مقالات
منيف حمدان…على يمين القوس/ناضر كسبار
ناضر كسبار(نقيب المحامين السابق في بيروت):
تحتار وانت تكتب عن القاضي السابق المحامي الدكتورمنيف حمدان. بماذا تناديه: بالعالم؟ وبالاديب؟ بالفارس الشجاع؟ بالحليم؟ بالشفاف؟ بالصادق؟ أم تناديه بها كلها؟
لدى قراءتنا لكتابه على يمين القوس بجزأيه فوجئنا بهذا السيل العارم من المعلومات القانونية والعامة في مختلف المواضيع لدرجة اننا سألنا عن هذا المخزون من المعلومات وكيف تم جمعه في كتاب من جزأين.
فعندما يبدأ الدكتور حمدان بعرض واقعة معينة، ينتقل الى اخرى ثم يبتعد ويبتعد ويبتعد ليعود تدريجياً الى الواقعة الاساسية وهو ممسك بزمام الامور. وبين الواقعة والواقعة يشرح، ويعطي أمثلة ويخبر اخباراً قديمة وجديدة. ويعرف الحب والصداقة والانتحار. ويستشهد بالعظماء والكبار فيحس القارئ ان رأسه قد امتلأ بالمعلومات القيّمة وانه لم يعد قادراً على استيعابها الا اذا ارتاح قليلا.
هذا الاسلوب الذي ينم عن ذكاء وسعة معرفة وخبرة، هو اسلوب معلمنا في كلية الحقوق في الجامعة اليسوعية المحامي البروفسور جورج خديج الذي كنا نتهافت لحضور محاضراته للاستفادة منها في مختلف المجالات القانونية والحياتية.
***
في كتاب على يمين القوس نجد شخصية الدكتور حمدان العالم، الثائر، المتمرد على كل شيء والذي يرفض الامرالواقع.
نراه واقفا كالرمح في وجه كل الصعوبات وكل المشاكل. يعطي الدروس والعبر، ينبّه الى الشوائب والتدني في المستوى الاخلاقي. يرفض مقولة ان الوضع هكذا ولا يمكن تغييره فينتفض وهو الفخور بلبنانيته وبأرزاته ويدعو الى التمرد على هذا الواقع.
ترى فيه هذا الانسان الصادق، النزيه، الشجاع.
فهو يرفض الظلم والواسطة. يمارس الشفافية بشفافية كاملة وليس بتزلف كما يفعل البعض في هذه الايام، فيتلطّون خلف اصبعهم وينعتون انفسهم بالصادقين.
يتحلّى بالجرأة فيقول ما له وما عليه، ألم يترافع مرة في محكمة الجنايات يوم كان محامياً عاماً ضدّ نفسه؟ ألم يترافع منيف حمدان ضد منيف حمدان؟ لماذا؟ لانه علم بوجود مستند في الملف كان في احدى طياته وبعد ان طلب انزال عقوبة الاعدام بالمتهم، عاد ووقف وترافع بعد ظهور المستند وطلب اعلان براءته.
في كتابه على يمين القوس تبرز شخصية منيف حمدان الفذة من خلال مرافعاته امام محكمة جنايات القتل في لبنان ومواقفه من مختلف القضايا المطروحة فيتكلم عن واقع المحاكم والقضاة والنيابات العامة والمحامين، وعن بيروت أمّ الشرائع ويتكلم عن استبدال قانون اصول المحاكمات الجزائية بقانون الشرفاء.
في كتابه يعرّف الانتحار والصداقة والحب والاعدام، والدفاع المشروع ومرض البارانويا ويبرز فلسفة المتهمين خلال استجوابهم وينتقد بعض آراء الاطباء النفسيين ويتساءل عما اذا كانوا اقوى من النيابة العامة.
1- في الصفحة 85 من كتابه يقول الدكتور حمدان في احدى مرافعاته
…ايها الزملاء
آن الأوان لأعلن امامكم ان النيابة العامة القديمة ماتت، وماتت معها خصومتها الدائمة للمتهم وصارت نصيراً عنيداً لكل حق، أكان هذا الحق هنا الى جانب المدعي، أم كان هناك الى جانب المكبل بالاصفاد. وما وقوفي هنا على يمين المحكمة ويسار الادعاء الا غلطة نجار خبيراطلعوه على ملف الاقوال في التاريخ.
2- ويتكلم عن بيروت، فيقول في الصفحة 99:
…بيروت، تلك العاصمة المغرورة، والتي يحق لها ان تكون مغرورة بما وزعت من مناقب، وما نشرت من كتب، وما استقطبت من ادباء ومفكرين وشعراء وبما تختزن من قيم الجدود وبكمية النور التي تسكبها في سماء الكون من غير ملل، وتترجمها حرية بلغت حدود الفوضويات وعشقا لكل جديد كاد ان يعقد باريس، وصحافة رفعت الى مرتبة السلطة الدستورية. وصروحا علمية جاوزنا فيها الاثم البابلي وعلما نازل علم الغرب في مستواه وحماسة لقضايا الكون العادلة شدت بنا الى قنات النسور وكرستنا الامة الوحيدة التي يحق لها ان تكون في هذا الشرق امة.
