وباء كورونا والقوّة القاهرة: تعليق على قرار محكمة الاستئناف Colmar /جان تابت
المحامي جان تابت:
أوّلاً- مقدّمة:
1. قلّما يتّحد العالم بأزمة واحدة تثبت مدى ارتباط البلدان بعضها ببعض، ومدى أهمّية التعاضد العالمي والوطني لتجاوز محنة تطال كافة بلدان العالم، وهي أزمة الكورونا فيروس Covid19 التي أصابت 178 دولة من أصل 198 معترف بها من منظّمة الأمم المتحدة، وقد أُصيبت جميعها بالوباء القاتل الذي وصفته منظّمة الصحة العالمية OMS بتاريخ 2020/3/11 بالـpandémie” “ أيّ بـ”الجائحة العالمية”، بالنظر إلى سرعة انتشاره الجيوغرافي، وإلى اجتياحه العالم بشكل طارئ، وبسرعة استثنائية، وبرواج غير مألوف، وقد تسبّب بوفاة عدد كبير من الناس من مختلف الأعمار، ولم يجنّب دولاً كانت في الأمس القريب الأقوى والأكبر.
2. نظراً لحداثة هذا المرض ولخطورته، لا تنفكّ المختبرات تتابع الأبحاث والدراسات سعياً لإيجاد اللقاح اللازم، وللحدّ من انتشار هذا الوباء. وقد حتّم هذا الفيروس “الجائحي” العديد من الإجراءات والتدابير الإحترازية والجذرية من أجل الحدّ قدر الإمكان من التجمّعات البشرية، حتّى طالت هذه التدابير الكنائس والمساجد ودور العبادة، وأدّت إلى إغلاق الأماكن العامة، وقيّدت حرّية التنقّل، واستهدفت بشكل رئيسي المطارات والمرافئ والحدود بين الدول تمهيداً لمحاصرة الفيروس، ولانحساره.
3. وإنّ هذه الجائحة قد ضربت العديد من القطاعات الاقتصادية عرض الحائط، وحالت دون تنفيذ العديد من العقود، وأدّت إلى تعطيل تنفيذ الالتزامات الخاصة المتوافق عليها بين الأفراد، كما أضرّت وبصورة صارخة بالمياومين الذين يجاهدون كلّ يوم في سبيل كسب لقمة عيشهم بصورة آنية غير ضامنين ما سيخبؤه لهم الغد، مغلقةً عليهم مصدر رزقهم الوحيد. هذا عدا القطاع التربوي الذي تأثّرت برامجه الأكاديمية والجامعية سلباً بالجائحة العالمية، والذي تسعى الحكومة إلى النهوض به بأسرع وقت ممكن، من خلال بلورة خطّة ثقافية تربوية مؤقّتة تراعي الأوضاع الاستثنائية التي طرأت عالمياً بصورة غير مرتقبة، وبسرعة غير مسبوقة.
4. إنّ المقرّرات الصحّية العامة، والمراسيم والقرارات الوزارية الاحترازية (من إعلان حالة التعبئة العامة وصولاً إلى منع التجوّل في ساعات محدّدة من السابعة مساءً حتّى الخامسة صباحاً)، لا بدّ منها للحدّ من تفشّي الوباء ومن أجل بناء سور منيع ضدّ كورونا فيروس، وقد كثر النقاش مؤخّراً ما إذا كان هذا الوباء يشكّل حالة القوّة القاهرة التي تؤدّي إلى تعليق تنفيذ العقود، وبالطبع فإنّ المحاكم اللبنانية لن تعطي في القريب العاجل رأيها في الموضوع بسبب حالة الوباء والتعبئة العامة. إنّما صدر مؤخّراً قرار عن محكمة استئناف كولمار الفرنسية، الغرفة السادسة، تاريخ 12-3-2020، رقم 2020/80، كان موضوع مناقشة بين الحقوقيين، ووجدنا مناسباً إبداء الرأي بشأنه حيث فسّر من قبل بعض الحقوقيين بأنّه فصل بموضوع القوّة القاهرة، بينما في الواقع وبعد تدقيقنا به تبيّن أنّه تناول الموضوع عرضاً من ضمن المسألة القانونية المطروحة والمتعلّقة بحجر الأجانب.
5. بالفعل، فقد اعتبرت محكمة استئناف كولمار الفرنسية، بموجب قرارها الآنف ذكره، أنّ فيروس كورونا المنتشر عالمياً (COVID19) يتّصف فعلياً بـ”الـقوّة القاهرة”، وأنّ الأوضاع التي نشهدها بسببه هي استثنائية، ولا يمكن مقاومتها exceptionnelles et insurmontables)) وهي برّرت عدم حضور السيّدVictor G للجلسة التي حدّدتها محكمة الاستئناف.
6. وقد أثار هذا القرار نقاشاً قانونياً طرح على بساط البحث مدى قانونية اعتبار فيروس كورونا يشكّل حالة قوّة قاهرة وما إذا كان الوباء يستجمع الشروط القانونية وهو “شرط عدم التوقّع” وما إذا كان يجوز توسيع إطار تطبيق قرار يتعلّق بحجر وإقامة الأجانب ليشمل العلاقلات التعاقدية والموجبات المحدّدة فيها.
