“هندسات قضائيّة” برعاية رئيس مجلس القضاء الأعلى… خلافًا للقانون: ممنوع كفّ يد البيطار
مستنسخًا تجربة “زميله” رياض سلامة في “الهندسات الماليّة”، يُجري رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود “هندسات قضائيّة”، خلافًا للقانون، لمنع كفّ يد القاضي طارق البيطار عن قضيّة تفجير المرفأ*.
خلافًا للقانون، يُمنع الادّعاء على قضاة مشتبه فيهم من قبل البيطار.
وخلافًا للقانون، تُرفض طلبات ردّ البيطار.
وخلافًا للقانون، يُمنع التحقيق في دعوى تزوير منسوب للبيطار.
وخلافًا للقانون، يتدخّل رئيس مجلس القضاء الأعلى لمنع قاضٍ من استكمال النظر في طلب ردّ البيطار.
تقدّم الوزير يوسف فنيانيوس بطلب ردّ القاضي طارق البيطار عن قضيّة المرفأ. أحيل الطلب على محكمة يرأسها القاضي نسيب إيليا. عاد فنيانوس ليطلب ردّ القاضي إيليا، فأحيل الطلب على غرفة يرأسها القاضي حبيب مزهر، فقرّر بدء إجراءات النظر بطلب ردّ القاضي البيطار.
سريعًا، تقدّم محامون بطلب لردّ القاضي مزهر، في ما يجري التحضير لطلب ردّ عضوين في الغرفة التي بات يرأسها مزهر، إلى جانب درس إمكان “الادعاء” على رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود بـ”جرم” “الارتياب المشروع”.
هذه “الخبصة” القضائية ليست شأنًا إجرائيًا وحسب، بل أمر سياسي بالدرجة الأولى. المحقّق العدلي في جريمة انفجار المرفأ، القاضي طارق البيطار، كان يتباهى أمام زملاء له بأنّ “أيّ قاضٍ لن يجرؤ على إزاحتي عن ملفّ المرفأ”. وتباهيه كان في محلّه. كلّ طلبات الردّ التي جرى التقدّم بها لكفّ يده عن التحقيق، تمّ رفضها عبر مخالفات قانونية صريحة، برعاية رئيس مجلس القضاء الأعلى. هندسَ الأخير تركيب غرف المحاكم التي تنظر في دعاوى الردّ والارتياب، بصورة أفضت إلى جعل البيطار قاضيًا “لا يُرَدّ”، حتّى لو اشتُبِه بارتكابه جرم التزوير.
وعندما تقدّم فنيانوس بدعوى مباشرة لدى النيابة العامة التمييزية بحقّ البيطار، متهمًا إيّاه باتخاذ قرارات بعد كفّ يده مؤقّتًا، وتسجيل تلك القرارات بتاريخ سابق، حفظ المحامي العام التمييزي القاضي عماد قبلان الشكوى، من دون أن يقوم بأيّ إجراء تحقيقيّ، في مخالفة صريحة للقوانين وللمبادئ العدلية.
آخر فصول “فعل المستحيل” لإبقاء ملفّ المرفأ في يد البيطار جرى أمس. إعادة عرض الوقائع توضح الصورة:
1- تقدّم فنيانوس بطلب ردّ القاضي بيطار، فأحيل طلبه على الغرفة التي يرأسها القاضي نسيب إيليا.
2- تقدّم إيليا بعرض تنحّيه عن النظر في طلب فنيانوس، لأنّه سبق أن أصدر قرارًا رفض فيه طلبًا مماثلًا من النائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر، ما يعني أنّه صاحب رأي مسبق لا يجوز له النظر في الطلب. لكنّ الرئيس الأوّل لمحاكم الاستئناف في بيروت، القاضي حبيب رزق الله، جمع الغرفة التي يرأسها، وأصدر قرارًا رفض فيه عرض التنحّي المقدّم من إيليا، رغم أنّ الأصول توجب تنحّي الأخير.
3- تقدّم فنيانوس بطلب ردّ إيليا عن النظر في طلب الردّ الذي قدّمه بحقّ البيطار. أعاد إيليا عرض تنحيه، فقبله رزق الله، بحسب ما هو وارد في سجّل المحكمة. ففي هذا السجّل، ورد حرفيًا:”تقرّر تكليف الرئيس حبيب مزهر لترؤس هيئة الغرفة الاستئنافية الثانية عشرة للنظر في الملفّ الرقم 2021/72 (طلب ردّ القاضي نسيب إيليا المقدّم من الوزير السابق يوسف فنيانوس)، مكان الرئيس نسيب إيليا المقبول تنحيه، وإبلاغ ذلك من يلزم.”
