من الصعب تكرار القاضي عبد الله ناصر
كتب علي الموسوي:
بعدما انتبهت متأخّراً كثيراً إلى أهمّية القاضي عبد الله ناصر وأنا الحاضر في قصور العدل وشؤون أهلها منذ العام 1997، على اثر سماعي الكثير عن هذا الرجل واللمسات العديدة التي تركها، سواء في ما نظر من ملفّات، أو في ما اعتلى من مناصب رفيعة شغلها بامتياز وحرفية العارف والخبير والحكيم، قلت في سرّي ليتني أدركته قبل تقاعده لعلّني أكتسب خبرة إضافية في طريقة التعاطي مع الدعاوى ومقاربتها بنظرة الواثق، وأستزيد معرفة قانونية تعطي لما أكتبه من تحليل لقرارات اتهامية وأحكام ومراجعات قضائية في عملي الصحافي، بُعْداً أوسع يضفي عليها مصداقية أكبر، ممّا يوسّع شريحة القرّاء ويقرّبهم أكثر منها، ونحن معشر الصحافيين لا نريد سوى الوصول إلى أكبر عدد من الناس، وهذا بحدّ ذاته، رصيد يربح ويريح.
وعندما شرعت في العام 2007، بنشر “بورتريهات” في صحيفة ” السفير” اللبنانية، لشخصيات قانونية من قضاة ومحامين أفذاذ تركوا بصمات ولمسات مؤثّرة في أعمالهم، قصدت عبد الله ناصر في مكتبه الخاص بالمحاماة في محلّة مار إلياس في بيروت، وجالسته ما يزيد على الساعة ونصف الساعة من دون أن نشعر معاً بالوقت يمرّ ويطوي ثوانيه، فأخبرني أموراً كثيرة عن خبايا ما كان يحصل معه في ديوان المحاسبة حيث كان بعض الوزراء الطامعين بالتكسّب من صفقات يعقدونها في وزاراتهم من دون المرور بمراقبة ديوان المحاسبة الضرورية لعنوان الشفافية والمصداقية والنزاهة، يتحايلون على القانون بالتواطؤ في ما بينهم في مجلس الوزراء لتمرير المشاريع والصفقات والحصص، لأنّه يمكن لمجلس الوزراء أن يكسر قرار ديوان المحاسبة الرافض لعمل ما نتيجة اقتناعه بأنّه غير مجدٍ أو يُشتمّ منه رائحة كريهة، ويوافق على ما يريده الوزير وبما يحقّق له رغباته، وكان هذا العمل تجنّياً على الدولة وأموالها، وبدلاً من أن يكون مجلس الوزراء أكثر حرصاً ودقّة ومراجعة ومراقبة من ديوان المحاسبة، كان يلغي قرارات الأخير، ويقبل بما يتفق الوزراء في ما بينهم على تناوله وتقاسمه، ضارباً بعرض الحائط، أهمّية قيام دولة المؤسّسات والقانون التي يتغنّى المسؤولون بها في خطاباتهم وتصاريحهم ومواقفهم وكلماتهم، ولا يقاربونها قيد أنملة، بل يتجنّبونها كمن يتجنّب لسعة النار خشية إحراق نفسه.
ونزلت عند طلب القاضي ناصر بعدم كتابة حرف واحد ممّا كاشفني به عن وزراء وصفقاتهم المشبوهة، وهو قدّم أمثلة كثيرة وواقعية عن عيّنة من هؤلاء الوزراء الذين كلّما سمعت أحدهم يتحدّث عن النزاهة والأخلاق والأدب والقانون، ضحكت عليه وسخرت منه، لأنّه يريد أن يعطي صورة مغايرة عمّا يفعله في كواليس السياسة وفي الخفاء وهو ما يندى له الجبين. يتكلّم على الوفاء والشرف ويقدّم نموذجاً حيّاً عن الفاسد الذي لا يريد وجود الدولة، بل يحبّذ عليها ويفضّل المزرعة، لأنّه اعتاد سرقة الحليب، وليس تربية البقرة لكي تدرّ عليه وعلى عائلته التي هي الشعب اللبناني برمّته، الحليب.