7. لذلك، فقد وجدنا إبداء بعض الملاحظات بخصوص القرار المذكور وفقاً لما يلي:
ثانياً- في مضمون القرار الصادر عن محكمة استئناف كولمار وما ورد في القرار بأنّ فيروس Covid-19 يشكّل في ظرفه قوّة قاهرة مع ما تستتبعه هذه الأخيرة من مفاعيل قانونية:
1. ورد في حيثيات القرار الاستئنافي المذكور، أنّ المستأنف السيّد فيكتور. ج ، تعذّر عليه حضور جلسة المحاكمة أمام محكمة استئناف كولمار- الغرفة 6، بسبب الظروف الاستثنائية التي لا يمكن مقاومتها (insurmontable)، والتي تتكيّف بطبيعتها مع حالة القوّة القاهرة (force majeure) المتصلة بالوباء المستشري عالمياً covid19 .
2. وبالفعل، فقد ورد في إحدى الحيثيات موضوع النقاش ما يلي:
L’appelant, M. Victor G., n’ayant pu être conduit à l’audience à la Cour d’appel, en raison des circonstances exceptionnelles et insurmontables, revêtant le caractère de la force majeure, liées à l’épidémie en cours de Covid-19 ; en effet, nous avons été informée en fin de matinée de ce qu’un étranger retenu au CRA de Geispolsheim présentant les symptômes de ce virus était en cours de dépistage et avait notamment été en contact avec le personnel de l’Ordre de Malte lors d’un entretien d’une heure. Le personnel de cette association fait dès lors l’objet d’un confinement de 14 jours. Or, la présence concomittante dans ce centre de cette personne et de M. Victor G. qui, lui-même a été aussi assisté par le personnel de l’Ordre de Malte pour la rédaction de son acte d’appel ; en conséquence l’intéressé est susceptible également d’avoir été en contact rapproché avec l’étranger susceptible d’être atteint de ce virus.
Dès lors, ces circonstances exceptionnelles, entraînant l’absence de M. Victor G. à l’audience de ce jour revêtent le caractère de la force majeure, étant extérieures, imprévisibles et irrésistibles, vu le délai imposé pour statuer et le fait que, dans ce délai, il ne sera pas possible de s’assurer de l’absence de risque de contagion et de disposer d’une escorte autorisée à conduire M. G. à l’audience.
3. وفي ترجمة لما ورد من قرار محكمة الاستئناف، أنّ المستأنف المذكور كان قد قابل لمدّة ساعة واحدة موظّفاً يعمل في منظّمة مالطا، بحضور شخص ثالث تبيّن أنّه يعاني من عوارض فيروس كورونا، وهو يخضع للفحص الطبّي للتثبّت من مدى إصابته بوباء الكورونا. ما أدّى بالنتيجة إلى التزام الموظّف الذي أجرى المقابلة بالحجر الصحّي مدّة 14 يوماً، وهذا الأمر ينطلي أيضاً على المستأنف الذي يقتضي به أن يبقى موجوداً في منظّمة L’Ordre de Malte.
4. علماً أنّ الطعن موضوعه قرار صدر عن محافظ BAS – RHIN الذي كان قضى بحجر السيّد Victor G إدارياً لمدّة /28/ يوماً ابتداءً من 2020/2/12. وقد ردّت محكمة البداية في كولمار طعن السيّد Victor G ضدّ قرار المحافظ، فاستأنف قرار محكمة البداية أمام محكمة الاستئناف.
5. وبتاريخ 2020/3/12، ردّت محكمة الاستئناف في كولمار الاستئناف المقدّم من السيّد Victor G . وورد عرضاً في القرار بأنّ المستأنف تغيّب عن حضور جلسة محكمة الاستئناف بسبب الظروف الاستثنائية غير المتوقّعة التي توصف بأنّها قوّة قاهرة، والمتصلة بالوباء المعروف بـ COVID19، وأنّ المحكمة تحقّقت في صبيحة نهار صدور الحكم عن ان أحد الاجانب الذي اظهر عوارض مرض Corona Virus كان على اتصال مع العاملين في منظّمة فرسان– مالطا، وأنّ عمّال المنظّمة خضعوا للحجر مدّة /14/ يوماً، وأنّ المستأنف السيّد Victor G كان حاضراً في نفس مركز فرسان– مالطا حيث قام بتنظيم صحيفة الاستئناف، وأنّه لا شكّ كان على احتكاك بهؤلاء وأنّه يتعذّر عليه حضور الجلسة بسبب وضعه تحت الحجر.
6. وإنّ المحكمة بالاستناد إلى ما تقدّم، وبالنظر للظروف الاستثنائية قضت بأنّ غياب السيّد Victor G عن حضور الجلسة لأسباب خارجية وغير متوقّعة وغير ممكن درؤها يشكّل القوّة القاهرة، إضافة إلى أنّ المحكمة ليست مجهّزة باتصال Visio – Conférence من أجل سماع إفادة المستأنف إلكترونياً. وخلصت المحكمة إلى قانونية متابعة الجلسة من دون حضور المستأنف السيّد Victor G لاسيّما أنّ أحد المحامين الموجودين في قاعة المحكمة كلّف بتمثيله، وكما تمثّلت أيضاً الجهة المستأنف عليها وقدّمت مذكّرة دفاعية أرسلتها بواسطة البريد الالكتروني.
