مهدي حيدر لـ”محكمة”: أجد نفسي كمحام أثناء المرافعة وكأديب كلّ الوقت وكتبت “إبن البلد” للإذاعة و”الإنفجار” للسينما/علي الموسوي
حاوره علي الموسوي:
يحضر باكراً جدّاً إلى عدلية بيروت متأبّطاً حقيبة جلدية يوضّب فيها ملفّاته وما قد يستجدّ منها في بحثه عن حياة إضافية، ويركن إلى الطاولة الأولى من الجهة اليمنى في أوّل “الكافيتريا” يرتشف قهوته، ويقرأ الصحف اليومية وينكبّ على حلّ الكلمات المتقاطعة التي يستعيد المرء معها قاموسه اللغوي ومعلوماته الثقافية بانتظار توافد الأصدقاء حاملين معهم مشاكساتهم ونكاتهم وتعليقاتهم على السياسة اللبنانية اليومية مع ما تتضمّنه من سلبيات تفوق الإيجابيات.
ولمن لا يعرف المحامي مهدي أحمد حيدر، فهو أديب وقاص له صولات وجولات في الكتابة الإذاعية والتلفزيونية والسينما، ولعلّ أشهر أعماله برنامج “إبن البلد” الذي اشتهر خلال الحرب اللبنانية بانتقاده الساخر ولسعاته المرّة، كما أنّه محام جزائي يعرف أهميّة المرافعة في وجدان العدل.
“محكمة” إلتقت إبن مدينة بعلبك المحامي حيدر حيث كانت جولة في الحياة واليوميات والأدب والمحاماة:
• كيف تعرّفت إلى الكتابة الأدبية؟ وماذا يعني لك أن تكتب قصصاً قصيرة؟
كان أبي أحمد حيدر شاعراً، وله ديوان “اللهب الأخضر”، كما أنّه كان صحافياً كتب في أكثر من جريدة، منها عامود في صحيفة “صوت العروبة” كان يذاع في إذاعة “صوت العروبة” في القاهرة، وفي صحيفة “اللواء” بعنوان “ملح على جرح”، وكذلك في الإذاعة اللبنانية، وكان مربّياً يدرّس تلامذة البكالوريا في مدرسة “بابا رشاد”، وكانت لديه مكتبة أدبية لا بأس بها، لذلك كنت أشعر دائماً أنّني تربّيت في بيت يحيط به الأدب من كلّ جانب، وكان يعطينا أنا وإخوتي خمسة قروش عن كلّ بيت شعر نحفظه ويعطينا في كلّ يوم قصيدة من عشرة أبيات حتّى إذا ما حفظناها يمكننا أن نأخذ نصف ليرة للذهاب إلى السينما، وهكذا وجدت نفسي وأنا في طور المراهقة، وقد اطلعت على دواوين أبي الطيّب المتنبي، وأبي تمّام، وأبي نوّاس، وعلي محمود طه(1901- 1949) وكلّ ما كتبه طه حسين(1889- 1973)، وتوفيق الحكيم(1898- 1987)، وعبّاس محمود العقّاد(1889-1964)، وابراهيم عبد القادر المازني(1889- 1949)، ومحمّد فريد أبو حديد(1893- 1967) ومحمّد تيمور(1892- 1921)، ومصطفى لطفي المنفلوطي(1876- 1924)، وآخرين لا يتسع المجال لذكرهم لكثرتهم، الأمر الذي مكّنني بأن أسجّل علامات عالية جدّاً في امتحانات البكالوريا بقسيمها، علماً أنّني حصلت على شهادة الرياضيات بدلاً من أن أتجه إلى البكالوريا الأدبية، لأنّني كنت أرغب في أن أتخصّص في دراسة الطبّ.
أذكر أنّني حاولت كتابة الشعر، وعرضت على أبي بيتين من الشعر كانا محاولاتي الأولى في النظم، فأصلحهما لي، ونصحني أن أترك الشعر لأهله، وأتجه نحو ميدان آخر في الأدب، لذلك بدأت أحاول منذ ذلك الحين كتابة القصص القصيرة، وهنا أشير إلى أنّ أخي الأكبر شاعر وله ديوان “أنادي”، كما أنّ أخي الأصغر أديب وأستاذ مدرسة وله عدّة مؤلّفات عبارة عن قصص قصيرة وروايات.