فكم من وزير اصطنع أهراماً لمنتج زراعي في غير المنطقة التي ينبت فيها هذا المنتج، ظنّاً منه أنّه لا يمكن اكتشاف حيلته، ولتوهّمه بأنّه اللبناني الوحيد الذي يعرف بهذا الشيء المكشوف أساساً وغير السرّي، ولكنّ عبد الله ناصر اليقظ على الدوام، كان له بالمرصاد، فأوقف مشاريعه الواهية والوهمية على حساب خزينة الدولة، وطلب استفسارات للمذكّرات المرفوعة إليه تمهيداً لنيل موافقته، ووصل الأمر به، وهذا حقّ من حقوقه وواجباته، إلى استدعاء الوزير المسؤول عن هذا المشروع، أو الملفّ، ولم يكن أمام الوزير المعني سوى التهرّب من مواجهة ناصر وكمائنه القانونية النابعة من ضرورة الحفاظ على استمرارية الدولة وحرصه الزائد على حمايتها، وإرسال مدير عام وزارته بالنيابة عنه لتخفيف الخسارة المعنوية على الأقلّ، ليسقط المدير العام أمام سيل الأسئلة التي يرميها عبد الله ناصر في وجهه منتظراً منه أجوبة شافية وكافية عليها، تقنعه في الدرجة الأولى بأهمّية المشروع وصوابه وأحقّية نيله الموافقة وإعطائه الحياة.
غير أنّ الوزير المعتاد على الفساد والمصمّم في قرار نفسه بأن ينهب من أموال الدولة، كان يسعى إلى تجاوز ديوان المحاسبة والالتفاف على قراراته المحقّة، عبر إرضاء رئيس الحكومة، أو مجموعة الوزراء الموجودين معه على طاولة الاجتماعات، حيث يجري تمرير الصفقة بما يعود بالفائدة المالية على الوزير المختص، وهذا دليل على أنّ بناء دولة القانون والمؤسّسات ما هو إلاّ شعار زائف يتخفّى خلفه كثيرون من المسؤولين لتنفيذ مآربهم وجمع الثروات على حساب المواطن.
لقد كان لدى الرئيس عبد الله ناصر، هدوء ينعش القلب ويمتع جالسه وسامعه إلى حدّ الاستئناس ونسيان الوقت، ولكنّه عند اشتداد المعارك والنقاشات حول مسألة ما، كان ينقلب إلى مدافع عنيد عن وجهة نظره، فيظلّ حارساً لها ومقدّماً الإثباتات المنطقية التي تدعمها حتّى يقنع سائليه أو مناقشيه بها.
وقد ساعده هذا الاسترسال في إعطاء الوصفات القانونية العلاجية للقضايا الشائكة والمضنية والمعقّدة، في إتحاف المكتبة القانونية بالاجتهادات والقرارات المميّزة التي صارت ماركة مسجّلة باسمه وعلامة فارقة في مشواره بين أهل العدل، كما عاونه هذا الدفق الشافي في انتشال المحاكم من الغرق في رتابة العمل، وأعطاها دفعاً معنوياً قوّياً للخروج من النمطية إلى ما هو أسمى من مجرّد الكتابة واللفظية والاكتفاء بتحبير الأوراق البيضاء، فالقصد هو استشراف قضايا الناس ومعالجتها بالتي هي أحسن، أيّ بالحكمة والموعظة الحسنة، والغاية هي التطوير والإصلاح، وليس العقاب والإكثار من السجون، لكي يظلّ القضاء في نهاية المطاف، ملجأ الناس ومحرابهم لحلّ أمورهم.
رحم الله عبد الله ناصر الذي قلّما تجود قصور العدل بأمثاله، ويصعب تكراره، لأنّ الرجال المميّزين والنوابغ، يولدون مرّة واحدة في هذه الدنيا.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 19 – تموز 2017).