7. لا يسهى عن بالنا أنّ القرار صدر في موضوع يتعلّق بالأجانب وطعونهم بقرارات احتجازهم، وهل بالإمكان أن يتوسّع تطبيقه ليشمل العلاقات القانونية والعقود: عقود تجارية، عمل، الخ…؟ إنّ شروط تطبيق القوّة القاهرة هو أن تستجمع الشروط التالية: Imprévisibilité و Irrésistibilité و Extériorité أيّ عدم التوقّع، عدم المقاومة وأن يكون خارجاً عن الإرادة.
8. علّق بعض القانونيين على هذا القرار وبدأت التحليلات ما إذا كان يمكن اعتبار أنّ الـ virus يستجمع شروط القوّة القاهرة وما إذا كان يمكن تمديد العمل بالقرار الصادر ليشمل الحالات التعاقدية، لاسيّما أنّه صدر بناءً لقرار صدر بموضوع تنظيم إقامة الأجانب، وضمن الصلاحيات التي يمارسها كلّ محافظ وفقاً للقوانين المعمول بها في فرنسا، وإنّنا سوف نتطرّق إلى مدى صوابية الوصف الذي أعطته محكمة الاستئناف في كولمار بأنّ Corona virus يشكّل حالة القوّة القاهرة.
ثالثاً- في أنّ قرار محكمة استئناف Colmar وصف وباء الكورونا بـ”القوّة القاهرة” ما يطرح سؤال ما إذا كان يمكن تمديد هذا الوصف إلى العلاقات التعاقدية بين الأفراد والأشخاص:
1. لقد استقرّ الفقه والاجتهاد على تحديد ثلاثة شروط لتحقّق حالة القوّة القاهرة، كما يلي:
• إستحالة توقّع الحدث الطارئ أو القاهر،
• إستحالة مقاومته أو دفعه،
• أن يكون مصدره أجنبياً خارجاً عن إرادة الإنسان ولا يمكن أن يُعزى لخطئه.
2. الشرط الأوّل: استحالة التوقع، أثار التساؤل حول ما إذا كان فعلاً متحقّقاً، أم أنّه غير متوفّر لعلّة أنّ وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي قد نبّهت إلى الـ virus وإلى مخاطره.
3. في الواقع، إنّ الموقف الفقهي والاجتهادي غير حاسم بهذا الخصوص لسبب بسيط مردّه إلى أنّ القانون لم يضع تنظيماً قانونياً خاصاً بحالات القوّة القاهرة، لناحية شروطها وتكييفها، مكتفياً فقط بالإشارة إلى المفاعيل المترتّبة على القوّة القاهرة باعتبارها نوعاً من أنواع الطوارئ التي تطرأ على تنفيذ العقود، أو العلاقات القانونية بصورة أعمّ، فتعيق أو تعرقل تنفيذها، وتؤثّر على مصيرها، محدثة خللاً في التوازن العقدي مؤثّرة بالتالي على العدالة التبادلية للموجبات.
4. إنّ هذا النقص القانوني قد أفسح المجال أمام المحاكم لإعمال سلطتها التقديرية الاستنسابية (pouvoir discrétionnaire ) في تفسير النصوص التي يعتريها الغموض، وتكتنفها الثغرات، وفي إعطاء الوقائع المادية الوصف القانوني الصحيح، بمعزل عن الوصف المعطى لها من الفرقاء، ووفق ما ترتأيه في ضوء خبرتها القانونية (expertise)، وحكمتها القضائية (sagesse)، وحسّها السليم (bon sens)، تمهيداً للبتّ بالنزاع وفق القواعد القانونية التي ترعاه، وفق ما تنصّ عليه المادة /370/ أصول محاكمات مدنية:
” على القاضي أن يعطي الوصف القانوني الصحيح للوقائع والأعمال المتنازع فيها دون التقيّد بالوصف المعطى لها من الخصوم. ”
5. وإنّنا نقرأ في القانون المدني اللبناني بعض المواد التي تنصّ على آثار ومفاعيل القوّة القاهرة، ومنها:
• المادة 129 موجبات التي أشارت إلى المسؤولية عن فعل الحيوان، وقضت أنّ القوّة القاهرة هي سبب إعفاء حارس الحيوان من تحمّل تبعة الضرر الناجم عن فعل حيوانه:
“إنّ حارس الحيوان مسؤول عن ضرر حيوانه وإن يكن قد ضلّ أو هرب وحكم هذه التبعة … ولا ترتفع التبعة عن الحارس إلا إذا قام الدليل على قوّة قاهرة أو على خطأ ارتكبه المتضرر.”
• ومثلها المادة 131 موجبات بخصوص المسؤولية عن فعل الجوامد:
إنّ حارس الجوامد المنقولة وغير المنقولة يكون مسؤولاً عن الأضرار التي تحدثها تلك الجوامد حتّى في الوقت الذي لا تكون فيه تحت إدارته أو مراقبته الفعلية… وتلك التبعة الوضعية لا تزول إلاّ إذا أقام الحارس البرهان على وجود قوّة قاهرة أو خطأ من المتضرّر.”
