8 و14 آذار أو روحيّة الحكاية اللبنانية
بقلم النقيب عصام كرم:
تحيّة للجيش اللبناني. وخشعة أسيانة أمام الشهداء. هذه مسلّمات لا جدال فيها. ألجدال في الكلام على المقاومة. ممنوعٌ الكلام على المقاومة. مع أنّ المقاومة عنوان مشرق، فاعل، في “الحكاية الوطنية” اللبنانية. أنا لست وكيل المقاومة. ولكنْ… فلتتسّع صدور الذين تضيق أخلاقهم لهذا الكلام: قولوا لي إنّ حسن نصر الله قال، يوماً، قولاً ولم يَصدُق. في ودّي، صدّقوني، أنا أُحاسبه … هذا الذي يحكي بلسانه وعينيه وسبّابته … فيقول الأشياء راهنة لا يعتورها زَيف ولا يواثبها بهتان. كم جولة جال حسن نصر الله ، والمقاومة، وكلّ جولة توفيق وانتصار. ألمقاومة محرِّرة. حرّرت أرض لبنان من إسرائيل. وحرّرت جرود لبنان من الإرهاب. والتكفيريّون … وإسرائبل … كلاهما إرهاب. ومع ذلك ممنوعٌ ذكْر المقاومة… إلاّ بالكلام الذي لا تنطبق عليه الشفتان.
أنا أُشيد بالجيش. لأنّ الجيش حافظ أمانة الوطن … وحدود الوطن. لكنّ الجيش، أُكرّر، يفتقر إلى السلاح “الكاسر التوازُن”. وأنا إذ أشيد بالجيش، لا أضع ، في خلفية الإشادة، نكايةً سيّئة النيّة بالمقاومة. ثمّ إنّ التكامل ليس عيباً. فالجيش والمقاومة يحتربان ضدّ عدو واحد. فهل يجوز أن يكونا متعاديَيْن؟ منطق الأشياء يرفض هذا. والموضوعية … هي … ترفض هذا. كمثل ما الموضوعيّة ترفض عبارة “تطبيع” عندما يكون الحكي عن العلاقات اللبنانية السورية. ألتطبيع يكون مع عدوّ. في التعامل … أيّاً كان هذا التعامل… ثقافياً أو سينيمائياً. سوريّا ليست عدوّاً. سوريا دولة عربية لها حدود مشتركة مع لبنان. أنا أعرف أنّ العلاقة بين لبنان وسوريا ما كانت دوماً شهر عسل … من أيّام الإنتداب والمصالح المشتركة إلى أيّام القطيعة مع خالد العظم في خمسينات القرن الماضي. وأنا أعرف كذلك كيف كان الدخول السوري إلى لبنان في سنة 1976. وكيف كان التعامل اللبناني السوري من 1976 إلى 25 نيسان 2005. وأعرف أنّ اللبنانيين الذين استفادوا من الوجود السوري في لبنان هُم الذين تغيّروا وصاروا يقولون بالسيادة. ولا أنسى كلام الصديق ميشال إدّه يوم طلع قولٌ عن الإنسحاب السوري: أنا سأرمي بنفسي تحت الدبّابة السورية إذا هي انتوت الإنسحاب من لبنان. قال هذا وترأّس الرابطة المارونيّة برغبة عُليا من البطرك نصر الله صفير صاحب البيان الشهير.
