مقالات
منيف حمدان … تاريخ مشرّف من النضال والكفاح والعلم/ناضر كسبار
ناضر كسبار(نقيب المحامين السابق في بيروت):
لا يمكنك وأنت تتكلم عن علم وفن المرافعة، إلا وأن تذكر في الطليعة القاضي والمحامي الدكتور منيف حمدان. فهو كان يعتبر ان القضاة والمحامين فريقان من الفرسان العلماء، لا يتزاحمان إلا على قلب ربة العدالة تيميس، ولا يستعملون من السلاح إلا سرعة الخاطر والكلمة الحلوة والنكتة اللاذعة والموقف – القرار. فهو كان فارساً مثلهم، وإبن بجدتها مثلهم، ومجرباً في الكر والفر مثلهم، وقادراً على ربط الزمان من قرنيه، وعلى فك طلاسم عبوسه، وتحويل مرارته الى شهد، وكبواته الى استشراق، وقنوطه الى أمل وثاب.
منيف حمدان، رجل اطل على المجتمع اللبناني، قاضياً مدافعاً عن المظلومين، مستشرساً في إظهار الحقيقة في كل ملف يعرض أمامه، خصوصاً يوم كان محامياً عاماً في بيروت، وقبل ان يتبوأ منصب رئيس غرفة الجنايات.
منذ عدة ايام، كتبت مقالة بعنوان: منيف حمدان…على يمين القوس. في هذا الكتاب نجد شخصية الدكتور حمدان العالم، الثائر، المتمرد على كل شيء والذي يرفض الامرالواقع.
نراه واقفاً كالرمح في وجه كل الصعوبات وكل المشاكل. يعطي الدروس والعبر، ينبّه الى الشوائب والتدنّي في المستوى الأخلاقي. يرفض مقولة ان الوضع هكذا ولا يمكن تغييره فينتفض وهو الفخور بلبنانيته وبأرزاته ويدعو الى التمرد على هذا الواقع.
ترى فيه هذا الانسان الصادق، النزيه، الشجاع.
فهو يرفض الظلم والواسطة. يمارس الشفافية بشفافية كاملة وليس بتزلف كما يفعل البعض في هذه الايام فيتلطون خلف اصبعهم وينعتون انفسهم بالصادقين.
يتحلى بالجرأة فيقول ما له وما عليه، ألم يترافع مرة في محكمة الجنايات يوم كان محاميا عاما ضد نفسه؟ ألم يترافع منيف حمدان ضد منيف حمدان؟ لماذا؟ لانه علم بوجود مستند في الملف كان في احدى طياته وبعد ان طلب إنزال عقوبة الاعدام بالمتهم، عاد ووقف وترافع بعد ظهور المستند وطلب اعلان براءته.
في كتابه “على يمين القوس”، تبرز شخصية منيف حمدان الفذة من خلال مرافعاته امام محكمة جنايات القتل في لبنان ومواقفه من مختلف القضايا المطروحة فيتكلم عن واقع المحاكم والقضاة والنيابات العامة والمحامين، وعن بيروت ام الشرائع، ويتكلم عن استبدال قانون اصول المحاكمات الجزائية بقانون الشرفاء.
في كتابه يعرّف الانتحار والصداقة والحب والاعدام، والدفاع المشروع ومرض البارانويا، ويبرز فلسفة المتهمين خلال استجوابهم وينتقد بعض آراء الاطباء النفسيين، ويتساءل عما اذا كانوا اقوى من النيابة العامة.
في الصفحة 85 من كتابه يقول الدكتور حمدان في احدى مرافعاته:
“ايها الزملاء
آن الاوان لأعلن أمامكم
ان النيابة العامة القديمة ماتت
وماتت معها خصومتها الدائمة للمتهم
وصارت نصيراً عنيداً لكلّ حقّ
أكان هذا الحق هنا الى جانب المدعي
أم كان هناك الى جانب المكبل بالاصفاد
وما وقوفي هنا
على يمين المحكمة ويسار الادعاء
الا غلطة نجار خبير
اطلعوه على ملف الاقوال في التاريخ…”.
بعد نشر المقالة، استغربت عدم اتصاله بي وهو الذي يملك من اللباقة واللياقة وكرم النفس، الكثير الكثير. إلا ان اتصال زوجته بي الزميلة الاستاذة فاديا متري وقولها انه في المستشفى في العناية الفائقة، بدّد شكوكي بأنه يمكن ان يكون قد تغير. حزنت حزناً شديداً شأني شأن جميع من عرفه عن كثب.
نعم. هكذا، وفي اسرع من وجع النفس، سكت الصوت العالي، وسكن العصب الثائر، وهدأ الذهن المتوقد، ووقف القلب الكبير.
نعم. هكذا انتهت فصاحة النطق، وغزارة الفضل، وثبات الجاش، ونزاهة النفس. واصبح الدكتور منيف حمدان نعياً ووجعاً يتمدد في وجع ويزيد عليه. وفي لحظة، صمت الروض الغرد وسكنت الدنيا اللاعبة، وقبح الوجود الجميل.
في مسرحية بترا، يصدح صوت نصري شمس الدين:”مبارح انا ودعتهم كانوا شباب..”. ويسأل: كيف بدقيقة الناس بيخلصوا؟. إلا ان الجواب اتاه فوراً من السيدة فيروز: “أتاري الاحبة عا غفلة بيروحوا وما بيعطوا خبر”.
حزننا كبير جداً على رحيل الدكتور منيف حمدان. كأنه رحيل الحياة. رحيل تاريخ مشرّف من النضال والكفاح والعلم، وان كنا على يقين ان التراب يدفن كل شيء الا تاريخ ونضال الرجال ومواقفهم المشرفة. فالدكتور منيف حمدان من البحارة الكبار الذين لا يموتون، بل فقط لا يرجعون.
رحمه الله.
“محكمة” – الأربعاء في 2024/12/4