• تنص المادة 243 موجبات على ما يلي:
” اذا استحال تنفيذ موجب او عدة موجبات بدون سبب من المديون سقط ذلك الموجب او تلك الموجبات بمجرد الاستحالة وفقا لأحكام المادة 341 . واذا كان الامر متعلقاً بموجبات ناشئة عن عقد متبادل فالموجبات المقابلة تسقط بسقوط ما يقابلها فيتم الامر كما لو كان العقد منحلاً حتماً بدون واسطة القضاء، او بعبارة اخرى ان المخاطر تلحق المديون بالشيء الذي اصبح مستحيلاً فيحمل الخسارة دون ان يستطيع الرجوع بوجه من الوجوه على معاقده. ويكون الامر على خلاف ذلك اذا كان قد سبق للمديون ان نفذ موجباته الجوهرية. فان العقد، بالرغم من استحالة تنفيذ الموجبات الثانوية، يبقى قائماً. والمديون الذي أبرئت ذمّته بقوّة قاهرة يمكنه مع ذلك أن يطالب الفريق الآخر بتنفيذ ما يجب عليه وعلى هذا المنوال يستطيع بائع العين المعينة الذي تفرغ عن المبيع للمشتري أن يطالبه بالثمن فتكون المخاطر في هذه الحالة على دائن الموجب الذي أصبح تنفيذه مستحيلا”.
• وتنصّ المادة 492 موجبات بخصوص عقد البيع على الآتي:
“إذا تعذّر على البائع بسبب قوّة قاهرة وبدون خطأ أو تأخّر منه أن يسلّم ما وعد به فللمشتري أن يفسخ العقد ويستردّ الثمن الذي أسلفه أو أن ينتظر إلى السنة التالية.”
• المادة 566 موجبات بخصوص عقد الإيجار تنصّ:
” المستأجر مسؤول عن الحريق ما لم يثبت أنّه حدث بسبب قوّة قاهرة أو عيب في البناء أو اندلاع اللهيب من بيت مجاور”
• المادة 341 موجبات التى تبرئ ذمّة المديون وتؤدّي إلى سقوط الموجب لسبب خارج عن إرادته:
” سقط الموجب إذا كان، بعد نشأته، قد أصبح موضوعه مستحيلاً من الوجه الطبيعي أو الوجه القانوني بدون فعل أو خطاء من المديون”
6. كما نقرأ أحكاماً مماثلة في نصوص قانونية أخرى خاصة، مثل قانون أصول المحاكمات المدنية، المادة 569:”… لا يجوز للمحكمة تعديل مقدار الغرامة النهائية عند تصفيتها، ما لم يثبت أنّ عدم تنفيذ الحكم القضائي ناتج عن قوّة قاهرة…”
7. كما تنصّ المادة /50/ فقرة (و) من قانون العمل على حالة القوّة القاهرة وما تستتبعه من آثار:
” – يجوز لصاحب العمل إنهاء بعض أو كلّ عقود العمل الجارية في المؤسّسة إذا اقتضت قوّة قاهرة أو ظروف إقتصادية أو فنّية هذا الإنهاء، كتقليص حجم المؤسّسة أو استبدال نظام إنتاج بآخر أو التوقّف نهائياً عن العمل. وعلى صاحب العمل أن يبلغ وزارة العمل والشؤون الاجتماعية رغبته في إنهاء تلك العقود قبل شهر من تنفيذه، وعليه أن يتشاور مع الوزارة لوضع برنامج نهائي لذلك الإنهاء تراعى معه أقدمية العمل في المؤسّسة واختصاصهم وأعمارهم ووضعهم العائلي والاجتماعي وأخيراً الوسائل اللازمة لإعادة استخدامهم.”
8. لنصل بالنتيجة إلى أنّ المشرّع لم يحدّد بصورة جازمة ونهائية شروط وحالات القوّة القاهرة، إنّما أرجعها إلى سبب أجنبي خارج عن إرادة الإنسان تجعله في حالة يستحيل معها أن يقوم بتنفيذ التزاماته، أكان ذلك بصورة نهائية ام مؤقّتة، ممّا قد يؤثّر على توازن العقود، وعلى مصالح الفرقاء، إذ قد يتضرّر أحدهم من جرّاء التنفيذ المؤجّل الطويل الأمد، أو قد يصبح تنفيذه لموجبه في الموعد المعيّن في العقد مرهقاً إلى حدّ كبير فيما أُرغم عليه، بحيث تتحقّق مصلحة الفريق الآخر على حسابه، وهذا أمر منهي عنه قانوناً وقضاءً وعدالةً، إذ لا يمكن أن يُثرى فريق على حساب الآخر دون وجه حقّ.
9. ولعلّ الانتقاد الذي طال قرار محكمة الاستئناف الفرنسية هو الخوف ممّا ستؤول إليه بالنتيحة القوّة القاهرة من مفاعيل لناحية إلغاء تنفيذ العديد من العقود، لا سيّما عقود العمّال والعقود التجارية الدولية، أو إرجاء تنفيذها، مع إعفاء الفرقاء من المسؤولية، فلا يلزمون بالتعويض، لكون سقوط الموجبات أو تأجيل تنفيذها، قد جاء لسبب خارج عن إرادتهم.
