هل أصبح تطبيق القانون مستعصياً على السلطة القضائية؟!/يوسف لحود
بقلم المحامي يوسف لحود:
القضاء هو السلطة الدستورية المختصّة بمراقبة احترام القوانين، ومحاسبة المستنكفين عن تطبيقها أو المخلّين بأحكامها.
والمحامون هم الجناح الثاني في ترسيخ هذه المهمة الدستورية الجوهرية، عبر تأمين حقوق الادعاء والدفاع بصورة كاملة.
فلا يموت حقّ وراءه مطالب، ولا يُحكم إنسان دون أن يستفيد من حق الدفاع المقدّس.
بالاستناد الى ذلك،
وبعد أن قرّر قاضي التحقيق تخلية سبيل موكّلنا– إثر تحقيقات مطوّلة ومعمّقة – عُرض القرار على النيابة العامة لاستعمال حقّها بموجب المادة 135 أ.م.ج. فتمّ استئناف القرار المذكور من قبل حضرة النائب العام المحترمة.
وبالطبع فالنيابة العامة– بعكس قاضي التحقيق– لا تكون قد محّصت الملف، لا سيّما وأنّه بين عرض الملفّ عليها وبين اتخاذ القرار بالاستئناف لا يكون ثمّة وقت أكثر من ساعة، مع الاشارة إلى وجود عشرات الملفّات الأخرى المعروضة إمّا لإبداء الرأي بطلب تخلية سبيل أو بشأن قرار تخلية السبيل.
ورغم أنّ قرار النيابة هنا هو أقرب للروتين الشائع في أنّ النيابة العامة تستأنف جميع (أو غالبيّة) قرارات تخلية السبيل، إلّا أنّ فعلها هذا ينطبق على المادة 135 أ.م.ج. دون أن يكون منطبقاً على مبدأ العدالة المدقّقة والتي توجب مقاربة الدعاوى من خلال مضمون الملفّ وأساسه لا من خلال المواد القانونية المدوّنة على غلاف الملفّ الخارجي!
مع الملاحظة الهامة أنّ عرض قرارات تخلية السبيل محصور بالنائب العام وليس بالمحامي العام المشرف على التحقيقات الأوّلية والذي لديه الحدّ الأدنى من الاطلاع على مضمون الملفّ.
فإذا كانت النيابة العامة تحرّك الدعوى العمومية على الشبهة والشكّ ثمّ تترك لقاضي التحقيق التوسّع والتدقيق، فإنّه بعد أن يقوم قاضي التحقيق بمهمّته هذه، فلا يعود للنيابة العامة (منطقاً) معاكسة قرار المحقّق بصورة مسطّحة وغير مبرّرة، لأنّها بذلك تكون قد أغرقت الهيئة الاتهامية بملفّات عديدة تضطرّ لتمحيصها بهدف بتّ الاستئناف الذي لا يجوز بتّه بصورة مسطّحة أيضاً!
بل يجدر عندها بالنيابة العامة وبهدف ممارسة حقّها بالاستئناف أن تطلع على أساس الملف ضنّاً بحريّات الناس، ومنعاً لإغراق المحاكم بملفّات إضافية.
في كلّ حال لم نتذمّر من موقف النيابة المبرر قانوناً، واستعجلنا بنقل الملفّ إلى الهيئة الاتهامية أصولاً للبتّ باستئناف النيابة العامة، وكان يوم الخميس في 2022/11/17.
فتبيّن لنا أنّ الغرف الثلاث للهيئة الاتهامية غير حاضرة في قصر عدل بعبدا بفعل الاعتكاف، وأنّ إحدى الغرف قد انفضّ نصابها قبيل الظهر لعدم إمكانية تحمّل وزر كلّ الملفّات المحالة استئنافاً، ولتعذّر استكمال نصابها بعدم توفر أيّ قاضٍ لانتدابه.
وانقضت خمسة أيّام دون أيّ تحريك للملفّ لبتّ استئناف النيابة العامة قبولاً أو رفضاً،
إزاء ذلك، وإزاء وضوح المادة 138 أ.م.ج.، تقدّمنا بتاريخ 2022/11/21، بطلب من حضرة النائب العام الاستئنافي لإطلاق سراح الموكّل حكماً، بفعل نصّ قانوني وجوبي صريح لا يقبل أيّ تفسير أو استنباط، وهو يتعلّق بحريّة الفرد.
