خاص”محكمة”:أدبيّات .. سياسيّات .. تاريخيّات/عصام كرم
عصام كرم :
وزير ثقافة فرنسي إسمه جاك أتالي قال: مستقبل الوزير يبدأ عندما يصير وزيراً سابقاً. رشيد درباس كان على موعد مع مستقبله يوم لبس “روب” المحاماة … قبل زمن رحراح من موعده مع “المستقبل”. وكان دوماً متلاقياً مع نفسه. هو هو. لا مركز يغريه. ولا منصب يصعّر خدّه. هي الأصالة. وهي ليست دِيْن معظم المتولّين. رشيد تولّى وظلّ يذكر أصدقاءه. ظلّ قريباً من الناس . كُتُبه الخمسة الجديدة … ومعها سادس … وصلتني يوم سبت. فقضّيْت معها يوم الأحد ينتهي بانتهائي من قراءتي الستّة … ما قاله رشيد. وما قيل في رشيد. كلامي، اليوم، على رشيد درباس الشاعر. مع أن النقيب رشيد حمل المسؤولية متعافياً. الشاعر وجداني. أُفق عريض. ومعرفة عريضة. وفِكْر ظريفٌ لمّاح. وواحة سهلة مَيْثاء. يترافع ويخطب ويكتب والهناءة للِسامعين والقارئين! على أنّه يجافي، أحياناً ، الخليل بن أحمد الفراهيدي واضع أوزان الشعر الخمسة عشر يكمّلها تلميذه الأخفش بالوزن السادس عشر يُسمّى المتدارَك لأنّ الأخفش تَدَارَكُه على أُستاذه الخليل. قرأته معجَباً وكنت نفضت يدي من قراءة آخر كتب جان دور ميسّون “أُوشَعنا ” نشرته بنته إيلوييز بعد وفاته. شؤون الحياة والموت. فضول الإنسان وحيرته لا يعرف الْماقبل ويتحسّر على جهله الْمابعد.
كم تحلو مجالسة أهل الوجدان وسَدَنة الفكر! وكم نرانا في حاجة إلى فراهيدي سياسي محيط… من الإلياذة والأُوديسي إلى مدائن الأنوار. من هوميروس إلى هوبْس… كي لا تتكسّر مقاييس الحياة العامة … لكان حظّر على الحكّام التصلّب حتّى انعدام الرؤية. ولكان قال لهم إنّ التكلّس ليس في أوصاف الحضارة السياسية. ولكان أوصاهم بمحاورة الرافضين. أهل الأثرة عندنا، وفي العالم، لا يحاورن. ألبريكسيت في إنكلترا. والصدريّات الصفراء في فرنسا. وإقفال المكاتب الحكومية في أميركا.
ألحكم … ولا يبرأ من ذلك حكم واحد … حتّى حكم الجنرال ديغول منشىء وزارة الثقافة يجيء بـ أندري مالرو أوّل وزير عليها يُجلسه عن يمينه في جلسات مجلس الوزراء ويحميه من ملاسنات بومبيدو وجيسكار دستان لعِلْمه بأنّهما إنّما يتعرّضان له لأنّهما يتحاشيان التعرّض للجنرال. ويتوالى على الوزارة … وزارة الثقافة … وزراء عاديّون، فلا يُحفظ من أساميهم إلاّ إسم جاك لانغ. لأنّ، في اعتقادي، لا وزارة كبيرة. بل وزير كبير. ولا وزارة سياديّة. بل وزير سيّد. ولا وزارة خدماتية. بل وزير خادم المصلحة العليا … مصلحة الشعب والوطن.
ألحكم، حتّى مع ديغول، لم يعتمد الحوار مع الناقمين البادئين معترضين متمرّدين ثُمَ المنقلبين ثواراً. كلّ ما قاله ديغول بعد 5 أيّار 1968: إصلاح، نعم. فوضى، لا! réforme oui .chienlit,non ! . قال هذا. وعندما اشتدّت الهجمة عليه ذهب إلى ماسّو، قائد الجيش، وكان في بادن بادن. يومذاك … قامت طوّافتان، بعدما تزوّدتا الوقود، إلى وجهة مجهولة. ويعود ديغول من بادن بادن. فتنهض تظاهرات عفوية مويّدة له كما بفعل قَدَر. فيدعو مجلس الوزراء. ويُجري إنتخابات نيابية بحكومة يرئسها جورج بومبيدو. ويعطيه الفرنسيّون كثرة قاربت الـ 65 في المئة. لكنّه، مذذاك، بدأ يتحسّب لـ ما بعد ديغول.
وماكرون لم يحاور. فتّش عن جبهة مقابلة لـ الصدريّات الصفراء لتتواجه الجبهتان فيسلم هو في نتيجة المواجهة من دون جهد.