10. إلاّ أنّ المشرّع لم يعف الفرقاء بالمطلق من المسؤولية، فنقرأ في بعض نصوصه توزيعاً للمخاطر على عاتق أحد الفرقاء:
مثلاً في عقد البيع، المخاطر تكون على عاتق المالك، وفق القاعدة الرومانية Res Perit Domino ، إلاّ أنّ المبيع، أثناء مدّة سفره، وإنْ كانت قد انتقلت ملكيته إلى الشاري من تاريخ العقد، يكون في ضمان البائع، إلى حين وصوله إلى الشاري في بلد الإستلام، وفق ما تنصّ عليه المادة 399 قانون الموجبات:
” يتحمّل البائع مخاطر المبيع في مدّة سفره إلى أن يستلمه المشتري، ما لم يكن هناك نصّ مخالف.”
11. إنتقد المستشار في محكمة التمييز القاضي الدكتور سميح صفير قرار محكمة استئناف كولمار الفرنسية، واعتبر أنّ شرطاً من شروط القوّة القاهرة غير متوفر، ألا وهو شرط “عدم التوقّع”، واعتبر أنّ قرارات المحكمة المذكورة هي الأكثر عرضة للنقض من بين باقي محاكم الاستئناف، كون قضاتها يميلون إلى “فذلكة” المبادئ التقليدية. وأكثر من ذلك، فقد اعتبر أنّ القوّة القاهرة تكون غير متوفّرة الشروط في حالة العاصفة التي تهبّ فجأة، واعتبر أنّ هذه الحالة هي أكثر دقّة وخطورة على اعتبار أنّ الإعلام كان قد تحدّث عن إمكانية وقوعها، فينتفي بالتالي شرط “عدم التوقّع”.
12. لعلّ الرأي الذي يأبى أو يتجنّب الأخذ بنظرية القوّة القاهرة، يخشى زعزعة الثقة بالعلاقات التعاقدية وتهديد استقرار الاقتصاد الوطني خصوصاً، والاقتصاد العالمي عموماً، وأنّ هذا الخوف مبرّره وأسبابه وجيهة، سيّما وأنّه لا يوجد في لبنان أيّ تشريع يتبنّى نظرية الظروف الاستثنائية الطارئة، أو يتيح للمحاكم سلطان تعديل العقود على نحو يحفظ توازنها بعد أن يكون قد اختلّ قهراً، تحت ذريعة أنّ “المحاكم لا يمكن أن تتدخّل في مسألة إبرام العقود” وأنّ “العقد هو شريعة المتعاقدين”.
13. إذاً، فإنّ الخوف من وصف فيروس الكورونا بأنّه يشكّل قوّة قاهرة، سببه غياب النصوص القانونية المفترض بها أن تعالج هذا التكييف، وأن تزيل كلّ التباس حوله على نحو يحفظ للمتعاقد حقوقه في نيل التعويض العادل في ما لو لم ينل المنفعة المرجوة من العقد، أو في ما لو تضرّر من التأخّر في تنفيذ العقود، إذ إنّ القوّة القاهرة هي كما نعلم، سبب إعفاء من التبعة الجزائية، فكيف بالحريّ بالنسبة إلى التبعة المدنية؟! فتتلاشى المسؤولية، وتسقط الموجبات، ويكون الأمل بنيل التعويض العادل ضئيلاً في ما لو تنازع الفرقاء بخصوصه.
14. إنّنا ومع احترامنا لبعض الآراء لا نجد أيّ مانع قانوني يحول دون اعتبار أنّ “جائحة الكورونا” العالمية هي بالفعل قوّة قاهرة، سيّما وأنّ الحالة التي يشهدها عالمنا اليوم ليست مجرّد مرحلة عادية تتعلّق بفيروس عابر أو غير خطير، بل هي من أدقّ المراحل التي يشهدها العالم أجمع وأصعبها، وتتطلّب الكثير من التضحيات، وإن كان من الممكن ربطها بفترة زمنية مؤقّتة إلاّ أنّها غير معيّنة وحتّى غير قابلة للتعيين، وهنا تكمن خطورتها، إذ إنّ عدم محدودية فيروس كورونا في المكان والزمان سيطيح بالسياسات الاقتصادية والسياحية والصحيّة، وقد بدأت تتبدّى تأثيراته السلبية على القطاعات الاقتصادية من خلال توقّف العديد من الشركات والمحلات التجارية عن العمل.
15. فكانت آثار هذا الفيروس الجائحي فتّاكة بكثير من الحالات، وهي تهدّد الصحّة العالمية، ولا يمكن أن تُقاس عليها العاصفة الهوجاء والمباغتة في توقيتها وسرعتها، إذ إنّ “إمكانية التوقّع” قد أصبحت شبه متاحةً بعد أن وقع العديد من الضحايا، وامتلأت المستشفيات بالمصابين، أيّ أنّها جاءت متأخّرة نسبياً بالنظر إلى سرعة انتشار الفيروس الذي تغلغل في كافة أقطار العالم، فلم تُدرك خطورته إلّا بصورة متأخّرة وبعد مشاهدة الكوارث المادية والبشرية التي خلّفها في كافة الأقطار.
16. إذا كان وجود هذا الوباء متوقّعاً، إلاّ أنّ مصدر التقاطه أو طريقة انتقاله قد لا يكون متوقّعاً بالنظر إلى حداثة هذا المرض، وإلى سرعة انتشاره وإلى عدم إيجاد حتّى اليوم أيّ لقاح أو دواء له بإقرار جميع الإختصاصيين.
