مقالات

“نثر في الهواء” أكبر من كتاب أو موسوعة/ناضر كسبار

ناضر كسبار (نقيب المحامين السابق في بيروت):
يتمتع الوزير والنقيب السابق رمزي جريج بميزة مهمة يفتقدها الكثيرون، ألا وهي العمق في التفكير وفي طرح الافكار، والجدية في التعاطي مع الملفات المطروحة.
وفي اليوم التالي لانتخابه نقيباً للمحامين، وخلال الاجتماع الاول الذي يقتضي عقده خلال ثلاثة ايام، سألنا في المجلس: هل تعتبرونني محامياً ناجحاً ام فاشلاً”. فأجاب الجميع: طبعاً محامِ ناجح جداً. فأردف قائلاً: اذا فشلت كنقيب سوف يقول الجميع هذا إنسان فاشل. لذلك جئت الى هنا لأنجح لا لأفشل.
وفي سياق المسيرة الناجحة لمعالي النقيب رمزي خليل جريج، من المحاماة، الى العمل النقابي، الى التعليم في الجامعة، الى الوزارة، تبرز ميزة الكتابة من خلال المقالات والمؤلفات ومنها ما صدر مؤخراً: كتاب:” نثر في الهواء”.
من عنوان الكتاب، يعتقد البعض ان القصد منه هو كتابة المقالات التي تذهب في الاثير. في حين ان ما يتضمنه هو نثر بالمعنيين اللذين تنطوي عليهما هذه الكلمة: يلقيه في الاثير، آملاً ألا يضيع.
من خلال القراءة العامة للكتاب يتبين أمران:
أولاً: في الشكل: فقد تطرق المؤلف الى مواضيع جافة بطبيعتها، كقوانين الاحوال الشخصية، ونظام الانتخاب، والحياد، والتشريع، واستقلال القضاة، والفراغ الرئاسي، والمحاكم الاستثنائية، وغيرها وغيرها. إلا انه، وبأسلوبه السلس والمبسط، خفّف من وطأة وقساوة مضامين تلك المواضيع، واستعمل عبارات وكلمات يستعملها كل الناس، فوصلت الرسالة الى عقول القراء، وعلقت في اذهانهم.
ثانياً: في الاساس: فقد تطرق المؤلف الى مواضيع مختلفة. فيتذكر اصدقاءه الذين غابوا، ويعطي كل سياسي الوصف الواقعي لتصرفاته ولصفاته ولمواقفه الحسنة والسيئة بكل جرأة. ويتطرق الى مئوية النقابة متمنياً لو اتيح لنقيب طرابلس إلقاء كلمة إثباتاً لكوننا جسماً واحداً في نقابتين.
ويتكلم المؤلف عما تعرض له من نكسة صحية، إلا ان ارادته القوية، وحبه العميق للحياة، وعائلته التي احاطته بعنايتها، واصدقاءه الذين وقفوا الى جانبه، جعلوه يتغلب على هذه المحنة.
ويأسف المؤلف لفقدان صديقين عزيزين هما المحامي الكبير سليم عثمان، والقاضي والوزير والاستاذ الجامعي سليم الجاهل. ويقول: لقد بلغت من العمر سناً ارى فيها الاصدقاء يتساقطون الواحد تلو الآخر.
كما اسف المؤلف لعدم حضور اي من الرسميين جنازة البروفسور بيار غناجة، وهو الذي كان يستحق التكريم.
وينتقد المؤلف التعيينات التي تجري في المجلس الدستوري، وفي القضاء والادارات العامة، ويعتبرها مخيّبة للآمال، لأنّ زعماء الطوائف يوزّعونها في ما بينهم.
ويخصص المؤلف فصولاً عن وباء كورونا، وما بعد الوباء والحجر.
ويرثي المؤلف صديقه المرحوم قبلان فرنجية، بعد رحيل شقيقه المرحوم سمير. ويقول: واذا كان قبلان قد أوصى بأن يدفن في فرنسا، فلعلمه بأن وطنه لم يعد كما عرفه واحبه، وإنما اصبح ساحة يتصارع فيها زعماء حديثو النعمة، يتقاسمون مغانم السلطة، ويهدمون ما بنى الرعيل الاول من السياسيين الذين حققوا استقلال لبنان وأمنوا جلاء الجيش الفرنسي عن اراضيه.
ويتطرق المؤلف الى فاجعة 4 آب، جريمة العصر الكبرى، والكارثة التي حلت بالعاصمة، ست الدنيا، بيروت. ويقول انه كان من واجب المسؤولين الكبار الانتقال فوراً الى الاحياء التي دمرها الانفجار لمؤاساة الشعب المذهول من حجم الكارثة، مقدراً خطوة الرئيس ماكرون الذي حضر الى لبنان وتضامن مع شعبه. ويعطي المؤلف نفحة امل بعودة بيروت الى سابق رونقها الفريد، وانها لا تزال “ثريا للضوء” ويستشهد بقول الشاعر:
عصية لا توالي القهر بَدّلَها ولا الدمار ولا العدوان ذلّلَها
وفي لحظة يأس يقول الكاتب في الصفحة 74، منتقداً بعض القيمين على وضع البلد:
“من هنا موقفي بالإحجام عن الكتابة والاكتفاء بالتفرج، لمشاهد حزين. على مسرحية دراماتيكية ابطالها لا يجيدون التمثيل، بل هم دمى تحركها ايادِ خارجية، وتؤدي ادواراً لا يستسيغها الجمهور اللبناني”.