4- قبِل القاضي حبيب مزهر التكليف، وقرّر النظر في طلب فنيانوس ردّ البيطار، وطلب من الأخير كفّ يده عن متابعة قضيّة المرفأ إلى حين البتّ بطلب الوزير السابق. إستند مزهر في قراره إلى كون التكليف يتضمّن تصريحًا واضحًا من زرق الله بقبول تنحّي إيليا، ما يعني حُكمًا أنّ موضوع تكليفه هو النظر في طلب فنيانوس ردّ البيطار، بما أنّ طلب ردّ إيليا صار بلا موضوع بعد قبول تنحيه.
قرار القاضي مزهر أثار الكثير من اللغط. إنقلبت العدلية رأسًا على عقب يومَ أمس.
تدخّل رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود الذي وصل إلى مركز عمله في الصباح الباكر، وحصل نقاش حاد مع الرئيس الأوّل لمحاكم الاستئناف في بيروت حبيب رزق الله الذي سئِل عن سبب تكليفه مزهر بدعوى ردّ البيطار. فأجاب رزق الله بأنّه كلّفه حصرًا بدعوى طلب ردّ القاضي نسيب إيليا الناظر في طلبات الردّ المقدّمة ضدّ البيطار.
كذلك اجتمع رزق الله بمزهر مستنكرًا قراره بحقّ البيطار، ومؤكّدًا أنّه طلب منه النظر حصرًا بدعوى إيليا، لكنّه تجاوز الصلاحيات وقرّر ضمّ الطلبين.
في هذا الوقت، بدأت حملة ضدّ مزهر داخل أروقة العدلية وخارجها. استشعر مزهر بأنّ عبود ورزق الله يحاولان اختلاق وجود التباس، وتنفيذ لعبة تهدف إلى سحب الملفّ كلّه من يده. وبدأ الإعتراض همسًا على إحالة الملفّ إلى قاضٍ شيعي، بعدما تعمّد عبود في المرّات السابقة إحالة كلّ ما يتصل بالقاضي بيطار على غرف يترأسها قضاة ميسيحيون، بعدما نجح فريق الادعاء السياسي في تحويل قضيّة انفجار المرفأ إلى قضيّة تخصّ المسيحيين وحدهم.
وفي إطار البحث عن تخريجة لهذا الإلتباس، بدأت تنهال طلبات ردّ مزهر، مع مطالبات بإحالته على التفتيش القضائي. من الجبهة المضادة، ستُقدَّم دعاوى في وجه القضاة الذين سينظرون في طلبات الردّ!
وفيما قال قضاة وقانونيون إنّ قرار مزهر كفّ يد القاضي البيطار باطل لأنّه حصل من دون تكليف، ردّ قضاة وقانونيون آخرون بأنّ إلغاء قراره مستحيل من دون قرار قضائي صريح. ويقول أصحاب الرأي الثاني إنّ “مخالفة توزيع المهام لا تلغي القرار القضائي الصادر عن قاضٍ صاحب اختصاص”، لافتين إلى أنّ “القاضي مزهر رئيس غرفة استئناف، ولا وجود لأيّ نصّ قانوني يحظّر عليه النظر في طلب ردّ قاضٍ آخر.”
ما جرى في العدلية أمس يثبت مرّة جديدة أنّ التحقيق في تفجير المرفأ خرج من كونه قضيّة جزائية قضائية قانونية ذات طابع سياسي، وتحوّل إلى قضيّة سياسية تتجاوز العمل القضائي والقوانين، أو في أحسن الأحوال تطوّعها لتحقيق هدف سياسي.
مهندس عملية التحويل هذه ليس سوى رئيس مجلس القضاء الأعلى، الذي سبق أن أمّن الحماية للقضاة المشتبه فيهم بانفجار المرفأ، بغطاء سياسي وإعلامي ودبلوماسي غربي. ففي نظر القاضي سهيل عبّود والقوى الداعمة له، لا يمكن تثمير التحقيق في جريمة 4 آب، سياسيًا، إلّا بجعل طارق البيطار قاضيًا “لا يجرؤ أحد على ردّه.”
* المصدر:جريدة الأخبار.
“محكمة” – السبت في 2021/11/6