نـداء الثورة إلى جناحي العدالة/بسام الحلبي
بقلم المحامي بسّام أمين الحلبي:
صدر مرسوم التشكيلات القضائية بعد أخذ وردّ، وتعثّر، وخلافات بين القيادات السياسية حول المراكز وتوزيعها بين الطوائف، ظهرت جميعها على الملأ، وبيّنت أنّ السياسيين والقضاة أنفسهم يتعاملون مع هذه السلطة التي تشكّل العمود الثالث من عواميد الدولة وكأنّها دائرة من الدوائر الإدارية التابعة للسلطة التنفيذية، أو هي من دواوين الزعامات حيث تتجمّع رعية الزعيم لتقديسه، والأحزاب حيث يتجمّع المحازبون لمبايعة الرئيس الذي لم ينتخبونه، علماً أنّها كسلطة، دستورياً وبالمفهوم الديمقراطي، موازية لرفيقتيها التنفيذية والتشريعية.
كما صادف صدور هذا المرسوم مع اقتراب موعد انتخاب النقيب وأربعة أعضاء لعضوية مجلس نقابة المحامين. والنقابة ومجلسها تعاني ما يعانيه القضاء من تدخّلات سياسية وحزبية، بحيث تحوّلت هذه الإنتخابات من انتخابات نقابية هدفها رعاية المحاماة والمحامين إلى عملية إحصائية، تقدّر الأحزاب من خلالها مدى انتشارها وتأثيرها على المحامين، وتكون المؤشّر للإنتشار والتوسّع الشعبي بشكل عام.
وما وصل إليه الحال لدى جناحي العدالة مردّه، طبعاً، إلى أربعين سنة من الحروب العبثية والكيدية السياسية قلبت المقاييس والمفاهيم لدى المواطنين، بحيث أصبح الإستزلام هو الأساس وغابت الكفاءة لتحلّ محلّها الحزبية والطائفية وغيرها من المعايير الفاسدة.
إنّ ما تعانيه السلطة القضائية مردّه إلى أنّها وضعت نفسها، محكومة بالحقيقة اللبنانية، في هذا الموقع، فطالب الإنتساب إلى معهد القضاء قبل تقديم طلبه يبدأ باستئذان الحزب، أو الزعامة، أو رئيس الطائفة، طالباً تبنّيه ومباركة ترشيحه ما يؤدّي إلى جعله مديناً بمنصبه إلى من دعمه في الوصول، وقبل صدور مرسوم التعيين والتشكيلات تعود الزيارات والإجتماعات ليصار إلى تعيين المتدرّج، أو العامل وتشكيله، في مركز يناسبه ويناسب زعامته التي دعمته بالوصول وحان وقت تسديده هذا الدين، وذلك لزوم تقديم الخدمات للزبانية.
وتأتي الطامة الكبرى، بأنّ من يفترض به أن يكون حرّاً طليـق اليدين بإجراء التشكيلات يبلّغ الزعامات والأحزاب بشكل خاص، المشروع الذي يعدّه، طالباً منها إبداء الرأي بالمراكز المنوي تشكيل من يحسب عليها لإشغالها، فتكون مشاركة في هذه التشكيلات.
ولا تتعامل السلطتان التشريعية والتنفيذية، بروتوكولياً، مع السلطة القضائية على أنّها سلطة موازية لهما بحيث نجد الوزير يتقدّم رئيس السلطة القضائية، في المناسبات، علماً أنّ الأخير يوازي قانوناً رئيس الحكومة ورئيس المجلس النيابي، فيتحوّل إلى موظّف درجة أولى بروتوكولياً وفعلياً، من خلال التدخّل بالتشكيلات وعدم المساواة بالتعامل، ومن خلال جلوسه في المناسبات الرسمية بين المدعويين الرسميين ولا يوضع مقامه كرئيس للسلطة الثالثة بالتوازي مع السلطتين، فيكون بتنازله عن هذه الشكليات قد حرم نفسه بحث الأساس، أليس هذا ما يحدث إذا ردّت المحكمة الدعوى شكلاً؟ فكيف يمكن لها بحث أساس تكوينه إذا لم يحافظ على شكل هذا التكوين؟.
