛
نحن فرسان العدالة، نحن رُسل الحقّ، نحن أبناء هذا الوطن، معنيّون بتحريره من مخالب الظلام، لنُعيد بعضًا من نوره المخطوف في لحظةِ صمودٍ، تمهيدًا لشعلةٍ يتوهجّ فيها لبنان الرسالة مجدّدًا.
نحن في وقفة ضميرٍ نريد فيها أنْ نُعلن بالصوّت العالي أنّنا في نقابة المحامين لسنا في انكفاءٍ عن العدالة ولا عن الشأن العام، بل نحن في مواجهةٍ مع مَن فتّت السلطات والمؤسّسات والخير العام، مواجهةً مفتوحةً!
لكّل ذلك،
أوّلًا، نناشد كلّ اللبنانييّن للإلتفاف حول هذه الإنتفاضة الكُبرى كقوّة مُجتمعيّة حيّة مُتراصّة متضامنة جامعة، رفعًا للظُلم والظلام عنّا جميعًا، وتحقيقًا للعيش الكريم.
ثانيًا، ندعو نقابة المحامين في طرابلس-وهي لم تُقصِّر يومًا-، وندعو القضاة، للإنضمام إلى هذه الإنتفاضة لنحقّق سويًا المطالب المُحقّة المنوّه عنها في هذا النداء ولانتظام العمل القضائي وتفعيله.
ثالثًا، نُعلن الخُطوة الأُولى من هذه الإنتفاضة بدعوة المعنيين لإقرار اقتراح قانون إستقلالية القضاء فورًا في مهلة لا تزيد عن عشرين يومًا، على أنْ تُعلَن الخطوات اللاحقة في الأيّام الآتية.
في حال، عدم دخول هذا القانون حيّز التنفيذ،
لا أحد يلومنّ المحامين إذا أقفلوا جميع قصور العدل على كلّ الأراضي اللبنانيّة، ليس إيقافًا لمرفق العدالة بل إيقافًا للّاعدالة! والسلام.
*ألقيت هذه الكلمة في اللقاء الحاشد لنقابة المحامين في بيروت في قاعة “الخطى الضائعة” في قصر العدل في بيروت ظهر يوم الثلاثاء الواقع فيه 8 حزيران 2021، إستكمالًا للإضراب المستمرّ منذ أكثر من عشرة أيّامٍ. وتولّى أمين سرّ مجلس النقابة المحامي سعد الدين الخطيب تقديم النقيب خلف.وتخلّل هذا اللقاء وضع مجلس النقابة إكليلًا من الزهر على نصب القضاة الشهداء الأربعة حسن عثمان ووليد هرموش وعماد شهاب وعاصم بو ضاهر، والوقوف دقيقة صمت إجلالًا لأرواحهم الخالدة.
“محكمة” – الثلاثاء في 2021/6/8