هكذا أصيب مصطفى بدر الدين.. في خلدة/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
يعتبر مصطفى بدر الدين من مؤسّسي المقاومة الإسلامية ونواتها التي قاتلت الإسرائيلي في معركة خلدة الشهيرة في العام 1982 حيث أصيب.
وقد نشرتُ في الجزء الثاني من كتابي“شبكات الوهن- عملاء إسرائيل في قبضة القضاء” الصادر في العام 2004، حكاية إصابة بدر الدين، وآثرت آنذاك، ألاّ أذكر إسمه كاملاً واكتفيت بالإشارة إليه بالحرف الأوّل من اسمه (ميم).
هنا إستعادة لتلك الحكاية التي لم تكن معروفة قبل نشرها في متن هذا الكتاب، بعدما رواها شاب شارك مع بدر الدين في تلك المواجهة الشرسة:
لا تجد ذاكرة الحاج جلال صعوبة في فتح ملفّات أرشيفها العسكري الضخم والعودة بلمح البصر إلى الوراء للتوقّف عند واقعة خلدة الشهيرة التي دارت رحاها بين الجيش الإسرائيلي بالأسلحة الحربية المتطوّرة والمتقدّمة، ومجموعة صغيرة من الشبّان الإسلاميين غير المعروفين في السجّلات الأمنية السرّيّة المحفوظة لدى جهاز “الموساد”، وسواه من الأجهزة الأمنية الموجودة على الساحة اللبنانية في صيف العام 1982، خصوصاً وأنّ أولئك الشبّان هم النواة الأولى للمقاومة الإسلامية التي أكملت طريق من سبقها في التحرير.
لقد أرّخت معركة خلدة لبزوغ تجربة حزبية جديدة في العمل السياسي والأداء العسكري في الحياة اللبنانية والعربية لم تكن مألوفة من قبل، تجلّت بانضواء الشبّان الأربعة عشر في “حزب الله” وتأسيسهم لمقاومته العسكرية التي سرعان ما احتضنها الشعب ووقف إلى جانبها مؤيّداً ومتضامناً ومنخرطاً في صفوفها دفاعاً عن الأرض والعرض والبلاد والعباد، بعدما أيقن أنّ الخلاص من العدوّ يكمن في التعامل معه بلغة القوّة والبارود، وليس بأساليب التروي والدبلوماسية والتبعية والإسترخاء والإنكسار والمهادنة، خصوصاً وأنّ الجراح التي خلّفتها الهزائم العربية المتتالية ولاسيّما في العام 1967 لم تندمل.
الدعم الإيراني والسوري
وتمظهرت فرادة هؤلاء الشبّان في مصداقية تحمّلهم لعبء التصدّي للعدوّ حتّى الإستشهاد، إذ إنّهم ساروا على أرض ذات الشوكة بخطى واثقة على الرغم من الفاتورة الباهظة لهذا الحمل الثقيل في ظلّ تراجع الماكينة العسكرية الفلسطينية، بما فيها من سطوة وضخامة وخبرة ودعم مالي ومعنوي، وخفوت صوت الأحزاب الأخرى التي كانت تتكئ على حركة “فتح” في إطلالاتها في مختلف الميادين.
طبعاً، لم يكن بمقدور الشبّان الإسلاميين الإنطلاق بقوّة لو لم يتهيّئ الدعم الإيراني السوري في جميع أشكاله بدءاً بالتدريبات المكثّفة، وانتهاء بتأمين السلاح، ولو في أحلك المصاعب والظروف والأوقات.
“أمل” ومكتب مطهّري
لا تخون الذاكرة المقاتل جلال، كيفما حلّ وارتحل، ولا تخيب في استعادة التفاصيل الدقيقة والمجهولة، بكثير من العفوية والشجاعة النادرة، لمعركة تغلغلت في مسام تاريخ وطن صغير إستطاع أن يحفظ ماء الوجه للعروبة، فتراه يحدّد توقيت معركة خلدة باليوم واللحظة والزمن وكيفية حدوث المواجهة الأولى غير المتكافئة بالسلاح مع الإسرائيليين، وذلك من دون الإستعانة بأيّة مادة موثّقة باستثناء ما رسخ في الذاكرة من واقع معاش.
يرتّب جلال قعدته على كرسي قديم في الغرفة السرّيّة التي اجتمعنا بين جدرانها في منطقة الضاحية الجنوبية. يفتح شاشة الماضي القريب على مصراعيه، ويطلق الكلام بلكنة بعلبكية متحمّسة:” كنّا مجموعة من الإسلاميين الموزّعين بين حركة “أمل” وأطر إسلامية أخرى متأثّرة بفكر الإمام الخميني وثورته هي: لجان العمل الإسلامي، اللجان المساندة للثورة الإسلامية في إيران، و”لجان المساجد” أو ما يعرف بمكتب الشهيد مرتضى مطهّري الذي كان يقع في شارع المصبغة في محلّة الشيّاح في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت. ولم نكن مشكّلين تنظيمياً وكانت خبرتنا العسكرية بسيطة. وقد حاول الإسرائيليون تغليب “الفريق الإنعزالي” على الفريق الوطني والإسلامي في وقت بدأت فيه الأحزاب تنهار تحت ضغط الإجتياح، والمنظّمات الفلسطينية بمعظم مقاتليها تفكّر باحتمال المغادرة والنجاة والبقاء على قيد الحياة”.