لـذلـك، نوجه هذا النداء إلى مجلس القضاء الأعلى الذي نحترم، رئاسة وأعضاء، ونقول لهم إنّ العمل القانوني هو عمل شكلي ومن ثمّ موضوعي، إبدأوا بالشكل، لا تقبلوا بتحويل السلطة التنفيذية لكم على أنّكم دونها تراتبياً، ومن بعدها في الموضوع إرفعوا يد هذه السلطة عنكم واخلقوا أزمة معها لتدخّلها بشؤونكم المهنية كون معيار تدخّلها هو شخصي هدفه خدمة المحازبين والرعية، أمّا معياركم، فهو معيار موضوعي هدفه إعطاء المركز لمستحقّه. كما يجب أن توجّهوا من يُشكَّل من القضاة في الملحقات إلى اعتبار الملحقات ليست أقلّ شأناً من المدن الرئيسية، فالعدالة والحقّ هما نفسهما في كافة أرجاء الوطن.
فالإعتكاف من بعض القضاة المشكّلين، تعبيراً عن الغضب والرفض، أو التوقّف الجماعي عن عقد الجلسات للمطالبة بتعديلات على سلسلة الرتب والرواتب، غير محقّ لأنّكم تقاتلون الدولة بالناس وحقوقها، ولكنّ الإضراب لتحقيق حريّة وإستقلالية السلطة القضائية يوازي المطالبة باستقلال الوطن، الأمر الذي يجعل مشاركة المواطن ضرورة وطنية.
السادة القضاة، إستقلالكم وممارسة مجلس القضاء الأعلى لاختصاصه، دون تدخّل من زعامات وأحزاب، والقضاء على تعبير رفع الغطاء السياسي من المرتكبين للتمكّن من محاكمتهم، هو الهدف الأوّل والأخير قبل المركز وقبل الراتب. وهكذا يستحقّ إعطاء أعضاء هذه السلطة لقب قاض، زميل لقضاة برلين الذين هدّد بهم الفلاّح البروسي القيصر فريديرك الثاني باللجوء إليهم إذا تعدّى على ملكه، والقاضي روبير باندنتير الذي ترأس المجلس الدستوري في فرنسا أثناء ولاية صديقه الرئيس فرنسوا ميتران، إذ قال له بعد أداء اليمين، سيّدي الرئيس شاكراً لك الثقة، ومن الآن عند عرض الطعون عليّ سأكون ناكراً للجميل. كذلك الخلفاء الراشدون عمر وعثمان وعلي.
ومن القضاة إلى الزملاء المحامين الذين أناديهم، ونحن على مشارف انتخابات نقابية بعد أسابيع، راجياً منهم تذكّر أنّ الإنتخابات، إنتخابات نقابية لعضوية مجلس نقابة المحامين، وليس لمجالس قيادة الأحزاب السياسية، فيجب علينا أن نختار المرشّح المتمتّع بصفات المحامي النقابي الذي يمارس المهنة بنبالة، ويعيش همومها وشؤونها وشجونها حتّى ولو كان ينتمي سياسياً إلى اتجاه يخالف اتجاهنا، فنحن ننتخبه ليرعى شؤون المحاماة، وليس الشؤون السياسية في البلاد، وإذا كان الحزب الذي يرشّحه يعتبر مرشّحه من الحزبيين المؤهّلين للقيادة الحزبية فليرشّحه في الإنتخابات النيابية، أو فليسمّيه وزيراً عند تشكيل الحكومات. أمّا نقابة المحامين، فهي بحاجة إلى محامين متمتّعين بالصفات الشخصية والأخلاقية والمهنية الملتصقة بالنبالة، التي وصف الرومان بها هذه المهنة، لرعاية شؤون المهنة بصرف النظر عن الإنتماء السياسي.
