نصرت أبو خليل خادم الحقّ.. سيرةٌ تُروى ومدرسةٌ كاملة بذاتهِ/وليد أبو دية
المحامي وليد أبو دية:
ريشةٌ من جناح المحاماة سُلِختْ…
توارى وجه نصرت أبو خليل عن الميدان بعد أن سطّر صفحات مشرقة في كتاب المعرفة.
سكتَ القلب. سقطَ القلم. إنطفأ الصوت. تلاشى العقل الخلّاق. جُمّدَ الفكر النيّر وغابَ الوجهُ المتلألئ…
أمس، من ثلاثة أعوامٍ، كأنّه اليوم! كنّا في مجلسه، ألنقيب الشيخ أنطونيو الهاشم وأنا، نكتنزُ منهُ، من خزائن عقلهِ، لنؤرّخ للمئوية الأولى لنقابة المحامين، فإذا بنا أمام موسوعةٍ مكتملةِ الصفحات…
هوَ ما ألّفَ كتاباً…! لكنّه كان يُنبوع كلّ منقّبٍ، ومرجعاً مُعتمدة آراؤه، يستندُ إليها رجال القانون.
قال لي ذات يوم: “المحامي إنسان يبيعُ الناسَ وقتهُ وعقلهُ. وهذه البضاعة، بضاعة العقل، كُلّما بيعت، نَمَتْ”.
كان مدرسةً كاملة بذاته، وسيّداً من أسياد الكلمة المموسقة، والحجّة والمنطق.
فمن تعاليمه، أنّ مزاولة مهنة المحاماة والإقبال عبر الجولات القانونية فيها، لا يرتقيان إلى مرتبةِ الأثر الباقي والذكر المحمود، إلّا إذا صاحبَ هذا السبق نجاحٌ من نوعٍ ثانٍ أثمن وأغلى، ألا وهو التباري في خدمة المحامين والمؤسّسة التي إليها ننتمي، وصيانة وجهها المضيء، ومناقبها المزروعة في قلوب الأوفياء من أبنائها.
هذا هو الإيمان الذي غمَرَ حياة “شيخ المحامين” نصرت أبو خليل، وأملى عليه يوبيلاً “ألماسياً” من البذل والعطاء، فكانَ شعارهُ أنّ خدمة ذات المحاماة هي الغاية المنشودة، وهي غير خدمة الذات في المحاماة.
إنّ إستشرافاً لحياة هذا الراحل الإنسان يكشف عن أنّها كانت مليئة بنور الصدق، وأنّ رأيَهُ في شتّى الأمور، كان دائماً وأبداً مكتوباً على جبينهِ… كان مقروءاً بأحرُفٍ من ذهب.
هذا الكبير الذي لم يتقاعد، وهو بلغَ السادسة والتسعين، هذا الإنسان الواحد في سرّهِ وفي عَلنهِ، يلتحقُ اليومَ في دار الخلود بركبِ زملاءَ لهُ أبرار. أتصوّرهُ في دنيا الحقّ ملاقياً المجاهدينَ من إخوانهِ الذين سبقوه إليها، والذين علِقت ذكراهم بشغاف القلب، لأنّهم أعلَوْ مثلهُ للمحاماة قِباباً من المجدِ والفضائل. ويقتضيني الإنصاف حيث في نفسي حيالهُ من الإعجاب والمحبّة ما أشعر معهُ بأنّ إيفاءه حقّه على الكثيرينَ، وهو أستاذ جيل، تتعطّل فيه باستمرار لغةُ الكلام، ولا يتمّ التخاطب فيه ويتكامل سوى بالأحداقِ والمُهجْ.
آمَنَ بالحق إيمانه بمصدرهِ: بالله! فكان وبحقّ، خادم الحقّ…
أنشأ مدرسةً في الأخلاق وكان من المؤمنين بأنّ المحامي الأمثل من اقترَن عِلمهُ بالأخلاق، فإذا بهِ ذلك المحامي الأمثل. أعطى للمحامين أُمثولةً في حلاوةِ المعشر ودماثة الأخلاق وأدب المخاطبة وعزّة النفس ونزاهة التعامل، فكانَ أميراً في كلّ شيء، وإذا بأُسرة المحاماة تبكي اليومَ أحدَ أُمرائها وقد غاب عنها إلى الأبد وما تقاعد…
قال لي: “لن أتقاعد. سأموت وأنا محامٍ”.
الأقلامُ تتقاعد، المحابر تجفّ، والأصوات تخبو، وهو لم يسترح…
لعقودٍ خلت جاء المحامونَ بهِ وما انفكّ ينصر النقابة وشؤونها ويصون العدالة، حتّى باتَ يدّعيها أُمّاً لهُ، وتدّعيهِ إبناً بارّاً لها. هذا الإبن الودود الناصر، مرّ بعضويّة مجالس النقابة المتعاقبة مرّات عدّة في زمن الأوائل وترأس المجالس التأديبيّة. في عهده الميمون عرَضَ عليه الرئيس الراحل أللواء فؤاد شهاب تعيينه سفيراً للبنان في باريس، فاعتذر شاكراً لأنّه ما أحبّ ترك المحاماة.
نقابيٌّ بالأصالة، لأنّه ذو ضمير… وفوق الضمير شرط الخدمة النقابية وكلّ خدمة.
وبقدر ما كان للراحل الكبير الأستاذ نصرت من نشاطات متنوّعة، بقدر ما يتعيّن إقامة الفضل البالغِ لهُ، إذ يخلعها في ساعة نقابية ليبقى المحامي المحامي، إبن النقابة!
قطعَ عهداً واحداً في حياته، فكان للمحاماة وللنقابة، وما عداها فثانويّ مستأخر.
نوّابنا المحامين، وزراؤنا المحامين، رؤساءَ جمهورياتنا المحامين، حُكّامنا المحامين…
مُعظمهم سلخوا أنفسهم عن أُسَرِهِم، وجفّت روحهم النقابية! فلو كان نوّابنا المحامين ما زالوا محامين، لما كانت النقابة تعيش حتّى الساعة على قانونٍ سُنَّ وباتَ بحاجةٍ الى تطويرٍ وتعديل، هو قانون تنظيم مهنة المحاماة، مهنة الأكابر.
نصرت أبو خليل! مشَت فيه المركبة صُعُداً وظلّ المحامي المحامي!
فلو كان للمجتمع أن يتكلّم عن محامينَ شرّفوا نقابتهم، لأشارَ بكلّ أناملهِ إلى الأستاذ نصرت أبو خليل.
أُستاذي… يا “نصرت” المحامين…لمْ يُتح لي أن أضعَ على قبركَ باقةَ زهرٍ، ولكنّني حفَظت ذِكركَ في قلبي، وكلمات لكَ عندي، كأنّي بكَ في مسيرةٍ إلى الجنّة، وطواف، والملائكة حولكَ كالهينماتِ، في سباقٍ، من يزفُّ البُشرى إلى أهلِ الباقية، بأنّ “نصرت” من لبنانَ آتٍ. فأمثالكَ مراثيهم خفقة في القلب، وفي الحلق غصّة.
يا ذا الوجه الصبوح، يا كبيراً بين الكبار الكبار…حنانيكَ إذ تغيبُ ويواريكَ التُرابُ! لكن أيّ تُرابٍ وإن حجبَ الرُفاتَ أيحجبُ الذكريات؟
عزاؤُنا أنّ في الموتِ حياة…وعلى روحِكَ الطاهرة يا شيخَ المحامين رحمات السماء.
“محكمة” – الإثنين في 2020/1/13