3- وها هو يتكلم عن قضية معقّدة حاول فكّ رموزها فتعب كإنسان ولم يتعب كقاض فيقول:
ان كثرة الاسئلة في هذه القضية أتعبتني كإنسان، لكنها لم تتعبني حتى الان كقاض عشق القيم من دون حدود، واحترق في أتونها حتى استقوى على كل احتراق، فأدرك أنّه لا أبهى من العدالة، ولا أصدق من الحقيقة، ولا أبقى من راحة الضمير، ولا أصعب من بلوغ هذه، وكشف تلك، وتأمين التي سبقت.
عاطفة الامومة
يرتكز الدكتور منيف حمدان على عاطفة الامومة ويستنكر كيف يمكن لام ان تقتل فلذة كبدها لأنّ في ذلك نهاية العالم. فيقول انه سمع عن كثيرين يقتلون الكثيرين من الاهل والاقارب والاصدقاء ولكنه لم يسمع ان اما قتلت ابنها، ويضيف مستشهدا برائعة ابراهيم المنذر:…ان من كانت الجنة تحت اقدامها، لا يمكن ان تقدم على قتل النصف الاحلى من زينة الحياة الدنيا…الم تقرأ هي؟ الم يقرأ قضاتنا؟ الم تقرأوا انتم، يا جيل الحرب، كيف صور الشاعر اللبناني ابراهيم المنذر عاطفة الام نحو ابنها؟
ان ابراهيم المنذر قال:
اغرى امرؤ يوماً غلاماً جاهلاً بنقوده حتى ينال به الوطر
قال: ائتني بفؤاد أمّك يا فتى ولك الجواهر واللآلئ والدرر…
فمضى واغمد خنجراً في صدرها والقلب اخرجه وعاد على الاثر
يا ويح ما فعل الغلام! كأنه من دون قلب او له قلب حجر….
لكنه من فرد سرعته هوى فتدحرج القلب المقطع اذ عثر
ناداه قلب الام وهو معفر: ولدي حبيبي، هل اصابك من ضرر؟
***
ويصف الدكتور حمدان نفسه في احدى مرافعاته امام محكمة الجنايات يوم كان محاميا عاماً فيقول:
انا قاض وصاحب رسالة
اعرف ما تعنيه هذه الكلمة
واعرف ما تعنيه الرسالة…
في مكتبي اعرف ذلك
وعلى يمين القوس اعرف ذلك
وفي كل تصرفاتي اعرف ذلك…
فالثوب هويتي
الميزان رمزي
والسيف شهاداتي
والقانون دليلي
والعدالة كل رصيدي…
***
لولا براءته…
ويتحمس الدكتور حمدان لبراءة متهم لانه لم يجد اي دليل ضده في الملف فيقول:”هل احرق باللظى ثوبي واترك منصة القضاء مستقيلاً تنفيذاً لعزم عقدته منذ اسبوع؟ ام ابقى رغم الملمات ها هنا لامسح الحزن عن وجوه المظلومين وامد يد العون لفلول المقهورين”.
ويضيف:إن براءة مدهش ابي الدهايش، بأعلى صوتها تناديني:
حلفتك بأغلى ما تحب
يا حضرة النائب العام
لا تحرق ثوبك قبل اطلاق سراحي
ولا تقدم استقالتك قبل رجوعي الى بيتي
ولا ترجع الى عيالك قبل ان اعود الى عيالي
ليتك تطلب اصدار الحكم الان وليس غدا
فتقر عيون المظلومين مثلي
وتبقي على ايمانهم بعدالة القضاء اللبناني
فتثبت ان قضاة لبنان اشجع من قضاة برلين.
لبيك…لبيك با براءته!
لن احرق اليوم ثوبي ولن استقيل
وها انا اطلب بأعلى صوتي
اعلان براءة صاحب البراءة نمر محمد مصطفى الفلسطيني
وارجو من المحكمة الموقرة ان تصدر الحكم فور ختام المحاكمة
فهل تسمعين با براءته؟!
***
والقاضي السابق المحامي الدكتور منيف حمدان كان ولا يزال من اهم المترافعين في الدعاوى الجزائية، سواء يوم كان محامياً عاماً يقف على يمين هيئة محكمة الجنايات في بيروت، أو يوم اصبح محامياً.
البراءة للمتهم
وقف في احدى الدعاوى الشهيرة يطلب البراءة لمتهم فقال:”ان كل ادلة الاتهام…لا تبرر قتل عصفور بيد قناص في غابة نائية من غابات الامازون، فيكف تبرر قتل رجل باسم العدالة في وطن عمره ستة آلاف عام، وفيه قضاة اشجع من قضاة برلين دون ان ينكرنا حرف جبيل، ودون ان تنكرنا كلية الحقوق في بيروت، ودون ان نطرد من مؤسسات الامم المتحدة ودون ان يعلق ارز الرب الحداد”.
“محكمة” – الأربعاء في 2024/11/20