17. بالفعل، إنّ “إمكانية التوقّع” تنصهر عادةً مع إمكانية المقاومة، فإذا كان خطر العدوى مرتقباً، فإنّ وسائل تداركه والتصدّي له تكون متيسّرة تمهيداً لدرئه ولتخطّيه حينما يستجدّ، إلاّ أنّه تبيّن أنّ الـ COVID-19 وبالرغم من كلّ محاولات احتوائه من أجل محاصرته، ما زال ينتقل من شخص مصاب إلى آخر، من جسم صلب يحتوي الفيروس إلى الإنسان، كما يمكنه أن يبيت في الثياب فينتقل إلى المرء بغفلة عنه… أيّ أنّ “توقّعه”، لم يحل دون إمكانية مقاومته، فما معنى إمكانية التوقّع في ظلّ عدم إمكانية المقاومة؟!! وإنّ “توقّعه” المزعوم هذا لم يؤدّ بالنتيجة إلى استطاعة المجتمع أو الدولة مقاومته والحدّ منه بالسرعة المطلوبة لإعادة سير الحياة إلى ما كانت عليه قبل الوباء.
18. فالعاصفة الهوجاء وإن كانت متوقّعة، إلاّ أنّه لا يمكن مقاومة ما ستخلّفة من أضرار ومخاطر، لأنّ توقّع حصولها، لا يفيد بالضرورة توقّع آثارها، وإلاّ لكان بالإمكان اتخاذ كافة الاحتياطات اللازمة للحؤول دون أضرارها الهدّامة. فتوقّع حصولها لا ينفي حتماً شروط القوّة القاهرة، طالما أنّ التوقّع هذا لم يوفّر سبل الوقاية الكافية للإحتياط من مخاطر العاصفة، والتصدّي لها، وطالما أنّ هذه المخاطر التي تعذّرت مقاومتها هي بحدّ ذاتها غير متوقّعة، إذ إنّ التنبؤ بحصول العاصفة لا يفيد بالضرورة الإدراك الشامل لأبعاد هذه العاصفة القاهرة.
19. وإنّ جائحة فيروس كورونا العالمية قد أثّرت بصورة فادحة على الاقتصادات العالمية، فتكون فعلاً قوّة قاهرة كونها خارجة عن السيطرة إلى حدّ كبير، وإلّا لكانت الدراسات بشأن الكورونا مستمرّة لغاية تاريخه، والتساؤلات حول ما إذا كانت الحرارة المرتفعة من شأنها أن تقضي عليه متروكة دون إجابة، توصّلاً لإيجاد اللقاح الذي لم تتمكّن لغاية اليوم أعظم وأقوى الدول في العالم من إيجاده للتصريح عنه وبالفم الملآن بأنّه هذا هو لقاح الكورونا فيروس 19 المعتمد دولياً.
20. إنّ قرار محكمة استئناف كولمار الفرنسية جاء برأينا في موقعه القانوني الصحيح، كونه راعى القرارات الصادرة عن حكومات الدول وطلبت من المواطنين التزام التباعد الاجتماعي والحجر الصحّي والمنزلي تمهيداً لتمكين الأجهزة الطبّية المختصة من الحدّ من انتشار الوباء المتصف بالقوّة القاهرة، أيّ أنّ المحكمة المذكورة تكون على الأقلّ قد راعت في قرارها التوجيهات الصحيّة العالمية التي تفرض الالتزام بالحجر من قبل جميع الناس، حتّى السليمين منهم وغير المصابين، وبتقيّدها بإرشادات منظّمة الصحّة العالمية وبالقرارات الحكومية.
21. لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هيئة تنمية التجارة الدولية الصينية أكّدت عبر موقعها على الإنترنت إنّ شهادات «القوّة القاهرة» التى تمنحها للشركات العاملة في الصين مقبولة ومعترف بها دولياً، وتهدف شهادة القوّة القاهرة إلى حماية الأطراف من غرامات وتبعات الإخلال بالتزاماتها ومسؤولياتها التعاقدية التي عجزت عن الوفاء بها بسبب ظروف استثنائية تخرج عن نطاق سيطرتهم.
22. ونخلص تحت هذا القسم إلى اعتبار أنّ كورونا فيروس بالنظر إلى العقود المبرمة بتاريخ سابق لنشوئه، سيّما متى كانت متتابعة التنفيذ، هو بالفعل قوّة قاهرة لا يمكن توقّعها عند إبرام العقود، وإنّ إغلاق الحدود بنتيجة الجائحة العالمية لكورونا فيروس عرقل العديد من العمليات التجارية الدولية، وأثّر لا محال، على الالتزامات التعاقدية المحلّية والاقليمية.