وهذا هو نصّ الطلب:
أوّلاً – في موجز الوقائع:
1 – سبق للمستدعي أن تقدّم بطلب لتخلية سبيله فتمّ ردّ الطلب لدى حضرة قاضي التحقيق لسبب عدم اكتمال التحقيق، رغم أنّ أيّ دليل أو حتّى قرينة على توفّر عناصر المادتين 125 أو 126 مخدّرات لم يكن مثبتاً في الملفّ بصورة مطلقة، وأنّه سنداً للمادة 120 أ.م.ج. فلا يجوز احتجاز أو توقيف أيّ إنسان لحين توفّر الأدلّة بحقّه، بل على العكس تماماً فإنّ مبدأ البراءة يتقدّم على أيّ أمر آخر من شبهات أو ظنّ… حتّى إذا توفّرت أيّ شبهة لا يصار إلى توقيف البريء حتّى تثبت إدانته، وإنّما يمكن منعه من السفر وتخلية سبيله بكفالة أو بأيّ تدبير آخر من تدابير المادة 111 أ.م.ج. لحين ورود أيّ دليل فيعاد توقيفه.
2 – بعد استكمال التحقيق، تأكّد لحضرة قاضي التحقيق أنّه لا دليل أو قرينة على الاطلاق ترجّح أو تجعل من المادتين 125 أو 126 مخدّرات متوفرة العناصر ولو بصورة إحتمالية،
وكنا قد تقدّمنا بطلب ثانٍ لتخلية سبيل المستدعي، وفي ضوء ما توفر لحضرة قاضي التحقيق من معطيات وافق على تخلية السبيل بكفالة رمزية بلغت/000، 500/ل.ل. وذلك بتاريخ 2022/11/16.
3 – أحيل الملف أصولاً أمام جانب النيابة العامة، وذلك لاستعمال صلاحيتها في استئناف أو عدم استئناف قرار تخلية السبيل، وكان ذلـك يوم 2022/11/17.
4 – إستأنفت النيابة العامّة قرار تخلية السبيل في اليوم ذاته أيّ في 2022/11/17، رغم أنّ المعطيات الواقعية، والتحقيقات كافة بما فيها لدى شعبة المعلومات ولدى مكتب مكافحة المخدّرات ومن ثمّ لدى حضرة قاضي التحقيق، كلّها تحسم أنّ المستدعي مريض مدمن يعاني من أمراض عصبية ونفسانية ولا علاقة له إطلاقاً بالاتجار أو الترويج وهو كناية عن ضحية – مريض، إلّا أنّ الدليل الوحيد ضد المستدعي كان في ما هو مدوّن على غلاف الملف من الخارج من أنّه مدعى عليه بموجب المادة 125 مخدرات؟!
5 – رغم انقضاء حوالي 96 ساعة على استئناف جانب النيابة العامة لقرار حضرة قاضي التحقيق بتخلية سبيل المستدعي إلّا أنّ أيّ قرار عن جانب الهيئة الاتهامية لم يصدر بعد.
ثانياً – في القانون:
1 – حيث إنّ قانون أصول المحاكمات الجزائية– كما كلّ القوانين– يتضمّن موجبات وحقوقاً متوازية لفرقاء الدعوى الجزائية،
وحيث إنّ حقّ النيابة العامّة الوارد في البند 1 من المادة 135 أ.م.ج. والمتعلّق باستئناف جميع قرارات قاضي التحقيق، يقابله موجب واضح على النائب العام تحديداً (لصراحة النصّ) ، وذلك حسب المادة 138 من القانون ذاته.
