ودائع المودعين/ نهاد جبر
بقلم النقيب نهاد جبر*:
إنطلاقاً من البند “و” من مقدمة الدستور اللبناني التي تنصّ:
“النظام الاقتصادي حرّ يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة”،
والمادة 7 منه التي تنصّ على أنّ كلّ اللبنانيين سواء لدى القانون،
ومن بعض أحكام قانون الموجبات والعقود اللبناني التي تنصّ:
الايداع عقد بمقتضاه يستلم الوديع من المودع شيئاً منقولاً ويلتزم حفظه وردّه (م 690 م.ع) ،
ويجب على الوديع أن يسهر على صيانة الوديعة كما يسهر على صيانة أشيائه الخاصة (م.696)،
وإذا استعملها أو تصرّف فيها بدون إذن كان مسؤولاً عن هلاكها أو تعيبّها ولو كان السبب فيهما حادث خارجي (م.700 ) ، فالوديعة هي ملكية خاصة للمودع وعلى الوديع موجب ردّها (م.701 )،
وإنّ الوديع الذي يطلب منه المودع ردّ الوديعة ، يعدّ في حالة التأخّر لمجرّد تأخيرمنه لا يبرّره سبب مشروع ( م.702 ) ،
ويجب على الوديع أن يردّ الوديعة إلى المودع … (م 710)،وهو مسؤول عن سبب كلّ هلاك أو تعيّب كان في الوسع اتقاؤه إذا كان يتلقّى أجراً لحراسة الوديعة وإذا كان يقبل الودائع بمقتضى مهنته أو وظيفته (م 713).
هذه بعض المواد القانونية التي ترعى أحكام الوديعة، شئتُ اختصارها بالقدر الممكن تسهيلاً للإطلاع عليها، مع أنّ العديد من أصحاب الشأن قد ذكروها سابقاً ومن المفترض أن تكون معلومة ومعروفة من الجميع وخاصة من المسؤولين الذين يُطلقون حلولاً تمسّ بجوهرها ، بمن فيهم المسؤولين عن صندوق النقد الدولي،
وتوضيحاً أكثر،
إنّ المودع أودع وديعته في مصرف قَبِلَها، لم يأذن للوديع استعمالها، بحيث يكون الوديع مسؤولاً عنها تجاه المودع، (م 700) وليس من مسؤولية يمكن نسبتها الى المودع عن سبب عدم ردّ الوديع لهذه الوديعة.
يتّضح ممّا تقدّم،
أنّ علاقة المودع محصورة بالوديع أيّ المصرف الذي أُودعت لديه الوديعة وإستلمها وتعهّد بردّها.
ننتقل إلى ما يُحكى وينشر أنّ خطّة التعافي – غير المعلومة أو المنشورة حتّى تاريخه – التي تحاول الحكومة تمريرها، وتنصّ على شطب ما نسبته 60% من ودائع المودعين في المصارف،
فإذا كان الإتجاه على ما هو أعلاه ، يُطرح السؤال:
ماذا ارتكب المودعون من أفعال لتشطب 60% من ودائعهم ؟ وإذا كانوا فعلًا من المرتكبين ، فليحاكموا مهما كانت قيمة ودائعهم!
لم يأتِ أحد على ذكر مسؤولية المودعين لإرهاقهم بهكذا إجراء.
علماً أنّ هذا الإجراء، في حال إقراره ووضعه موضع التنفيذ بموجب قانون، هو مخالف للبند “و” من مقدّمة الدستوروالمادة 7 منه – مبدأ المساواة بين اللبنانيين- ولسائر القوانين النافذة في لبنان، وخاصة قانون الموجبات والعقود.