• أنت محام فما الذي شدّك في الاتجاه الأدبي، وإلى أيّ مدى أثّرت لغتك الصحافية في عملك الأدبي، ولمن تنحاز أكثر، للوجه القانوني أو الوجه الصحافي أو الوجه الأدبي في شخصيتك الهادئة؟
لم أفكّر في يوم من الأيّام أن أكون محامياً، ولأنّني لم أستطع الحصول على منحة لدراسة الطبّ، وكانت دراسته في لبنان مكلفة ومقتصرة على الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعية، وكان أبي ينفق على ابنه الأكبر في الجامعة الأميركية ولم يكن باستطاعته إنفاق مبلغ مماثل على دراستي، إخترت كلّية الحقوق.
لم يكن أبي يشجّعني على الدخول إلى المدرسة الحربية لأنّه لا يحبّ الأمر، ولم يكن يرضى لي بالوظيفة، لأنّها تمثّل الطموح، ولأنّني تربّيت على هذه المفاهيم وجدت نفسي منتسباً لكلّية الحقوق في الجامعة اللبنانية. أقول منتسباً لأنّي لا أذكر أنّي حضرت مرّة واحدة إلى الجامعة لسماع المحاضرات، فقد كنت موظّفاً برتبة فنّي في قسم الحسابات في مديرية الشؤون الجغرافية التابعة للجيش اللبناني، وكان معي في هذا القسم رفيقي في الجامعة القاضي سعيد ميرزا، وكنا ندرس معاً أثناء الإستراحة. وكنت في أوقات الفراغ أحلم بكتابة رواية أو مسرحية بقدر ما تأثّرت بالأديب توفيق الحكيم وأمثاله.
ثلاثية عن بعلبك
• ماذا تعني لك بعلبك كمدينة وسهل جبلي شامخ في الشهامة؟ وإلى أيّ مدى أثرّت بيئتك في كتاباتك وفي صناعة الخيال والكتابة والشخص لديك؟
بعلبك بالنسبة لي “حردبّة” كما يقولون بالعامية، أيّ بما معناه حمل على ظهري أفتخر به ويقضّ مضجعي. هي مصدر عنفواني وشموخي وإحساسي بأنّني مختلف من قبل أن أولد، و”مش قليلة أبداً إنّك تكون بعلبكي”. بعلبك قصّة كبيرة وتاريخ لا يمحى، وهي موجودة معي في كلّ ما أكتب إلى درجة أنّني كتبت رواية عبارة عن ثلاثية تحكي عن بعلبك وسهل البقاع وعائلة آل حيدر خلال مئتي سنة، وهي قيد الطبع تحت عنوان: “سلطانة”، “حيّ الريش”، و”الياتون”. سلطانة هو اسم جدّة أبي واسم جدّتي واسم والدتي. وحيّ الريش هو الحي الذي ولدت فيه واسمه مقتبس عن الفرنسية أيّ الأغنياء، أمّا الياتون، فهي قطعة الأرض البالغة مساحتها مليوناً ومئتي ألف متر تركها أبي لنا باسم شُعب الياتون، وقد كان لثمنها تأثير كبير في وضعنا الاقتصادي. وفي هذه الثلاثية، أستعرض تاريخ سهل البقاع خلال مئتي عام. وبعلبك “جوهرة السهل” كما اسميها كانت وما زالت تتردّد في أكثر من قصّة من القصص القصيرة التي كتبتها في كتابي “وجهاً لوجه”.
إبن البلد
• ما هي مؤلّفاتك الأدبية والمسرحية والإذاعية والتلفزيونية؟
كانت محاولاتي في كتابة المسرحيات في البداية لا ترضيني حتّى كتبت مسرحية “النوري والدرويش” وعرضناها على المخرج اللبناني برهان علوية فاقترح عليّ أن يحوّلها إلى فيلم سينمائي، ولكنّ ظروف الحرب منعتنا من تحقيق هذا الأمر، ثمّ أتبعتها بكتابة “مقهى الجمهورية”، فمسرحية “أسمر يا اسمراني” بناءً على طلب المخرج الراحل محمّد سلمان وكانت فكرته وقد نفّذتها وقرأتها له بعدما سدّد لي بعضاً من ثمنها وكان ينوي أن يتولّى إخراجها سيمون أسمر ويمثّل فيها المرحوم رياض شرارة والفنّانة برناديت حديب، ولكنّ القدر فاجأنا بوفاة محمّد سلمان على حين غرّة. ثمّ كتبت مسرحية غنائية للأطفال بعنوان “مرحوش” تمّ تمثيلها على مسرح مدرسة “السلام” للراهبات، وقام بدور البطولة زياد مكوك.