2 – وحيث إنّ هذا الموجب الوارد في المادة 138، لا يرتبط سوى بنتيجة واضحة هي عدم اتخاذ الهيئة الاتهامية أيّ قرار بشأن استئناف النيابة العامة لقرار تخلية سبيل المستدعي بمهلة 24 ساعة، دون اشتراط أيّ موجب آخر على الهيئة الاتهامية، ودون منح حضرة النائب العام أيّ مبرر لعـدم وجــوب إنفــاذه المادة 138، لا ســيّما في ما يتعلّق بعدم مســؤوليته عــن عـدم انعقـاد الهيئة الاتهامية، أو وجود أيّ اعتكاف أو إضراب (هو غير قانوني في مطلق الأحوال إذ إنّه لا يجوز لصاحب سلطة العدالة أن يعتكف ويعلّق أمور الناس المادية، والأهمّ حرّياتهم، بل يمكنه الاستقالة إذ إنّ هذه الأخيرة لا تقود إلى الفراغ الذي يمكن ملؤه بالإنتداب أو بالتكليف بعكس الاعتكاف أو الاضراب والتمسّك بمنصب السلطة في آن واحد …).
3 – وحيث إنّه بانقضاء 24 ساعة على استئناف النيابة العامة وعدم بتّه من قبل الهيئة الاتهامية ، يصبح وجوباً وحكماً على النائب العام أن يطلق سراح الموقوف المخلى سبيله (المستدعي) ،
إذ إنّ كلمة “حكماً” تعني بوضوح واجباً تلقائياً يقع على عاتق النائب العام دونما أيّ حاجة لأيّ استدعاء أو طلب،
إذ من واجب النائب العام المشرف على أعمال النيابة العامة المسؤولة عن أماكن التوقيف، كما المسؤولة عن متابعة طلباتها التي تتقدّم بها خاصةً أيّ استئناف يتناول تخلية سبيل أيّ مدعى عليه لمعرفة واستطلاع تطبيق القوانين الملزمة لا سيّما منها المادة 138، إمّا بحثّ الهيئة الاتهامية على بتّ استئنافها ضمن مهلة 24 ساعة، وإمّا إنفاذ إطلاق السراح حكماً إحتراماً للقانون،
إذ إنّ مخالفة القانون من قبل المستدعي (نسلّم بها جدلاً ليس إلاّ)، لا يمكن معالجتها بمخالفة أخطر وأدهى، لا سيّما أنّ المخالف الأوّل هو مواطن عادي، بينما المخالف الثاني هو المؤتمن على تنفيذ القوانين وملاحقة مخالفيها، فتكون مخالفة المكلّف دستوراً بتطبيق القانون ومعاقبة مخالفيه ذات مفاعيل أخطر بكثير من مفاعيل مخالفة القانون من إنسان عادي (هو مريض في كلّ حال حسبما تثبته التقارير في الملفّ، ونعتقد أنّ جانب النيابة العامة قد اطلعت عليه قبل اتخاذ قرارها باستئناف قرار قاضي التحقيق بتخلية سبيل هذا المدمن المريض).
4 – وحيث إنّ المستدعي يعاني من أمراض نفسانية دقيقة تشكّل خطراً عليه أولاً وعلى المتواجدين معه ثانياً في حال عدم انتظام تناوله أدويته الخاصة(وهذا يستحيل أن يتمّ إلّا في المنزل أو في المستشفى)، وإنّ هذا الأمر مثبت في الملف.
كما أنّ المستدعي يعاني من إدمان مزمن ومكثّف على المخدرات ممّا يجعله مريضاً وليس مجرماً ويتوجّب تمكينه من العلاج الذي أصرّ ولا يزال يصرّ عليه (وهذا مثبت أيضاً في ملفّ التحقيق)، ممّا يشكّل مخالفة إضافية للمواد 193– 194– 195 مخدّرات إذ إنّ أيّ جمعية تُعنى بعلاج المدمنين لا يمكنها القيام بهذه المهمّة الإنسانية طالما أنّ المريض هو داخل السجن.
5 – وحيث إن المادة 135 أ.م.ج. لم تفرض وجوباً على النيابة العامة استئناف قرارات قاضي التحقيق (بعكس ما أوجبته المادة 138 لناحية إطلاق السراح)،
وإنّ لجوء النيابة العامة لاستعمال حقّها بالاستئناف إنّما هو غير مباح بصورة مطلقة إنْ لم يكن متوازناً وحكيماً وآخذاً بالاعتبار الظروف الواقعية والقانونية، وذلك للأسباب التالية:
أ – إنّ ملفّ الدعوى متشعّب ويوجد أكثر من مدعى عليه وهو بات يضمّ مئات الصفحات.