وفي فصل بعنوان رحيل الاحبة، يستذكر الكاتب رحيل النقيب السابق ريمون شديد، وإبن خاله المحامي جورج ضو، والعميد البروفسور ريشار شمالي قائلاً عنه انه عاش في صومعة العلماء، يبذل بسخاء، مبتعداً عن حب الظهور، وغارساً في اذهان طلابه منهجية البحث الرصين. كما ينعي صديقه دولة الرئيس المرحوم فريد مكاري إبن الكورة الخضراء، قائلاً برحيل مكاري يفقد لبنان سياسياً قديراً ووطنياً مخلصاً، تميزت مسيرته بصلابة الموقف ووضوح الرأي واللباقة في التعبير، وتخسر الكورة نائباً احسن تمثيلها والتزام قضاياها.
أما عن النقيب المرحوم عصام كرم فيقول، كان له امام اقواس المحاكم وعلى المنابر صولات وجولات. قلت فيه عند تكريمه بمناسبة مرور خمسين سنة على ممارسة المهنة انه جعل قلمه ريشة من جناح صقر قريش، وإنه سيد البلاغة وامير الكلام.
وما آلم معالي النقيب جريج، رحيل صديقه، إبن طرابلس الفيحاء، النقيب المرحوم بسام الدايه، الذي رحل على غفلة تماماً كالاحبة. ويستشهد ببيت من الشعر: 
قيل لي صفة، قلت تعيا القوافي
                                                 قيل عدّده، قلت: يعيا الحساب
كما يأسف المؤلف لرحيل مجموعة من كبار الشخصيات امثال الوزير المحامي ميشال إده، والصحافي الفرنسي الكبير جان دانيال، والنائب والوزير المحامي مخايل الضاهر، والمحامي نهاد نوفل الذي فجع بموت إبنه المحامي ايلي في انفجار 4 آب، ودولة الرئيس حسين الحسيني، رجل الدولة بامتياز، ومعالي النقيب عصام الخوري، والوزير السابق سجعان قزي حائك حرير الصداقات، والبروفسور ابراهيم فضل الله، اول اكريجيه في لبنان، ووزير العدل الفرنسي روبير بادنتير وغيرهم وغيرهم.
هذا في الجزء الاول من االكتاب.
أما في الجزء الثاني، فيتطرق المؤلف الى ما كتبه من مقالات في النظام والدستور، ويخصص عدة صفحات لكلام عن الدور الوطني لنقابة المحامين.
وفي هذا المجال يقول:
“وإذا كان دور النقابة المهني اساسياً، باعتبار انها واكبت تطور المهنة وعملت في سبيل رفعتها وكرامتها ورفع مستواها العلمي، فإن دورها الوطني لا يقل اهمية عن دورها الاول، لانه يعني كل اللبنانيين، الذين دافعت النقابة على مدى مائة عام عن حقوقهم الاساسية، ولاسيما عن حقهم بإقامة دولة مدنية ترعى مصالحهم.
لقد زودت النقابة الحياة العامة في لبنان بكبار المسؤولين في الدولة، من رؤساء جمهورية ورؤساء مجلس نيابي ورؤساء حكومة، ومن وزراء ونواب. ويكفي ان نذكر انه، منذ العام 1920، هناك عشرة محامين تولوا رئاسة الجمهورية والدولة، وخمسة ترأسوا المجلس النيابي وعشرة مجلس الوزراء، في حين تولى العشرات منهم الوزارة والنيابة. حتى ان نقابة المحامين كانت تعتبر الباب الإلزامي للعبور الى السياسة، وكانت نسبة كبيرة من اعضاء المجلس النيابي قد مارست المحاماة قبل الدخول الى المعترك السياسي. واستمر هذا المنهج الى ان تربع على مقاعد المجلس اصحاب الثروات الكبيرة، محل اصحاب الرأي واهل العلم والقلم. والكل رأى كيف ان مستوى التشريع تدنى في لبنان نتيجة تقلص عدد المحامين في المجلس النيابي”.
ويتطرق المؤلف الى رسائل رئيس الجهورية وخطاباته ويطرح السؤال الكبير: رئيس الجمهورية: حاكم أم حكم؟. فيقول انه بعد استقلال لبنان عام 1943 كان رئيس الجمهورية حاكماً بأمره بحسب التعبير الشعبي. 
أما بعد التعديلات في الطائف، فتبدل دوره الى رئيس يملك ولا يحكم.