رابعاً- من الناحية القانونية وأثر الجائحة العالمية Covid-19 على العقود، والعلاقات القانونية بشكل أعمّ، وكون تأثيرها يجب أن يبقى مؤقّتاً، وإلى حين زوال هذه الظروف الاستثنائية، الأمر الذي يقتضي التنبّه له، وعدم الإفراط في طلب الانحلال من الالتزامات التعاقدية والقانونية بلا مقابل، سيّما متى توفّرت حلول أخرى ممكنة التطبيق بما يصبّ في مصلحة جميع الأطراف المتعاقدين، وليس في مصلحة أحدهم دون الآخرين:
1. لا بدّ من التنويه إلى أنّ الإعفاء من المسؤولية بسب القوّة القاهرة ليس مطلقاً، والمتضرّر الحسن النيّة يُفترض تعويضه تعويضاً عادلاً عن الضرر الذي يكون قد لحق به من جرّاء إلغاء العقود، أو إرجاء تنفيذها. وهذا الأمر رهن بإرادة الفرقاء وتوافقهم المتبادل في حال كان التعامل بينهم قائماً على الثقة وحسن النيّة، فيتخذون القرار المناسب لصيانة مصالحهم دون تدخّل القضاء.
2. وإلاّ فيكون الحلّ متروكاً للمحاكم، وهي لها سلطة واسعة في تقرير الحلّ الأنسب والأنجح بالنسبة للفرقاء (la solution la plus équitable)، مع ترجيح مبدأ “المحافظة على العقد” كونه وجد كي يُنفّذ، على ألاّ يكون من شأن الإبقاء على العقد إرهاق المدين بصورة غير عادلة، وألاّ يكون القرار بتأجيل التنفيذ طويل الأمد على نحو تزول معه الفائدة المرجوة من العقد.
3. ونشير في هذا الإطار إلى خطوة خجولة كان قد اعتمدها المشرّع اللبناني عام 1991 من خلال القانون رقم /50/ تاريخ 1991/05/23 المتعلّق بتعليق المهل القانونية والعقدية، كرّس فيه نظرية الظروف الاستثنائية الطارئة، في ظلّ الظروف الأمنية التي كان يعاني منها لبنان، على نحو حال دون إمكانية تنفيذ الالتزامات التعاقدية أو المطالبة بالحقوق ضمن المهل المحدّدة، فكانت المحكمة تعمد إلى تعليق المهل التي وردت في هذه العقود بما لها من حقّ تقدير. وأنّ الظروف التي مررنا بها منذ 2019/10/17 تحتّم إستصدار قانون جديد بهذا الموضوع.
4. وقد وعدت وزارة العدل بشخص الدكتورة ماري كلود نجم بأنّه سيصار إلى اقرار مشروع قانون لزوم ذلك، وإنّنا بانتظار هذا المشروع وأن يصبح قانوناً.
5. بناءً لكلّ ما تقدّم، فإنّ الحلّ لا يمكن تعميمه، والإعفاء من التبعة العقدية لذلك لا يمكن أن يتمّ بنتيجة القوّة القاهرة بصورة مطلقة وكلّية، ولا بدّ للمحاكم، في حال عدم تسوية النزاعات حبّياً بين الأطراف المتعاقدين، من تقرير الحلّ الأنسب في ضوء مصالح الفريقين المتنازعين من جهة، وفي ضوء ما يصبّ في مصلحة الاقتصاد الوطني والعالمي من جهة أخرى، من خلال استلهام مبادئ العدالة والإنصاف وحسن النيّة، ومبدأ الحفاظ على وجود العقود كلّ ما كان ذلك ممكناً.
6. وما من مانع يحول دون الاستئناس بالأسباب الموجبة للقانون 91/50 من أجل اعتماد حلول تحاكي أهدافه السامية بالحفاظ على عدالة العقد وفائدته، دون الإضرار بالمتعاقد الحسن النيّة.
7. وسبق لنا أن بيّنا نصّاً قانونياً نموذجياً وزّع من خلال المشرّع تبعة المخاطر على المتعاقدين، ولعلّ الغاية من كلّ ذلك، إذا ما تجاوزنا حرفية النصّ، هي تحقيق التوازن بين مصلحتين نشدّد على أهمّيتهما المتعادلة وهما: مصلحة المتعاقدين من جهة، ومصلحة الإقتصاد الوطني من جهة أخرى.
8. أنّه وفي أيّ حال، فإنّ فيروس كورونا 19 هو جائحة ظهرت في العالم مؤخّراً، ومصدره مجهول، لكن من المعلوم أنّه مؤقّت وأنّ التقيّد بالتدابير الإحترازية المفروضة من الحكومة كما من الأطباء الاختصاصيين ترمي إلى تقصير هذه المدّة قدر الإمكان، وإلى التخلّص من مخاطر الفيروس بفترة نأمل بأن تكون معقولة، وكنا قد قرأنا في التاريخ وليس أبعد من العام 1918 ظهور عدد كبير من الفيروسات والأوبئة التي أطاحت بأرواح كثيرة، إلاّ أنّها ما لبثت أن زالت، وتابعت الإنسانية مسارها، كما منذ بدء التطوّر(…).
9. لذلك، فإنّه يقتضي اعتبار أنّ توافر القوّة القاهرة هو مؤقّت، وعدم إعطائها أكثر من طابعها الظرفي هذا، وإنّ العقود يجب أن يعلّق تنفيذها مؤقّتاً، بانتظار وقف مفعول القرارات الحكومية حيث تعود الأمور إلى سابق عهدها، الأمر الذي يدفعنا إلى طلب تفسير القوّة القاهرة بصورة ضيّقة، ولا يمكن بالتالي فسخ العقود عشوائياً، وبلا مقابل، طالما أنّ إمكانية بقائها واستمرارها هي معقولة، ومتيسرة الوسائل ويستطيع الدائن بموجب التنفيذ متابعة تنفيذه بعد انقضاء فترة التعبئة والحجر المنزلي.