ب- إنّ إمكانية النائب العام (الذي استأنف قرار قاضي التحقيق) في تمحيص كامل الملفّ معدومة تماماً، إذ إنّه قد تمّ تناول الاستئناف فيه بدقائق معدودات.
ج- إزاء إستحالة أن يتمكّن النائب العام من الاطلاع بعمق على معطيات الملفّ بعكس قاضي التحقيق الذي استمرّ في تحقيقاته المكثّفة لأكثر من شهر وبصورة أسبوعية، واطلع على تحقيقات الضابطة العدلية وعلى “داتا” الاتصالات وأجرى المقابلات… فإنّه من غير العادل وغير المنطقي أن يكون الاستئناف عندها مسألة روتينية تلقائية دون أيّ مبرّرات قانونية أو حتّى دون أيّ تعليل واضح (حتّى ولو كان في حدوده الدنيا) يبرّر استئناف قرار تخلية السبيل، ويثبت أنّ ثمّة أدلّة أو حتّى قرائن (وتعدادها بدقّة) تشير إلى ضلوع المستدعي في جريمة المادة 125 مخدّرات، إذ إنّ الشائع (وهو خطأ فادح)، أنّ النيابة تعتمد الشكّ والظنّ والريبة والشبهة… للإدعاء، في حين أنّ حرّيات الناس وكراماتهم وصحّتهم لا يمكن الاستخفاف بها والتلطّي بهذه الشعارات الخاطئة، حتّى ولو سلمنا بها جدلاً، فإنّه حتّى الشبهة يجب أن يتمّ تعليل ثبوتها ووضوحها بالإستناد إلى وقائع محدّدة… وهذا ما لم تقدم عليه حضرة النائب العام التي اكتفت بالاستئناف دون أيّ تعليل أو تبرير أو إبراز للوقائع الحاسمة التي تشير إلى أيّ شبهة تتعلّق بتوفر عناصر المادة 125 أو المادة 126 مخدّرات، ممّا يدلّ على أنّ استئناف قرار قاضي التحقيق يندرج في إطار الروتين الشائع خلافاً للموجبات القانونية التي تقتضي الإلتزام بالتدقيق والتعليل…
د- في مطلق الأحوال، وبالنظر إلى الظروف السائدة في المجتمع، (وهو الذي تمثّله النيابات العامة)، فإنّه كان يجدر بحضرة النائب العام أن تكون مطّلعة على ما يلي، حتّى لا تصبح قرارات النيابة العامة منفصلة عن الواقع المجتمعي:
– إزدحام لا مثيل له في السجون والنظارات.
– إنتفاء تطبيق أيّ شروط صحّية وإنسانية.
– تفشّي وباء “كورونا” ومتفرّعاته، وأُضيف عليه حالياً وباء “الكوليرا”، وسواها من أمراض وأوبئة تؤثّر في سلامة الموقوفين جسدياً (الجرب– الربو– الحساسيّة…).
– إزدياد أعداد غير اللبنانيين، وازدياد معدّلات الجريمة لا سيّما منها الجرائم الخطيرة مثل القتل والسـلب.
– عدم اعتماد التوزيع وفصل الموقوفين بالنظر إلى نوعية جرائمهم، فبات وضع المريض المدمن مـع تاجــر المخدّرات والشــاب اليانــع مصدّر الشـيك دون مؤونــة مـع المغتصب القاتــل… مســـألة رائجـة، ممّا يؤدّي إلى نتائج عكسية تماماً لما يتوخّاه القانون في تبرير إصدار مذكّرات التوقيف لتشكّل درساً للموقوف يسـتفيد منه.
– عدم وجود أيّ تأهيل للسجناء حتّى يستفيدوا من التوقيف بدلاً من تدميرهم ومضاعفة سلوكهم المنحرف بدلاً من تقويم اعوجاجه.
– المخاطرة بإفقاد الموقوفين أعمالهم ووظائفهم ومضاعفة البطالة بما يؤثّر سلباً في المجتمع.
– الإستعمال المفرط للحقّ بالإحتجاز أو التوقيف الإحتياطي المعطى لأصحاب الصلاحيات، بدلاً من تفعيل المادة 111 أ.م.ج. في ظلّ كلّ ما عرضناه أعلاه.