من هنا أطلق صرخة، بعد خمسين عاماً من الممارسة، أوجّهها إلى الزملاء إنتخبوا من يرفع شعار الحزب حتّى بلوغ باب النقابة وعند هذا الباب يرتدي الثوب الأسود، فالمحامون جميعاً أخوة في المهنة بصرف النظر عن الإنتماء السياسي، وليكن شعارنا الموّجه للأحزاب إرفعوا أيديكم عن نقابة المحامين، لأنّ الوطن الذي وضعتم يدكم عليه تحوّل من دولة إلى مزرعة تدار بالمحاصصة، والفساد بات ينهش هذا الوطن المفكّك الأوصال، ونصيب النقابة سيكون من تدخّلاتكم التي فاقت المعقول، شأن الدولة وحالها.
أمّا النقيب الذي سننتخبه في 19 تشرين الثاني 2017، فنقول له، وأعتقد أنّ ما سأقوله يعبّر عن رأي غالبية المخضرمين الذين بدأوا ممارسة المهنة في ستينيات القرن الماضي، سننتخبك إذا أعلنت الثورة على الفساد، فالنقابة والمهنة من أبناء هذا المجتمع الذي يعاني من ويلات أخلاقية ومادية، ولم يعد المطلوب إصلاح بعض الأمور الداخلية، كرسم الوكالة والضمان الصحّي، والشكاوى الواردة من مفوّض الحكومة، المطلوب هو الثورة من مدخل مواقف السيّارات حتّى العلاقة مع القضاة ومجلس القضاء الأعلى، مروراً بالمهنة وممارسيها، فالأمر بحاجة إلى ثورة، وأصرّ على الكلمة، فالتشدّد في الامتحانات النقابية ، للإنتساب والإنتقال إلى الجدول العام، ضرورة ماسة، والعلاقة مع القضاة باتت بحاجة إلى إعادة نظر، فالمطلوب رفض تأجيل الجلسات إلى مدد تجعل للدعوى جلستين في السنة القضائية، وعدم إصدار الأحكام إلاّ بعد أشهر، وأحياناً سنوات على التاريخ المحدّد لإصدارها، يضاف إلى ذلك عدم التزام القضاة بموعد بدء الجلسات والحضور، ما يشكّل إهانة للقضاء نفسه قبل المحامين، فيجب لهذا الأمر، على مجلس النقابة تنظيم ميثاق شرف بينه وبين رئيس مجلس القضاء الأعلى بحيث في حال مخالفة هذا الميثاق، أن يعلن مجلس النقابة إتخاذ القرار بمقاطعة المحكمة التي تخالفه. والى ما هنالك من أمور إدارية ومهنية تعيد للنقابة وللمهنة هيبتها.
ولن ننتخب في الدورة المقبلة إلاّ المرشّحين، لمركز العضوية ومركز النقيب، إلاّ من يعلن منهم، أنّه سيتبنّى الثورة ويبلغ حزبه علناً، أنّه في المهنة محام وليس حزبياً، وأنّ ألحزب يصل معه إلى مدخل النقابة ويبقى خارجها. وأنّه سيمارس عضويته بين المحامين والمحاكم، لأنّ من انتخبه كان هدفه رفع المعاناة التي تعيشها المحاماة، وليس من اجل التزام المنتخَب مكتبه في النقابة.
السادة القضاة والزملاء الكرام، العدالة بجناحيها، في لبنان في خطر، ومتى سقطت العدالة سقط الوطن نهائياً، أنتم العمود الوحيد الذي يقوم عليه الوطن، لأنّ سائر العواميد هدمها الفساد والنظام الذي جعل جيلنا يبكي على النظام الذي ثار عليه سنة 1975.
وبذلك يصبح القضاة زملاء لمن ذكرتهم من القضاة الخالدين ويصبح نقيب المحامين والمحامين من زملاء لخالدين عبروا. إنّها الثورة من فوق للقضاء على الغوغائية التي تعيشها العدالة بجناحيها.
(نشر في مجلة “محكمة” – العدد 23 – تشرين الثاني 2017 – السنة الثانية)