خامساً- في المحصّلة الختامية:
1. إنّ القوّة القاهرة لا تعني بالضرورة وعلى الدوام سقوط الموجبات وزوال العقود، بل يمكن أن تشكّل سبباً موجباً لفرض بعض التدابير الاستثنائية لمحاكاة الواقع، خاصة أنّ القانون حيّ وغير جامد، يتكيّف مع نمو المجتمع وينمو معه، وإنّ المرونة في تكييف القوّة القاهرة يسوّغها سكوت النصّ من جهة، ودور المبادئ القانونية العامة في سدّ هذا النقص، من جهة أخرى، وهي مبادئ مستوحاة من الحقوق الطبيعية ومبادىء العدل والإنصاف.
2. لذا يقتضي أن تكون الظروف الطارئة والقاهرة مبرّراً ليس لانحلال الموجبات وتلاشيها بالمطلق وكحلّ عام وموحّد، بل مبرّراً لإعادة ترتيب الموجبات بما يصبّ في مصلحة الفرقاء والاقتصاد كلّما كان ذلك ممكناً ومتاحاً، لأنّ استحالة تنفيذ العقود وفقاً لنصوصها هي استحالة مؤقّتة في كثير من الحالات، ولا يمكن التعميم بأنّها مطلقة أو بأنّها تهدم كلّ قوّة تنفيذية للعقد بلا أعباء، كون الاستحالة هذه هي الاستثناء، والإستثناء ينبغي تفسيره وتطبيقه بصورة ضيّقة، وعلى قدر ما تمليه الاستحالة. أمّا الإبقاء على العقد ريثما تزول العراقيل فهو الأصل، ولا بدّ من اتخاذ كافة الاحتياطات وبذل كافة الجهود الممكنة للحفاظ على وجود العقود- عجلة الاقتصاد المتأزّم حالياً في لبنان- درءاً لما قد يكون لانحلال كافة العقود ودون أيّ مقابل من تأثير مباشر في تفاقم هوّة الأزمة الاقتصادية اللبنانية الحالية.
3. حتّى أنّ تطبيق الإجراءات الوقائية والاحترازية الحكومية لم يأت جازماً وصلباً، بل هو بدوره ظرفي، فقد استثنى بعض القطاعات من أحكامه بالنظر إلى الضرورة الملحّة التي تتطلّبها هذه القطاعات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر القضاة كونهم يتولّون تسيير مرفق العدالة الذي تعلو مصالحه حتّى على الأوضاع القاهرة والعصيبة.
4. بتفقّدنا لموقع الـ BBA LEBANON على “فايسبوك”، نلاحظ مواكبة نقابة المحامين- رافعة الوطن- للقضايا الجزائية، حيث صدر العديد من القرارات بخصوص طلبات إخلاء السبيل، قبولاً أم رفضاً، وهي مقدّمة من المحامين بوكالاتهم الموثّقة مع المستندات المرفقة والمورّدة من قبل المساعدين القضائيين المكلّفين من وزارة العدل الموجودين داخل غرف العمليات، كما صدرت قرارات بتعيين جلسات استجواب عبر Video call تلقّتها غرفة العمليات عبر بريدها الالكتروني الخاص بالمحامين، ويتمّ إعلام المحامين بنتائجها أيضاً بواسطة البريد.
5. وهنا، لا بدّ من أن نطلق النداء بوجوب حضور عدد من موظّفي الأقلام لدى المحاكم لتسيير العديد من المعاملات القلمية والادارية، إذ لا يعقل عدم وجود صندوق لدفع كفالات إخلاءات السبيل، أو لتسديد أيّ رسم آخر ولاسيّما مثلاً رسم الدعوى الجديدة حيث إنّ عدم تقديمها ومرور الزمن على الحقّ يفقد صاحب الحقّ لحقّه.
6. ويجب تلبية حاجات الناس في هذه الفترة العصيبة، ولا يعقل أن يعمل القاضي فيما يغيب الكاتب، حيث يجب تنظيم العمل في المحاكم لتحقيق التكامل الوظيفي وتحسين أدائه.
7. وبالإنتظار، فإنّ جميع مؤسّسات الدولة يجب أن تستنفر من أجل مساعدة المحجورين في منازلهم، ويقتضي بالمصارف أن تلبّي مطالب زبائنها حيث لا يمكنها أن تحتج بحماية مستخدميها، إذ يقتضي أن يؤمّنوا دواماً أكثر من الأيّام العادية لتلبية حاجات الناس.
8. وفي الختام، فإذا كانت القوّة القاهرة المتمثّلة بالـ Virus المستجدّ تؤثّر على العقود والالتزامات، فإنّ هذا التأثير يجب أن يكون مؤقّتاً ومفاعيله محصورة بالقرارات الوزارية، وأن لا يتعدّاها إلى درجة يجد البعض منه ملاذاً للتنصل من التعهّدات والالتزامات.
مع الأمل بأن نعود قريباً إلى مزاولة المهنة.
*قرار محكمة الاستئناف Colmar- الغرفة السادسة- رقم 2020/80- تاريخ 2020/3/12
“محكمة” – الإثنين في 2020/4/13
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.