– معرفة النائب العام بظروف العدالة والسلطة القضائية، إذ إنّ غالبية القضاة معتكفون، وقد شارف مرفق العدالة على التعطيل النهائي والانهيار السريع (رغم الحقّ المشروع والنبيل لما يطالب به السادة القضاة مع الاختلاف بالآراء لناحية الوسائل المتّبعة أو التي يمكن اتباعها لنيل الحقوق وتحسين قصور العدل الراتعة في أوضاع مُريعة)، وبالتالي فإنّ تأمين انعقاد الهيئة الاتهامية بمهلة 24 ساعة (رغم وجود ثلاث هيئات في جبل لبنان) هو شبه مستحيل، ومن واجب النيابة العامة إنفاذاً للمادة 138 أ.م.ج. إمّا المساهمة، بأيّ وسيلة متاحة، في تأمين انعقاد الهيئة الاتهامية للبتّ باستئنافاتها الكثيفة ضمن المهل المحدّدة، وإمّا إنفاذ القانون الواضح لناحية إطلاق السراح الحكمي طالما أنّه لم يعد ثمّة أيّ سبب لإبقاء المدعى عليه موقوفاً سوى استئناف النيابة العامّة المهمل من قبلها وغير المشمول بأيّ متابعة منها لبتّـه ضمن المهل القانونية المحدّدة لذلـك واســتناداً إلى ما عرضناه أعلاه، وإلى وضوح نصّ المادة 138 أ.م.ج. غير المشروط بأيّ أفعال يلتزم بها المستدعي إطلاقاً، بما يحظّر تحميله في حرّيته وكرامته وزر ونتائج أفعال أو عدم أفعال سواه (أكان الهيئة الاتهامية أو النيابة العامة)،
وإلى وجوب إطلاق سراح المستدعي حكماً ودون أيّ أمر آخر من مثل الكفالة أو انتظار انعقاد الهيئة الاتهامية (بعد انقضاء 24 ساعة)، أو احتمال انعقادها في يوم ما، أو لدواعي الإعتكاف، أو لأيّ سبب آخر يتعلّق إمّا بالأوصاف الجرمية للأفعال موضوع الاستئناف، فيقتضي إنفاذ القانون وإطلاق سراح المستدعي بدون أيّ شرط أو استمهال وبصورة فورية.
لذلك، يطلب المستدعي:
1 – إنفاذاً للمادة 138 أ.م.ج. إطلاق سراحه حكماً وفوراً، دونما أيّ شروط أو انتظار، وردّ المضبوطاب كافة لعدم كونها مواد جرمية بطبيعتها ولعدم الجدوى بإبقائها محتجزة ومضبوطة.
2 – يحتفظ المستدعي بحقوقه كافة والتي نشأت فور انقضاء 24 ساعة على استئناف النيابة العامة وعدم البتّ بالإستئناف، كما عدم إطلاق سراحه حكماً، وذلك بالاستناد للمادتين 367 و371عقوبات معطوفة على المادة 138 أ.م.ج.
وقد اعتقدنا أنّ وضوح النصّ القانوني يطبّق بسهولة أمام المرجع القضائي المختصّ، إلّا أنّ المفاجأة كانت مزدوجة:
– من خلال ردّ الطلب المسند إلى مادة قانونية لا لبس فيها ولا إبهام،
– من خلال التعليل المعتمد لردّ الطلب، والذي ورد بما حرفيته: “إنّ الهيئة الاتهامية عادت لتلتئم وبالتالي يجب تقديم الطلب إليها لأنّها محكمة الأساس في هذا الموضوع وكان يتوجّب على المستدعي تقديم دعوى بالإمتناع عن إحقاق الحقّ بحقّ القضاة”،
كما طلبت حضرة النائب العام من موظّف القلم لدى النيابة العامة عدم تسجيل أيّ طلب يتقدّم به أيّ محام أو سواه مسند إلى المادة 138 أ.م.ج.
إنّ هذا الأمر الخطير يفتح الباب على مصراعيه حول ملاحظات هامة، منها:
1 – إنّ ضغط العمل، والظروف المزرية لقصور العدل ، وندرة القضاة المداومين… لا تُبرر إطلاقاً غضّ النظر عن نصوص قانونية ملزمة، فإذا كانت المادة 135 أ.م.ج. قد أولت النيابة العامة حقّاً لصالح المجتمع، فإنّ المادة 138 من القانون ذاته قد ألزمتها بواجب لصالح الفرد، فلا يجوز عندها لمرجع قضائي أن يمارس حقوقه بتسرّع ثمّ يتنصّل من واجباته.