أنا… لم يقدّم إليّ السوريّون خدمة واحدة. لكنّي اعتبرت أنّ سقوط سوريا هو سقوط عمود من أعمدة الممانعة. وأنا أرى أنّ الممانعة واجبة الوجود في مواجهة عدوّ … هو إسرائيل… تعتبر الأرض المغصوبة أرضها …. وتمنع المقدسيّين من الصلاة في المسجد ناسيةً كلام القرآن إلى موسى: يا موسى ، إنّ فيها قوماً جبّارين. يومذاك … وقف المسيحيــــــــون الموقف الكريم. ففتحوا كنائسهم للمسلمين يصلّون فيها. وقُرعت أجراسهم تدعو حيّ على الصلاة حيَّ على الفلاح يوم أُكرهت المآذن على السكوت عن النداء الكريم. وهذا يجب أن يبقى. ثورة المقدسيّين على العدوّ الغاصب. وفتْح دُوْر العبادة للمصلّين بالآيات البيّنات. آيات الإنجيل وآيات القرآن. بطرك مارونيّ طلاّع … بولس بطرس المعوشي … فتح إيوان بكركي للعلماء المسلمين يصلّون فيه، وقد أدركتهم الصلاة وهم في زيارة الصرح في سنة 1957.
* * *
قصص كثيرة ستُحكى. قصص اللبنانيين الذين ذهبوا إلى سوريا طالبين. فعادوا ، وقد خابوا ، ديموقراطيين سياديين رافعين شعار لبنان أوّلاً. وقصص التحقيق في أحداث الجرود. أنا لا أُؤمن بهذا النوع من التحقيقات. لأنّه سيطاول جماعة الصف الثاني ولا يستطيل على جماعة الصف الأوّل. هذا النوع من التحقيقات لا يوصل إلى الحقيقة. جرّبنا التحقيق اللبناني. واستنجدنا بالتحقيق الدولي … وطلعنا بـ يا ما احلى تحقيق قضاء لبنان! شارل إرنو كان وزير الدفاع في إحدى حكومات فرانسوا ميتّيران. أرسل رجلاً وامرأة فنسفا سفينة الـ غرين بيس في جزر الـ باسيفيك، وهي كانت هناك لتحول دون التجارب النووية الفرنسية. فأُقيل إيرنو، وقد رفض القضاء النيوزيلاندي مسايرة الحقائب الدبلوماسيّة. بعد مدّة جاء رئيسَ الجمهورية رئيسُ الإستخبارات يقول إنّ شارل إيرنو، وزير الدفاع الفرنسي، كان جاسوساً لمصلحة السوفييت. وقدّم إليه المستندات. فقال ميتيّران: خُذ هذا الورق وادفنه في قعر أدراج مكتبك. فما نحن من سيقدر على إعادة صُنْع التاريخ.
والتحقيق، من بعد، لماذا تراه يكون؟ قصّة مطلع آب 2014 تُعالَج بطريقة واحدة: أن يذهب الجيش ليسترّد أسراه بقوّة السلاح. لا بالمفاوضة. ألجيش، مثل القضاء، هو الصامت الأكبر. كلامه يكون بالقرار النافذ. هو يضرب، والدبلوماسيّة تفاوض. أما ولم يُعمل هذا في وقته، فمضيعةٌ للوقت أن نذهب، مرّة بعد، لاستعادة الوقت الضائع.
* * *
لبنان ، في نسبة معينّة، ليس قراراً ذاتياً. من إنتخاب رئيس الجمهورية إلى الأُمور البسيطة العادية … كمثل نشوء المجتمع المدني… إلاّ المحتزبون، الفاقع احتزابهم، النازلون إلى الساحة مقنَّعين بـ المجتمع المدني، وهو “تقليعة” غربية مثل المؤسّسات غير الحكومية ONG. ومثلما أخذ إيمانويل ماكرون إسم حركته En marche من كتاب Antoine de ST Exupéry “طيران في الليل”. ومثلما أخذ أندري مالرو عنوان كتابه “السنديان الذي يصرعون” من كتاب فيكتور هوغو.
لبنان صناعة خارجية. حكّامه هكذا مُذّ كانوا. لذلك … ألحكم عندنا يسقط دائماً. أكثر. هو … الحكم … لا يعرف مقولة سيدّارتا غوتاما مؤسّس البوذيّة: ألسقوط ليس هزيمة. ألهزيمة هي البقاء حيث كان السقوط.