الإصطدام في “مدينة الزهراء”
يصرّ جلال المتعلّم والمثقّف كما يبدو من لجوئه أحياناً إلى استخدام اللغة العربية الفصحى، على هذه المقدّمة لرسم صورة أوّلية ممهّدة لإنجازات إخوانه المقاومين، وينفث دخان سيجارته ثمّ يدخل بسلاسة أكثر في عمق المعركة ويقول:” عندما وصلت الآليات الإسرائيلية إلى مشارف منطقة خلدة توجّه أربعة عشر شاباً إلى “مدينة الزهراء” المبنى التابع للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، حيث اصطدموا بالآليات على مرحلتين. الأولى وغنموا منها ملاّلة نقلوها إلى الضاحية الجنوبية، والثانية عرفت بمعركة خلدة ودامت من منتصف ليل الأربعاء إلى ظهر اليوم التالي الخميس وتخلّلتها نحو ثلاثين غارة طيران حربي إسرائيلي على المنطقة الممتدة من “مدينة الزهراء” إلى مستودع الخشب(مقابل بون مارشيه حالياً) وصولاً إلى طريق المطار. وشاركت المروحيات والقطع البحرية في القصف أيضاً”.
إصابة بدر الدين
تدفعك فضوليتك للتدخّل ومعرفة مصير الشبّان وما حلّ بهم إزاء هذه الغارات التي تمهّد عادة لاجتياح برّي، ويخبر جلال:” لقد توزّع الشبّان الأربعة عشر وأنا منهم في غير موقع مزوّدين بالأسلحة الفردية وصبرنا وانتظرنا وصول الدبّابات إلى مسافات قريبة جدّاً منّا تعدّ بالأمتار، لا بل إنّ إحدى هذه الدبّابات تجاوزت “مدينة الزهراء” وما أن رأيناها تقع في كمين صبرنا الذي بدأ ينفد حتّى فتحنا النيران عليها دامت المعركة نحو ساعتين ونيّف، أعطبت خلالها آليات عدّة وشاحنات أخرى ووقعت إصابات في صفوف الإسرائيليين، فيما استشهد سمير نور الدين وأصيب قائد المجموعة (ميم)( أيّ مصطفى بدر الدين) و(عين) وأبو مصعب بجروح مختلفة ما زالت آثارها بادية في أجسامهم وستبقى حتّى الرمق الأخير من العمر، ولكنّ المهمّ أنّ الإسرائيليين توقّفوا عن محاولة إقتحام بيروت من جهة الأوزاعي، أيّ من المنفذ الساحلي الجنوبي”.
يتذكّر جلال مليّاً كيف أصيب(ميم) (مصطفى بدر الدين) الذي “بقي نحو خمس وعشرين دقيقة يرمي قاذفات “أر.بي.جي” وأطلق ثمان منها قبل أن يصاب في قدمه برصاصة “500”( نصف إنش) ونقل مع (عين) وأبي مصعب بسيّارة من نوع “بيجو” رمادية اللون إلى المستشفى للمعالجة، ويضيف ضاحكاً”كدنا أن نفتح النيران عليهم ونقتلهم عن طريق الخطأ”.
بدر الدين يحرّر”الشريط المحتلّ”
هل واصل الجرحى الثلاثة والشبّان الآخرون عملهم العسكري في وقت لاحق ضدّ “الجيش الإسطورة”؟ تسأل بإلحاح ويأتي الجواب سريعاً:” نعم، فـ(ميم)( مصطفى بدر الدين) على سبيل المثال لم يتأخّر يوماً في منازلة العدوّ، وتعرف الثغور الأمامية في الجنوب والبقاع الغربي وقع أقدامه وأياديه البيضاء ورماياته الصائبة، وقد صار قائداً للمقاومة الإسلامية وقاد بنفسه عملية شريط تحرير “الشريط المحتلّ” في شهر أيّار من العام 2000، فما استشهد مجاهدان آخران في عمليتين نوعيتين للمقاومة في الجنوب، ولا يزال الباقون أحياء، وما بدّلوا تبديلاً وهم يشغلون مواقع قيادية طليعية ومتفرّقة في هيكلية حزب الله بعيداً عن صخب الإعلام والأضواء، وكانت لهم اليد الطولى في إحباط سلسلة هجمات للكوماندوس الإسرائيلي وتفكيك شبكات تجسّس في غير مكان وزمان، وقد أدمنوا قهر جهاز الإستخبارات الإسرائيلية الخارجية “الموساد” وأنهكوا عزيمته حتّى أعيته الحيل والألاعيب الأمنية المدروسة للنيل منهم، فسعى وسعى، ولكنّ الإخفاق كان حليفه الدائم”.