أمّا بالنسبة إلى الإذاعة، فقد كتبت برنامجاً للصديق أحمد الزين بعنوان “إبن البلد” أخذ شهرة واسعة في ذلك الحين وبثّته إذاعة “صوت لبنان العربي” التي أنشأها حزب “المرابطون”. ثمّ كتبت برنامج “الله لا يحيّر حدا” لإذاعة “صوت الوطن” مثّل فيه عمر ميقاتي وزياد مكوك، وكذلك برنامج “الحكواتي والطبّال”، أو “قال الراوي يا سادة يا كرام” وبثّ في شهر مضان في العام 1990 ومثّل فيه زياد مكوك وعبّاس شاهين وعمر ميقاتي وآخرون.
وكتبت للتلفزيون مسلسل “صالون الفرج”، وللسينما سيناريو وحوار فيلم “الإنفجار” للمخرج المرحوم رفيق الحجّار وقام ببطولته كلّ من مادلين طبر، وعبد المجيد مجذوب، وأحمد الزين.
وليد عيدو في الإذاعة
• هل من موقف معيّن حصل معك لدى كتابتك لبرنامج “ابن البلد”؟ وكيف ولدت فكرته وكيف استطعت أن تمزج فيه بين الانتقاد السياسي الساخر والضحكة، وهل هذا الأسلوب يؤدّي المطلوب فيه إلى إيصال الفكرة المشغول عليها؟
أتت فكرة “إبن البلد” عندما طلب مني أحمد الزين كتابة برنامج لإذاعة “صوت لبنان العربي”، على أن يكون القصد منه انتقاد الأوضاع السياسية والاجتماعية والمعيشية، وعندما قرأت له أوّل محاولة أذكر أنّها كانت عن رواية عنترة بن شدّاد حتّى تمسّك بي لشدّة ما أعجبته الفكرة كأنّه كان يبحث تماماً عنها، واستمريت في كتابة الحلقات حتّى جاء يوم طلب مني مقابلة السيّدة رحاب ميقاتي بإيعاز من السيّد ابراهيم قليلات، فذهبت إلى مقرّ الاذاعة دون أن أعرف ماذا يريدون مني، وأذكر أنّني التقيت بالقاضي المرحوم وليد عيدو، وهو كان من زملاء الدراسة، فاستغربت وجوده واستغرب زيارتي. يومها كانت العدلية مقفلة بسبب الحرب لذلك تولّى عيدو إدارة الاذاعة على ما أذكر طالما أنّه لا عمل للقضاة في ذلك الحين، والتقيت بعدها بالسيّدة رحاب وطلبت مني أن أهاجم أميركا بطريقتي الساخرة واللطيفة وان امتدح الإتحاد السوفياتي لأنّه صديق، فكان جوابي أنّني شخصياً لا يعنيني هذا الموضوع، وأنا أصلاً أقرب لامتداح الاتحاد السوفياتي من انتقاد الأميركيين، ولكن أن يصبح عملي بمثابة تنفيذ لرغبات أو أوامر أصحاب المصالح، فهذا ما لا ارتضيه ولا يسعني تلبيته وانصرفت دون أن أجيب بالقبول او الرفض، ولكنّني أبلغت صديقي أحمد الزين أنّني لست منسجماً مع مطالب الاذاعة، فانصرف من عندي مسرعاً يبحث عن كاتب آخر حتّى لا يتوقّف البرنامج الذائع الصيت.
محامي مرافعات
• بين المحاماة والكتابة أين تجد نفسك أكثر ولماذا؟
لم أنجح في المحاماة إذا كان النجاح يقاس بالحسابات في البنوك، أما إذا كان مقياس النجاح في المرافعات، فأنا محام يحسب له الحساب. ومرافعاتي تركت أثراً كبيراً بين القضاة والزملاء والناس الذين كانوا يحضرون المحاكمات، وكنت أشعر بالفخر عند انتهائي من مرافعتي حتّى يطلب مني بعض القضاة صورة عن المرافعة، أو يطلب مني أحد الحاضرين بطاقتي وعنواني ورقم هاتفي.
ولم أنجح في الكتابة رغم إعجاب الكثيرين بما كتبت، والأدب لا يطعم خبزاً في لبنان خصوصاً وأنّ الدعاية مربوطة بالعلاقات العامة، يعني “خدمني لأخدمك أو ساعدني لساعدك”، ولذلك لم يكتب أحد خبراً عن إصداراتي ولم أطلب من أحد أن يفعل ذلك، كما أنّ الغيرة تأكل أصحاب النفس الصغيرة، وفي جميع الأحوال أنا أجد نفسي كمحام أثناء المرافعة، وكأديب كلّ الوقت، لأنّ الأدب سلوك.