ألحاكم لا يطيق كلمة الـ لا. عندنا … يجب حصوله على عدد الوزراء الذي يريد. وإلاّ … لا كانت الحكومة. وبوصلة التعطيل التأليفي إيران. كأنّ طهران “أوصت” بتعويم حكومة تصريف الأعمال كي لا يشارك “حزب الله” في الحكومة الآتية … وفي حقيبة وزارة الصحّة بالذات.
أنا لا أُبرىء أحداً. ولا ألوم المتدخلّين، أيّاً كانوا. على أنّي ألوم الحاكمين وأُندّد بهم لأنّهم ينصاعون لـ “نصائح” المتدخلّين.
ألحكم يكره محاورة المعارضين. إيمانويل ماكرون أشاح عن الصدريّات الصفراء. مع أنّ الصدريّات الصفراء هي كلٌّ منا. هي مطالب الشعب. هي غضبة الشعب. وجَع الشعب. ثورة الشعب. نقمة الذين أمسوا ولا شيء يخسرونه لأنّهم فقدوا رجوة شيء يربحونه. الصدريّات الصفراء تعيدنا إلى 1788. أبعد من 1943. ومن 1968. يومذاك … مساء سقوط الباستيل … سأل لويس السادس عشر: هل نحن أمام حركة تمرُّد؟ فأجابه لاروشفوكو: لا، يا سيّدي، إنّها الثورة. و 1968 كانت ثورة. واليوم …هي الثورة يقول ماكرون في رجالها إنّهم يشبهون مزوّري العملة في كتاب أندري جيد. كتاب آخر جديد، صاحبه باتريك رامبو، يقول إنّ ماكرون يسوعي. ويقول إنّ يسوعياً سأل، يوماً، عن الطريق السالك، فجاءه الجواب: هو أمامك. لذلك لن تلقاه. ويستعيد رامبو سيرة إينياس دو لوّيولا، مؤسّس اليسوعية، وكلمته الراعدة كأنّها القضاء: تطيعون كما الجثّة. باسمون قُساة، أليسوعيون. ليّنون سلطويّون. يطلبون السلطة ولا ينالونها … حتّى جاء منهم بابا … هو البابا فرنسيس، الإنفتاحي الطلاّع الداعي إلى بناء جسور التلاقي بدلاً من إقامة حيطان الجفاء.
وكان طبيعياً أن تنشىء الأحداث قادة. ألصدريّات الصفراء قامت بلا قادة وبلا برنامج. فصار لها قادة مثل إيريك درووي، وهو سائق شاحنة. وميسّيليا لودوفيتش. وماكسيم نيكول. ألحَدَث يلدُ القائد. ومرّات … هو، القائد، يصنع الحدث. عبد الناصر صنع الثورة. وإميليانو زاباتا صنع الثورة. بالمرستون كان يصنع الحَدَث. تشرتشل، لا ! كان، هو، مصنوع الحدث. قبل الحرب الكونية الثانية كان يصعب تصوّر ونستون تشرشل رئيس حكومة. حرب 1939 – 1945 صنعته . ثورة 1968 صنعت كوهين بانديت. وثورة الصدريات الصفراء صنعت قادة.
* * *
في زمن التهاوي السياسي والإقتصادي، نظلّ، نحن المحامين، عشيّة مئوية نقابتنا، نستذكر بول هوفلان يلقي أوّل درس قانوني في كلّية الحقوق في بيروت في الشارع الحامل إسمه في أوّل تشرين الثاني 1913. كما نستذكر أنّ البطرك بولس مسعد مهّد لحركة طانيوس شاهين. فلا بَدْع أن يكون البطرك بشارة الراعي دعا إلى لقاء ماروني يصوّب الخطو مستعيداً الحويّك وعريضه في بعض الوقفات والمعوشي. موارنة العقلانية والفَهْم العريض والعمارة الوحدوية العارفين أنّ موقع الموارنة يكبر بالموارنة، لا على حساب الآخرين أصحاب الوجود، مثل الموارنة، في الوطن اللبناني والمحيط العربي والكينونة الدولية، فتظلّ بكركي، بهذا، المرجعية الوطنية الجامعة.
* * *
إستحقّها الموارنة. فمرحى لقمّتهم ومرحى للقمّة العربية بالرغم من أشياء كثيرة. على أن تقرّب هذه القمّة بين المطامح والإنجازات.
(نشر في النسخة الورقية من مجلّة محكمة – العدد 38 – شباط 2019)
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يرجى الإكتفاء بنسخ جزء من الخبر وبما لا يزيد عن 20% من مضمونه، مع ضرورة ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.