إلّا إذا كانت الحكومة تقصد تعديل المواد أعلاه وإخضاع لبنان إلى نظام اقتصادي مقيّد وموجّه بدلاً من النظام الاقتصادي الحرّ القائم عليه البلد منذ نشأته، أو إذا كانت ترمي ولو بصورة غير مباشرة إلى اعتماد المصادرة الشبيهة بالتأميم ، كما فعلت اسرائيل في فلسطين مع مفارقة أنّ حكومة العدّو هي التي أمّمت أملاك الفلسطنيين في حين أنّ الحكومة اللبنانية هي التي تفعله بودائع اللبنانيين،
من جهة ثانية،
إنّ مثل هذا الإجراء وفي حال تنفيذه، سيُعطي المودعين الذين تقلّ ودائعهم عن الماية ألف دولار أميركي، ماذا سيكون مصير هذه الأموال، والأرجح أن تودع في مصارف خارج لبنان، وإن تقسيطًا. أمّا بالنسبة للمودعين الذي تفوق ودائعهم الماية ألف دولار اميركي، فإنّهم سيحاولون الاستحصال عليها ، وإذا ما استحصلوا عليها أو على جزء منها، سيودعونه أيضاً في مصارف خارج لبنان.
وهنا لا بدّ من طرح الأسئلة التالية :
ما هي أسباب عدم المساواة بين المودعين نسبة لقيم ودائعهم؟
هل إنّ الشطب سيطال الودائع المحوّلة إلى الخارج في أيّ زمن، أو أنّه سيقتصر على الودائع الموجودة في المصارف اللبنانية؟ وهل إنّ الشطب سيطال ودائع الأجانب؟
أمّا ما يعوّل عليه من خطّة التعافي استجراراً لرساميل أجنبية، فهذا في منام لن يجد طريقاً إلى الواقع، ذلك أنّ هذه الرساميل لن تأتي الى لبنان، في ظلّ هكذا إجراء، الأمر الذي حصل مع عدّة دول، فقدت ثقة الرأسماليين بها.
والسؤال الأوضح :
ماذا سيكون مصير المصارف اللبنانية التي فقدت زبائنها ومودعيها؟
وإنّ الحلّ المقترح بإعادة هيكلة القطاع المصرفي اللبناني وحصره بعدد محدّد من المصارف لن يوفي بالثقة المطلوبة، وكذلك الأمر بالمصارف الأجنبية، إذا كان يعوّل على عودتها لممارسة أعمالها في لبنان، فهي كانت موجودة فيه، وغادرت ولم تعد.
إلّا إذا كانت الحكومة من خلال خطّتها، تسير نحو إرغام المصارف على إعلان إفلاسها، الأمر الذي سينسحب سلباً على الدولة وعلى المودعين وعلى اللبنانيين الذين سيتعاملون في ما بينهم بالعملة الورقية، إنْ بالعملة الوطنية، في حال بقائها، وإنْ بالعملة الأجنبية.
فهل نستودع القطاع المصرفي في لبنان؟
وما يُفهم أيضاً من خطّة التعافي مع صندوق النقد الدولي، أنّ هذا الأخير فَرَض على الحكومة القيام بإصلاحات لإمداد لبنان بدين بقيمة ثلاث مليارات دولار أميركي على دفعات.
إنّ الاصلاحات المطلوبة مضى على المطالبة بها منذ مؤتمر “باريس 1” ولم تبصر إحداها النور، بل تفاقمت الأمور بحيث أصبحت هذه الاصلاحات أشدّ تعثراً تنفيذها ممّا كانت عليه.
والأفضل، أن تعمد الدولة إلى استثمار موجوداتها، المنقولة وغير المنقولة، أملاكاً أو اسهماً في شركات، أو من خلال مصرف لبنان أو المصارف اللبنانية لتأمين المبلغ المشار إليه أعلاه، متزامناً مع قيام الاصلاحات، التي لا يطلبها صندوق النقد وحده، بل هي مطلب كلّ اللبنانيين ومنذ أمد وقبل طلب صندوق النقد.