ثغرة مدرج”ت.أم.آي”
ويؤكّد جلال ما يرد في “حكايات الإجتياح” عن وجود فصائل غير أولئك الشباب في هذه المعركة “ولكنّها لم تشارك فيها، بل كانت تتفرّج علينا، على الرغم من وجودها في مطار بيروت الدولي، ثمّ انسحبت وقدّمته هدّيّة للإسرائيليين ممّا أفسح المجال أمامهم لفتح ثغرة على مدرج “ت.أم.آي”(TMA) المؤدّي إلى محلّة التحويطة في منطقة الضاحية الجنوبية حيث يقع مقرّ قيادة حركة “أمل”.
ووقع الجزء الثاني من المعركة على هذا المدرج حيث وُجه الإسرائيليون بمقاومة شرسة إقتنعوا على أثرها بأنّ اقتحام بيروت من جهتها الجنوبية وإنْ كان ممكناً على الخرائط، إلاّ أنّه يستحيل في الواقع لوجود عناصر غير معروفة لديهم مستعدّة للقتال حتّى آخر طلقة رصاص ونقطة دم ونبض قلب.
ويعزو جلال الذي أضحى واحداً من المجلّين في الإعلام الحربي الخاص بالمقاومة تفكير الإسرائيليين في اقتحام بيروت من ناحيتها الجنوبية إلى كونها” مساحة مفتوحة نسبياً لتحرّك المدرّعات”.
حصار بيروت
وماذا جرى لاحقاً هل استسلمتم؟ تسأل فيما جلال يشعل سيجارة ثانية، ويسرح في صفحات الماضي فيأخذ نَفَسَاً عميقاً ويجيب:” حوصرت بيروت وتمكّن ما يقارب الخمسة عشر ألف عنصر من الحركة الوطنية والقوى الإسلامية وثلاثة آلاف عسكري سوري من إقفال المحاور نسبياً، ولكن بعد مغادرة الفلسطينيين للعاصمة باتت مسألة تحصينها والحؤول دون اقتحامها ضرباً من المستحيل خصوصاً وأنّ عدد المقاتلين إنخفض بشكل رهيب إلى نحو ألف وخمسماية عنصر وأقلّ أيضاً، أيقن معظمهم بأنّ القتال غير مجد باستثناء القلّة التي كان من عدادها أولئك الذين تصدّوا للإسرائيليين في خلدة والمطار وكلّيّة العلوم العائدة للجامعة اللبنانية وتقع في محلّة الشويفات”.
شمس الدين وفضل الله وتهدئة الناس
لم تنته المعركة، ولم يتخلّ الشباب عن أسلحتهم ولاحت تباشير “الحلّ السياسي” وساهم نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الإمام محمّد مهدي شمس الدين والمرجع الإسلامي السيّد محمّد حسين فضل الله وآخرون في تهدئة الناس وطمأنتهم إلى أنّ الإسرائيليين لن يدخلوا بيروت، وبوشر بإزالة السواتر الترابية وأكياس الرمل وإحلال الجيش اللبناني مكانها، فاغتنم الإسرائيليون هذه الفرصة السانحة وأخذوا يدخلون على الرغم من اعتراضات العلماء، ووقفت الدولة اللبنانية متفرّجة وشاهدة زور ممّا استدعى العودة إلى لغة السلاح لأنّها الأنجح، واشتبك المقاومون مع الدبّابات الإسرائيلية في معركتين مهمّتين إندلعتا في محلّة برج أبي حيدر في بيروت، وفي ساحة الغبيري في منطقة الضاحية الجنوبية، واستمرّ إطلاق النار ورمي القنابل في محلّتي الاوزاعي وبرج البراجنة في الضاحية الجنوبية وغيرهما، وعرف الإسرائيليون أنّهم يواجهون عدوّاً غامضاً وقويّاً يستحيل القضاء عليه، على الرغم من مناخ الهزيمة السائد. وبدأوا يعلنون عبر مكبّرات الصوت وبواسطة ضبّاط الإتصال والتنسيق من الجيش اللبناني ومختار الغبيري المرحوم فوزي الخنساء وآخرين بأنّهم في صدد العبور من دون التمركز، وبأنّه ليست لديهم أيّ نيّة في إدخال ميليشيا سعد حدّاد إلى الضاحية الجنوبية وبيروت الغربية، ثمّ ما لبثوا أن حزموا أمتعتهم على عجل، على إثر العمليات النهارية والليلية للمقاومة ورحلوا إلى غير رجعة.
“محكمة” – الإثنين في 2018/05/14