نجاة أبو شقرا.. توأم هذه الأرض الحرّة/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
نجاة أبو شقرا تحدّت أميركا ودونالد ترامب وأوقفت العميل عامر الفاخوري، ورفضت بكلّ كرامتها الشامخة حدّ السماء، أن تخضع لأيّ ضغط داخلي أو خارجي، بينما سياسيو لبنان لبّوا نداء الخنوع ومرّغوا وجوههم وجباههم بالذلّ من أجل إرضاء أميركا وإغراءاتها الكثيرة، وليس آخرها إبقاؤهم على كراسيهم.
كان بمقدور نجاة أبو شقرا أن تنقاد، وأن تتراجع من ميدان المواجهة المنفردة، لكنّها لم تفعل، وليس هناك أسهل من العودة عن مذكّرة توقيف وجاهية “بشحطة قلم” في زمن المصالح والمتغيّرات الدولية، وما دام بعض القضاء قادراً على تطريز أحكام وقرارات تطابق معايير الوصفات السياسية الساحرة، لكنّ إبنة عماطور ليست من هذا الصنف المضرّ بصحّة الوطن العامة.
كان باستطاعة نجاة أبو شقرا أن تليّن موقفها الصارخ بالإمتناع عن ترك جزّار يستحقّ الإعدام والمحاكمة الدولية بجرائم ضدّ الإنسانية، والقانون في لبنان مطّاط ويساعد كثيراً على التلاعب والاستنسابية والتقدير والتحوير والتغيير ولو من دون إصلاح نحو الأفضل، لكنّ وطنيتها لم تسمح لها.
كان بإمكان نجاة أبو شقرا أن تقبل بكلّ الكلام المعسول الذي أُغدق عليها أميركياً وبواسطة ألسنة لبنانية من سياسيين وقضاة وحزبيين سيُكْشَف زيفها يوماً، لكنّ إنسانيتها الناصعة أبت إلاّ أن تنتصر لكلّ أولئك المعتقلين الذين داست دولتهم على مجد ما زرعوه من تضحيات ودماء أثمرت تحريراً للأرض. وليس هناك أجمل من الأرض الحرّة… ونجاة أبو شقرا توأم هذه الأرض الحرّة.
لم يكن المطلوب من هذه المرأة القاضي أن تفعل المستحيل. فالجرائم المرتكبة من عامر الفاخوري وإنْ كانت واضحة كالشمس وثابتة بموجب سجّله الأسود، لكن يمكن التغاضي عنها بحكم القانون اللبناني وبفعل ما يسمّى زوراً بشأن خيانة الوطن “مرور الزمن”. غير أنّ هذه النجاة فضّلت المواجهة على أن تدفن رأسها في تراب المهانة. ولمن لا يعرف هذه المرأة الشوفية وما تملكه من ذخيرة الكرامة الوطنية، ومن إرادة مثالية في التحدّي، فليقرأ قرارها الاتهامي بحقّ الفاخوري، وما في سطوره من محطّات عن فظائع العملاء ووقفات الوطنيين الشرفاء.
أخطأت نجاة أبو شقرا عندما رفضت أن تبيع لبنان ومعه تضحيات مئات الشبّان وصرخاتهم خلف القضبان، وأبقت نفسها وحيدة في مكان يفترض أنّه مخصّص للرجالات. وليس مهمّاً أن يوجد الجسد، والروح عطشى لفعل الرجولة الحقّة.
نعم، إرتكبت نجاة أبو شقرا جريمة التفاني، فلم تُصغ لوشوشات هذا القاضي الزميل، ولا لحديث هذا المسؤول، ولا لاتصالات هذا السياسي، ولا لزيارات التودّد والترغيب من هذا وذاك، ولا لتهديدات محامية الفاخوري اللبنانية المجنّسة أميركياً، بوضعها على لائحة العقوبات وبمنعها من دخول جنّة الولايات المتحدة الأميركية، في وقت تملّص فيه قضاة من مسؤولياتهم وتخلّصوا من عبء الادعاء أو التحقيق أو إعادة النظر بقرار إسقاط عقوبة الحكم الغيابي، أو التفتيش عن ذريعة قانونية تساند في الموقف، أو السؤال عن مجريات الملفّ ولو من باب الإطمئنان.
يا لفظاعة جرم الإيثار الوطني عندما يكون مفتعلاً عن سابق إصرار وترصّد وتصميم من سيّدة إسمها نجاة أبو شقرا.
كان حرياً بالقاضي أبو شقرا خلال سماع شهادات الأسرى والمعتقلين المحرّرين أن تطوي إنسانيتها، وألاّ تذرف دمعة واحدة عندما أخبرها أحدهم عن محاولات اغتصاب أمّه أمام عينيه لكي يعترف بعمله المقاوم، وبأنّ هذه الأمّ (لم تنطق إلاّ بكلمة واحدة عندما كانت تراه يتعذّب أمامها “يا ناري يا ولدي”) كما ورد في متن القرار الاتهامي.
كان حرياً بك يا ريسة، ألاّ تبكي وأنّ تقولي لهذا الشاهد الذي أفنى شبابه في غرف الظلم والظلام، خطؤك أنّك دافعت عن وطن لا يستحقّك أنت وأمثالك من أهل العزّ!
ولأبناء وطني الشرفاء أقول، عندما تعزّ الرجولة في لبنان، هناك نجاة أبو شقرا، وهي على قدر الحمل والمسؤولية والثقة والأمانة والنضال حتّى النَفَس الأخير، فلا توفّروها..
ومع ذلك كلّه، يبقى أنّ أروع الألقاب والتوصيفات والصفات في كلّ ما تقدّم، وفي كلّ ما حدث، أنّ نجاة أبو شقرا قاض من لبنان، والتاريخ لن يتذكّر إلاّ هي والشرفاء أمثالها.. والكرام قليل.
“محكمة” – الثلاثاء في 2020/3/17