لذلك … هربوا من الإنتخابات. ولذلك … هم يتمنّون ألاّ تحصل. ومرحبا ديموقراطية. في أثينا كان الإقتراع بالقرعة. لأنّ الإغريق اعتبروا القرعة أكثر ديموقراطية … بمعنى أكثر مساواةً بين الناس … من الإقتراع. حتّى القرن الثامن عشر كانت الديموقراطية ديموقراطية القرعة. أرسطو كان يقول: الآتون بالقرعة هم وجه الديموقراطية. والآتون بالإنتخاب هم وجه الـ أُوليغارشية. مونتيسكو، فيلسوف أنوار الثامن عشر، قال: ألقرعة هي الديموقراطية. والإقتراع هو الأرستوقراطية. خَطَرَ لـ سيغولين رويال بعدما شاركت في 2001 في منتدى بورتو ألّلغري… ميدان الديموقراطية الإسهامية démocratie participative … أن تطلق الفكرة. فلاحقتها النعوت اللائمة من نوع “روبسبييرية تدعو إلى قيام محاكم شعبية على غرار بول بوت أو ماوتسي تونغ”.
في لبنان … لو اختير المنخوبون بالقرعة … ماذا كان تغيّر؟ في النيابة. وفي الوزارة. لو جاء فلان وزير عدل بدل سليم جريصاتي … ماذا كان تغيّر؟ ولو جاء فلان وزير مال مطرح علي حسن خليل… ماذا كان تغيّر؟ والإفتراض يصحّ في تسعين في المئة من الذوات الموجودين!
هكذا عندنا. وهكذا في بلدان الناس. عشيّة الدورة الثانية في الإنتخابات الرئاسية الفرنسية طلعت كلمة Ni Ni . لا المصرفي. ولا الفاشيّة. وكان أحرى أن تطلع الـ Ni Ni في الإنتخابات الأميركية. لا هيلاّري كلينتون. ولا دونالد ترامب. لا الـ إستابلشمانت. ولا المزاجية المَرَضيّة الجاعلة من البيت الأبيض … ومن ساكنه… هُزَأة العالم. واحد من الموتورين الإستبداديين الرائين إلى أنفسهم ممثلاً لـ الله … أستغفر الله! توماس وودرو ويلسن هكذا. مجنون تصوَّر نفسه المخلّص. أبراهام لنكولن، من قبل ، كان مصاباً بالـكآبة. ريتشارد نيكسون كان يحبّ التجسّس على الناس. جون كينيدي كان مهووس جنس مفرط. ليندون جونسون كان يتغزّل بعضوه التناسلي يسمّيه “جونبو”. ومع ذلك تولّى لنكولن حرب الإنفصال. وتولّى كينيدي حكاية صواريخ كوبا. والباقون سجلّوا أنهم ترأّسوا أميركا.
هؤلاء … لو جاء فلان بدلاً منهم بالقرعة، ماذا كان تغيّر؟
كما عندنا كذلك في بلاد الناس.
يبقى القضاء. أنا أطلب له لأستطيع أن أطلب منه. فمن كان قلِقاً على شخصه وأهله لا يقدر على القضاء في الناس.
ألتعامل مع الواقع أسلم من المدرجة إلى التعامل مع الأمر الواقع. لذلك … ألمقاومة ضرورة ما دام عدوّ في فلسطين المحتلّة لا يفهم غير لغة القوّة. إسألوا شارل مالك. واقرأوا كتاباته إلى بشارة الخوري ورياض الصلح. وعن الرؤساء الأميركيين “المتخلّفين” إسألوا إيليزابيت رودينسكو!
لبنان، عند كلّ هزّة، يعود 8 آذار و 14 آذار. وهذا ما عطّل القرار اللبناني. وما يزال!
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 22 – تشرين الأوّل 2017 – السنة الثانية).
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يرجى الإكتفاء بنسخ جزء من الخبر وبما لا يزيد عن 20% من مضمونه، مع ضرورة ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.