ملعقة صغيرة لتحريك جبل من الرمال(عن السجون في لبنان)/رجا أبي نادر
القاضي رجا أبي نادر*:
منذ السنوات الأولى التي بدأت فيها العمل في وزارة العدل على السعي إلى تطوير نظام السجون في لبنان وتحسين أوضاعها، كانت هناك لحظات سعيدة ولحظات حزينة، بعض النجاحات وعدد لا بأس به من الإخفاقات، وكثير من الإحباط والقلق والغضب… ولكن كنت أسعى دائماً إلى إحداث فرق فعلي، وإلى أن أكون عاملاً للتطوير والتغيير نحو الأفضل. أما الدافع الأهم بالنسبة إليّ، فكان اغتنام هذه الفرصة للمشاركة والتعلّم والنمو.
كنت محظوظاً لأنني اكتسبت مهنياً، طوال هذه السنوات، أربعة دروس رئيسية:
• الدرس الأول: ليس هناك ما هو أكثر قداسة أو قيمة لأي فرد من حريّته وحقّه في العيش بكرامة.
• الدرس الثاني: يمكن لأيّ منا، في أي مجتمع، في أي لحظة من الزمن ولأي سبب، سواء أكان مبرراً أم لا، أن ينتهك القواعد الاجتماعية ويصبح سجيناً. ولا يفترض أبداً أن يكون السجن نهاية المطاف، بل ينبغي أن يشكّل نقطة تحوّل وانطلاق جديدة.
• الدرس الثالث: إن هدف العدالة الجنائية لا يقتصر على وضع أشخاص خلف القضبان، بل إن الهدف الأساسي لأي نظام إصلاحي، في أي مكان في العالم، هو حماية المجتمع، ويتحقق ذلك عبر إعادة التأهيل، وإعداد السجناء لإعادة الاندماج في المجتمع.
• الدرس الرابع: إن العمل في السجون هو عمل نضالي شاقّ وغير معترف به. إذ يُكلّف المتخصصون في الإصلاحيات بمسؤوليات صعبة بينما لا يحظى هؤلاء بالتقدير ولا يُعترف بجهودهم في الخدمة العامة. بعبارات أكثر وضوحاً، غالباً ما شعرنا وكأننا نستخدم ملعقة شاي صغيرة لتحريك جبل ضخم من الرمال، لنكتشف لاحقاً أن شخصاً ما يسكب الرمال على قمّته في الوقت نفسه.
يواجه نظام السجون اللبناني عدداً من التحدّيات منذ سنوات، وقد تفاقمت تلك التحدّيات أخيراً بسبب الأزمة الاقتصادية التي تواجهها البلاد، والتي أثّرت في كل لبناني، خصوصاً بين الفئات الضعيفة، مثل السجناء في ظل الاكتظاظ والبنية التحتية المتداعية لمنشآت السجون وسوء الظروف المعيشية والخدمات الطبّية الهشّة وعدم كفاية المواد الغذائية.
يتوزع 25 سجناً على مختلف أنحاء البلاد، وتضاف إليها تسع نظارات تقع داخل مباني المحاكم. ويحتجز حالياً أكثر من 1000 سجين في المخافر ومراكز الشرطة لعدم وجود مكان لهم في السجون.
يبلغ عدد نزلاء السجون الإجمالي في لبنان حالياً نحو 9000، ونحو 200 امرأة و120 حدثاً.
أما نسبة السجناء الأجانب، فتصل إلى 40% من مجموع السجناء.
بوجود تشريع قديم عفا عليه الزمن، يعود تاريخه إلى منتصف القرن الماضي (المرسوم الرقم 14310 لعام 1949)، يعدّ نظام السجون اللبناني، الذي تديره وتشرف عليه «مؤقتاً» (منذ أكثر من خمسين عاماً) قوى الأمن الداخلي التابعة لوزارة الداخلية، نظاماً مترهلاً وعديم الفعالية وخارج نطاق عمل المؤسسات.
وقد أدى النقص الحاد في الموارد وغياب السياسات الإستراتيجية الإصلاحية إلى تراجع وضع السجون، حيث تدهورت البنية التحتية كثيراً وضعفت الرعاية الصحية الجسدية والعقلية، وارتفعت مستويات الفساد، وقلّت برامج إعادة التأهيل والتربية والتدريب الحرفي وباتت محدودة، وغاب أي تقييم دقيق لسلوك السجناء، كما غاب أي تصنيف دقيق لهم ولمتطلبات إصلاحهم.
وفي ظل الاكتظاظ الشديد الذي يصل إلى نسبة 300%، فإن أكثر من 65% من السجناء لم تصدر حتى اليوم أحكام قضائية نهائية في حقهم.
وتعود أسباب الاكتظاظ الخانق في السجون إلى بطء النظام القضائي ونقص حاد في الموارد، وميزانية محدودة جداً. أضف إلى ذلك، إرهاق القضاة والعاملين في الدوائر القضائية، ووجود قوانين تسمح بالتوقيف الاحتياطي إلى أجل غير مسمّى في بعض الحالات.
وبسبب ذلك كله، والافتقار الشديد إلى نظام المراقبة القضائية والتدابير البديلة عن الاحتجاز، يواجه السجناء تأخيراً قد يطول إلى أكثر من عام لمجرد صدور الحكم في حقّهم. يشكل ذلك أربعة أضعاف متوسّط مدة الانتظار في أوروبا على سبيل المثال.
وإلى هذه التحدّيات الرئيسية التي يواجهها القضاء اللبناني، لا بد من الإشارة أيضاً إلى:
• غياب المكننة والرقمنة، والخلل في التواصل والتنسيق، وعدم وجود إدارة موحّدة للقضايا.
• تدنّي أجور الموظفين المدربين وإحباطهم.
• النقص الحاد في التدريب والتجهيز.
• عدم تحديث القوانين التي باتت قديمة أو ناقصة، أو غامضة، خصوصاً في مجالات الإجراءات الجنائية. ونشير هنا إلى الحاجة الى تعديل قوانين المخدرات، والحاجة إلى تطوير قوانين التدابير البديلة عن التوقيف والعقوبة.
في هذا السياق المظلم جداً، تظهر بعض المبادرات الإيجابية الهادفة إلى حماية حقوق الإنسان في السجون وتحسين الظروف المعيشية الصعبة على مختلف المستويات. ومن بين تلك المبادرات، إنشاء «مجموعة العمل المعنية بالسجون» التي تضمّ عدداً من الجمعيات والهيئات الحقوقية إلى جانب ضبّاط من قوى الأمن الداخلي ومسؤولين من وزارتَي العدل والداخلية. فالمجموعة هي منصّة تنسيق مشتركة بين المعنيين بالسجون، وقد أتاحت لنا المشاركة في حوارات بنّاءة ومباشرة بهدف تحديد القضايا الأساسية والتوصل إلى حلول مبتكرة. وسعت المجموعة إلى استعادة بصيص أمل إلى من فقدوا الأمل. إنها مبادرة رائدة حقاً، لا بدّ من دعمها واستدامتها.
* القاضي المشرف على مديريّة السجون في وزارة العدل.
* المصدر: ملحق” القوس” الصادر عن جريدة الأخبار.
“محكمة” – السبت في 2023/10/7