ويتطرق المؤلف الى علاقة رئيس الجمهورية برئيس الحكومة والوزراء، ودور رئيس الحكومة والوزراء بعد اتفاق الطائف، ودور رئيس مجلس النواب، ومفهوم النظام التوافقي الذي لا يفرض الاجماع، والعبور الى الدولة المدنية حيث يقول:
“بينت ان الاصلاحات الدستورية الملحوظة في وثيقة الوفاق الوطني، وان كانت تشكل مبادئ اساسية لقيام الدولة المدنية، يبقى تحقيقها بحاجة الى سن قوانين تطبيقية في مجالات شتى لتأمين المساواة الكاملة بين المواطنين في حياتهم المدنية. ومن اهم تلك القوانين تشريع موحد يطبق على جميع المواطنين في مسائل الاحوال الشخصية على ان تناط بالقضاء المدني صلاحية النظر في الدعاوى الناشئة عن هذا التشريع”.
“وقد اثار ما ذكرت في مقالي، خصوصاً لناحية الدعوة الى توحيد التشريع والقضاء معا في مسائل الاحوال الشخصية، ردات فعل متنوعة بين رأي مؤيد بالكلية، وآخر متحفظ، يعترض على توحيد التشريع ويحبذ توحيد القضاء فقط، عبر إلغاء المحاكم الروحية والمذهبية وتحويل صلاحياتها الى المحاكم المدنية التي تطبق القوانين العائدة لمختلف الطوائف، حسب كل حالة معروضة عليها”.
وفي الجزء الثالث من مؤلفه يتطرق المؤلف الى ملف مهم الا وهو المحاكم الاستثنائية التي ينقسم الرأي العام بين مؤيد لوجودها ومعارض لقيامها.
وفي هذا المجال يقول المؤلف:
“غير ان الاشكاليات، التي تطرحها هذه المحاكم ان لناحية جدواها ام لناحية تشكيلها ام لناحية بعض إجراءات المحاكمة لديها ومخالفتها لقواعد المحاكمة العادلة ما زالت بحاجة الى معالجة خاصة، يبدي من خلالها الباحث رأيه الموضوعي في المسائل التي يطرحها وجودها ومبرر بقائها.
وعلى هذا الصعيد لا يخفي عدد كبير من الحقوقيين، في لبنان وفي الخارج، معارضته لقيام مثل هذه المحاكم، التي كثيرا ما تلجأ اليها السلطة السياسية، للالتفاف على إجراءات المحاكمة العادية التي تؤمن الضمانات اللازمة لمحاكمة عادلة. وحسبنا ان نذكر، بهذا الخصوص، بموقف العلامة Ripert المناهض للمحاكم الاستثنائية، التي تترك انطباعا سيئا بأن قضاتها معينون للدفاع عن فئة المتقاضين على حساب فئة اخرى.
لذلك ارتأيت من المناسب في هذا الجزء من الكتاب نشر مقالات كتبتها عن المحاكم الآتية:
– المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء
– المجلس العدلي
– المحكمة العسكرية
– المحاكم الدينية
– محكمة المطبوعات
– قاضي الاحداث
وقد تبنيت في هذه المقالات، بصورة عامة، موقفاً سلبياً إزاء تلك المحاكم ما عدا محكمة المطبوعات وقاضي الاحداث، عارضا المساوئ العديدة التي تنطوي عليها انظمتها واصول المحاكمة لديها ومبدياً تخوفي من ان تشكل تلك المحاكم عائقا امام دولة القانون، مع ما تفرضه من سلطة قضائية مستقلة”.
ونختم بما كتبه معالي الوزير غسان سلامة في مقدمة الكتاب: “أما بعد، فقد عودنا المحامي والنقيب والوزير رمزي جريج على ان يكون عنوان كتبه شديد التواضع لحد خيانة مضمونه. فالكلمات التي كان قد قال إنها “عابرة” في كتابه السابق بقيت. وفي اذهان قرائها، ثبتت واستقرت”.
وبما كتبه الناشر على الغلاف:” يطل علينا رمزي جريج من شرفة هذا الكتاب لينثر في هواء الوطن ايمانه الراسخ بأن لبنان لن يصير حقا ارض الانسان الا اذا التزم بنوه سلطات وافرادا، بالدستور حاكماً وبالمؤسسات ناظما، والقيم سبيل عيش.
وما بين شجن السيرة التي يتداخل فيها الخاص والعام، ورصانة تحليل النصوص الدستورية ومشاكل تفسيرها وتطبيقها، وجرأة نقد الواقع القانوني للمحاكم الاستثنائية على ضوء المبادئ الاساسية للعدالة، تتوالى اجزاء الكتاب الثلاثة ناطقة بكل ما اكتنز الكاتب في نفسه من حب للبنان ومن يقين بأن الخلاص آت “بفضل المواهب والقدرات التي يزخر بها شعبنا، والتي ان غيبت زمنا، فهي لا بد منتصرة وناهضة الى صناعة مستقبل لبناني زاه”.
 * عقدت ندوة حول كتاب الوزير والنقيب رمزي جريج في بيت المحامي في بيروت في شهر حزيران 2024 كما وقعه للحضور من وزراء ونواب وقضاة ومحامين وضباط وفعاليات.
“محكمة” – الإثنين في 2024/7/1

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!