إنّ مثل هذا الحلّ، سيوفّر للدولة استمرار سيادتها على اقتصادها ونقدها وماليتها، كما سيوفّر للمصارف استمرارية عملها، علّها تستعيد ثقة فقدتها.
أو إنّ الوقت لم يحن بعد لتحمّل المسؤولية، إن كان هناك بعد من يتحمّلها لمصلحة الوطن والمواطنين، والكفّ عن إطلاق أكاذيب وشعارات لا تفي بالصدقية، ولم تَعُد تنطلي على أحد.
ليس بمقدورأية حكومة ، قانوناَ وواقعاً ، التفاوض عن المودعين، حتّى مع صندوق النقد الدولي أو أيّة مؤسّسة أخرى وطنية أو أجنبية، وليس من أحد، لا مجموعة أو هيئة، التفاوض باسمهم، فعلاقة كلّ مودع محصورة بالمصرف الذي أودعت الوديعة لديه، فكفّوا عن المتاجرة بالودائع والمودعين.
أعيدوا لهم، لبنانيين وأجانب، ودائعهم، ومن بعدها، قوموا بالاصلاحات، التي ملّ الشعب من سماعها حتّى السأم، وبهذا فقط قد تستعيدون ثقتهم بدولتهم ومصارفها.
وفي هذا السياق،
لا بدّ من توجيه تحيّة إلى عددد من القضاة المنفردين ومحاكم الاستئناف في لبنان، الذين أصدروا أحكاماً بوجه المصارف، كما دعوة محاكم التمييز للكفّ عن إصدار وقف تنفيذ للقرارات الصادرة عن المحاكم أعلاه، وكأنّ القضاء التمييزي أصبح قضاء يصدر أحكامه بأسم المصارف وليس باسم الشعب اللبناني، وهو الأمر الذي حدا بالبعض إلى الركون إلى قضاء أجنبي.
إنّه منذ بداية الأزمة مع المصارف، لو اعتمد القضاء التمييزي موقفاً، مستوحى من مبدأ العدل والانصاف، لما كانت الحال قد وصلت إلى ما هي عليه، ولما كان القضاء تعرّض كما يتعرّض له من انتقادات وتساؤلات في موضعها، ولما كان فقَدَ ثقة المواطنين في الركون إليه ، ولما كانت المصارف اللبنانية إتخذت من هذه الأحكام ذريعة لعدم ردّ الودائع ، ولكانت حافظت على سمعتها واستمراريتها وثقة المودعين بها ، والدليل البيان الصادر عن “بنك الموارد” الذي علًق عضويته في جمعية المصارف احتجاجًا على قرارات خاطئة اتخذتها ، وقد يحذو حذوه غيره من المصارف .
بعض القضاء ليس بخير، فهو في ظلّ المعاناة من الوضع الحالي من إضرابات واعتكافات، إن من القضاة أو المساعدين القضائيين ومن موظّفي الإدارة العامة ، نلاحظ من المسؤولين عنه تحديداً، إحجاماً مطبقاً عن ايجاد حلول وكأنّ الأمر لا يعينيهم أو أنّهم في غيبوبة عنها أو لا مبالاة .
وبعد،
ليس قانون استقلالية القضاء هو الحلّ، فالقاضي العادل والشريف والمتعالي، في شخصه استقلالية لن يزيده فيها قانون، أمّا الذي يفتقد في شخصه العدالة والشرف والمثالية والتعالي، فإنّ أيّ قانون لن يضفي عليه استقلاليته،
فكفى التلطّي وراء قانون استقلالية القضاء، الذي لن يفي بما هو مطلوب وواجب.
فهل نستودع القضاء في لبنان؟
إنّها أسئلة بسيطة من مواطن عادي يأمل أن تلقى جوابات واضحة وصريحة تبدّد اليأس من مصير مجهول ولّدته الأزمات التي تحيط بعيشه وحياته من كلّ جانب .
* نقيب المحامين في بيروت سابقاً.
“محكمة” – الإثنين في 2022/6/27