2 – إنّ الظروف الاستثنائية وغير المسبوقة التي يُعاني منها القضاء، وقد أشار إليها قرار النائب العام، توجب على حائزي سلطة الاحتجاز والتوقيف توخّي الحكمة وعدم الإفراط في ممارسة هذا الحقّ، وتفعيل المادة 111 أ.م.ج.
3 – إنّ المسؤول عن تطبيق المادة 138 أ.م.ج. هو النائب العام وليس الهيئة الاتهامية، فلا يجوز أن يرد في القرار وجوب مراجعة الهيئة الاتهامية والتي في حال عدم انعقادها يمكن مقاربة المسألة معها من خلال المادة 4 أصول محاكمات مدنية المتعلّقة بالإستنكاف عن إحقاق الحقّ، بما يعني أنّ عدم بتّ الاستئناف المقدّم من النيابة العامة ضدّ قرار تخلية سبيل الموقوف، يتيح لهذا الأخير طلب تطبيق المادة 138 أ.م.ج. كما يمكنه مداعاة الدولة عن أعمال قضاتها العدليين سنداً للمادة 4 أ.م.م.
وإنّ اعتماد أيّ حقّ من هذين لا يُلغي الآخر، إذ إنّ عدم انعقاد الهيئة الاتهامية أصولاً هو كمثل الاستنكاف عن تطبيق المادة 138.
4 – إنّ معرفة النائب العام الأكيدة بوضع الهيئة العامة لمحكمة التمييز، وباعتكاف غالبية القضاة ، وبالوقت الذي تستلزمه أيّ مراجعة بهذا الشأن، لا تتلاءم مع ما تطرحه كبدليل عن تطبيق المادة 138، ولم يرد في قرارها أيّ تعليل قانوني لعدم تطبيق هذه المادة.
وإنّ عبارة “عادت لتلتئم” هي غير واقعية، وغير قانونية طالما أنّه انقضت خمسة أيّام ولم تبتّ الهيئة الاتهامية باستئناف النيابة العامة (أكانت الهيئة مكتملة ومنعقدة أم لا، طالما أنّ المادة 138 لا تشترط سوى مرور 24 ساعة دون البتّ بالاستئناف).
5 – إنّ وضوح المادة 138 لناحية مسؤولية النائب العام في إطلاق سراح الموقوف حكماً، إنّما هي مرتكزة إلى كون أنّ الموقوف قد أُخلي سبيله وهو إذا كان لا يزال موقوفاً فبسبب استئناف النيابة العامة وليس سوى ذلك، وبالتالي، يتوجّب على النيابة العامة متابعة استئنافها بشتّى الطرق، واعتبار أنّ حرّية الإنسان توزن في ميازين القراريط وليس على قبّان الشاحنات (أيّ أنّها تقاس بالثواني وليس بالأيّام والأسابيع…) فلا يعقل تعليق تخلية سبيل موقوف بكلمتين: نستأنف القرار”، ثمّ نسيان الأمر تماماً، في حين أنّ الموقوف هو جزء من المجتمع الذي تمثّله النيابة العامة.
وإنّ الأصل لدى النيابة حين تستعمل صلاحياتها هو التدقيق وليس العشوائية لأنّ ظلم الناس غير مقبول لا سيّما من المسؤول عن رفع ظلامتهم.
وأمّا إذا كان ثمّة نقص في العنصر البشري (قضاة ومساعدون قضائيون)، وانهيار لوجستي فادح (في قصور العدل)، فإنّه بدلاً من اللجوء إلى اعتماد الاستئناف الروتيني المنفصل غالب الأحيان عن محتوى ملفّ الدعوى، فإنّه من المستحسن ترك الأمر لقاضي التحقيق الذي يحيط بمضمون ملفّه بدقّة، وهو قاضٍ يحلف اليمين ذاتها كما قضاة النيابة العامة، وهو مؤتمن على العدالة ومصلحة المجتمع والفرد سواء بسواء.