تدنّي الثقافة
• لماذا يتراجع فنّ المرافعة في المحاكم؟
فنّ المرافعة يكاد يكون مجهولاً وصارت المرافعات قليلة جدّاً، والمحامون الذين كنا نراهم يرافعون لساعات مرافعات لا تنسى، أصبح أمرهم منسياً حتّى صرت أقرب إلى الاعتقاد بأنّ القضاة في غالبيتهم غير مستعدّين للإستماع لأيّ مرافعة ذات قيمة، وصار يختصر ما جاء في المرافعة تدويناً على محاضر ضبط المحاكمة، والسبب يعود أوّلاً إلى تناقض المحامين في القضايا الجزائية، وصار عمل المحامي أقرب إلى متابعة الملفّ وملاحقة أوراق الدعوى، بعدما كان يتقصّى عن الأسباب والشهود والثغرات القانونية، فضلاً عن الابتعاد عن البلاغة والبيان ولم يعد معظم المرافعين مهتمين بالقراءة ومتابعة المراجع التي يمكن الاعتماد عليها كسند قوي لما يدلون به مثل الاستعانة بقول من نهج البلاغة، أو بآية قرآنية، أو حكمة أتى بها بعض الفلاسفة وبعض العلماء.
إذن، التراجع يعود إلى تدنّي مستوى الثقافة وعدم التخصّص، فأنا لا أعمل سوى في الحقل الجزائي مثلاً، ولا أعرف أحداً من الزملاء يهتم بهذا الحقل فقط، بل كلّ اهتمام المحامين على ما أظن، هو الدعوى وما يمكن أن تنفعه على الصعيد المادي، لأنّ باستطاعته حسب ظنّه، أنّه “حلاّل العقد”، وأنا أهتمّ بالحقوق وليس بالقانون، ممّا يعني إذا لم يكن موكّلي صاحب حقّ، فالمسألة لا تهمّني حتّى ولو كان يطالب بالملايين.
“هيك بتعمل يا استاذ”
• هل من موقف جدّي أو ساخر حصل معك في المحاكم؟
لا أذكر موقفاً ساخراً. أمّا موقف جدّي، فقد حصلت معي مواقف كثيرة أورد على سبيل المثال أنّني كنت في جلسة استجواب أمام محكمة جنايات صيدا برئاسة القاضي رولا جدايل وأنّها هي التي طلبت استجواب رئيس سابق لأحد المخافر اشتهر بقسوته وعنفه، وحين جاء دوري سألته هل قرأت تقرير الطبيب الشرعي فقال: أكيد، فقلت له: كلا لم تفعل، لأنّك لو قرأت التقرير لعلمت أنّ الخردق دخل في صدر القتيل وخرج من أسفل بطنه، فإذا بالشاهد يتهاوى بعدما حاصرناه بعدّة أسئلة ويقع على الأرض مغمياً عليه، وتمّ نقله إلى المستشفى للمعالجة.
وفي اليوم التالي، صادفت القاضي جدايل وأنا أهمّ بالدخول إلى مبنى العدلية وهي خارجة منه، فقالت بعد التحيّة: “هيك بتعمل يا استاذ كان مات الزلمي لولا لطف الله”، فقلت لها:” لو شاء الله له أن يموت فإنّه لا شكّ يستحقّ ذلك، ألم تتأكّدي من براءة المتهم بعد كلّ هؤلاء الشهود؟”.
حيدر بين مسرح فرنسا وحقوق بيروت
ولد الأديب والمحامي مهدي أحمد حيدر في مدينة بعلبك، ودرس الحقوق في الجامعة اللبنانية، وسافر إلى فرنسا في العام 1970 للدراسة في معهد الفنون الجميلة(Ecole des Beaux –Arts- St- Germain- des- Pr é s) لكنّه لم يتابع فعاد أدراجه إلى بيروت وانتسب إلى نقابة المحامين وباشر مزاولة المهنة، ثمّ ما لبث أن انتسب في العام 1976 إلى جامعة باريس الثالثة(Jussieux) قسم المسرح والسينما. عمل في مجلّة”البلاد” في نيقوسيا القبرصية، ومجلّة “العالم” اللندنية، ونشر بعض قصصه وكتاباته في صحيفتي “النهار” و”السفير” اللبنانيتين.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 29 – أيّار 2018- السنة الثالثة)
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يرجى الإكتفاء بنسخ جزء من الخبر وبما لا يزيد عن 20% من مضمونه، مع ضرورة ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.