6 – وأمّا الذي استرعى انتباهنا بعمق هو ما ورد في قرار النائب العام لناحية إقرارها بوجود: “إمتناع عن إحقاق الحقّ” بما يشكّل مسألة خطيرة تمسّ جوهر السلطة القضائية التي لا يجوز لها أن تكون صاحبة سلطة حصرية في موضوع العدالة ثمّ تستنكف عن استعمال هذه السلطة، بما يبرّر حينها لشريعة الغاب ولاستيفاء الحقّ بالذات وللتمرّد والعصيان وسواها ممّا قد يؤدّي إلى انقلاب الأمور تماماً وبسرعة غير متوقّعة واستكمال إنحلال الدولة بعد سقوط هيبتها.
7 – في ظلّ الفساد المستشري، والفوضى السائدة في السلطتين الأخريين، يراهن الناس على السلطة القضائية، إلّا أنّهم وفي ضوء ما ورد من معطيات هامّة وخطيرة في قرار حضرة النائب العام المحترمة، يكاد اليأس يطيح برهانهم عندما يرون أنّ العمل القضائي قد بات أسير الروتين والاستعجال وضيق الوقت وتراكم الملفّات والظروف المريعة المادية والمعنوية. وفَقَد بالتالي فعالته ليس فقط لناحية إنصاف المظلومين بصورة سريعة، بل في تشكيل نواة صلبة لهيبة رادعة يمكن عبرها إستعادة دولة القانون، ممّا جعل النتيجة المرجوّة معاكسة للنتيجة الحالية والتي تتصّف بالتوتّر وعدم التدقيق واللامبالاة وتبادل الاتهامات والمسؤوليات، ومقاربة العمل القضائي الدقيق وكأنّه عمل عادي روتيني ونسيان حرّيات الناس وكرامتهم وصحّتهم.
8 – في الختام، نأمل أن تستعيد السلطة القضائية دورها الطليعي في ترسيخ العدالة عبر فرض هيبتها. وبدلاً من حرق الوقت في ملاحقة عامّة الناس، وإرهاق السجون بهم، وحرق أعصاب القضاة وإرهاقهم في أعمال روتينية لا تتناول سوى صغار المرتكبين، إستدعاء مختلسي الأموال العامة من الخاصة وكبار القوم، وتحت عناوين متاحة:
– التعدّي على الأملاك العامة البحرية والنهرية والبرية،
– السمسرات، الرشاوى، تبييض الأموال، الإثراء غير المشروع،
– التهرّب الضريبي،
– الإحتكار وسائر أفعال الفساد والتسلّط،
ومن لا يأتي يتمّ إحضاره، وإذا فشل الاحضار لأيّ سبب كان، إصدار مذكّرة توقيف غيابيّة، وتعميمها داخل لبنان وخارجه، وإبلاغ صور عنها للمرجعيات الدولية…
وكلّما اتسعت المروحة في الملاحقة وطالت لائحة الموقوفين غياباً، تنفّس الوطن الصعداء، وبات المسؤولون الفاسدون في وضع لا يحسدون عليه يضطرّون فيه إمّا لتغيير سلوكياتهم، أو الفرار أو الخضوع لسلطة قضائية أثبت القضاة إستقلاليتهم ووحدتهم قبل نيل استقلالية القضاء ناجزة.
فإذا اتحّد القضاة وانفصلوا عن أيّ مرجعيات سوى واجبهم الأخلاقي والوطني، لكبرت كرة الثلج وأطاحت الفساد والطبقة الفاسدة، وهو عمل مضنٍ ولكنّه غير مستحيل، فقاضيان فقط في إيطاليا إقتلعا المافيا المتجذّرة.
وإنّ تفسير المادة 70 دستور، والجرأة في مقاربتها، سوف تشكّل دون أدنى ريب، موجة عارمة تطيح بمصالح من تتمّ ملاحقتهم، وبسمعتهم وحرّية حركتهم خارج لبنان، ممّا سوف يعيد إلى لبنان مكانته الدولية والمالية والاقتصادية.
وهذا الدور وقف وبصورة حصرية على السلطة القضائية، إذ إنّ أيّ ثورة أخرى لن يكون مردودها حاسماً كثورة القضاة هذه.
“محكمة” – الأحد في 2022/11/27